هكذا أصبحت بولندا الورقة الرابحة للناتو في مواجهة روسيا | سياسة
برلين – منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وبولندا تعيش حالة من التأهب، لاستقبالها حوالي مليوني لاجئ أوكراني، وكونها مهددة بأن تنجر إلى حرب مع روسيا، إذ إن مشاركة حدود شاسعة مع أوكرانيا (530 كيلومترا) يجعل إمكانية سقوط صواريخ روسية أمرا قائما.
وهذا تخوف حدث بالفعل في عام 2022 حيث سقط صاروخ على الأراضي البولندية، وبعد شكوك واسعة في مصدره، أكد حلف شمال الأطلسي (ناتو) أن الصاروخ أطلقته الدفاعات الأوكرانية وسقط بالخطأ في بولندا.
وغداة اقتراب ذكرى تأسيس حلف الناتو (4 أبريل/نيسان)، أشار رئيس وزراء بولندا دونالد تاسك، إلى أن أوروبا تدخل لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في “حقبة ما قبل الحرب”، لافتا إلى أن الحرب صارت حقيقية، وأن أي سيناريو يمكن أن يحدث.
ولكن لماذا تنظر بولندا بكثير من الحساسية للحرب الروسية الأوكرانية؟ وما دور البلد في حال نشوب حرب؟ وما مدى أهمية بولندا بالنسبة لحلف الناتو؟ أسئلة تقدم إجاباتها نظرة دقيقة حول العلاقة المتطورة بين بولندا من جانب والولايات المتحدة وحلف الناتو وأوروبا من جانب آخر.
لماذا تنظر بولندا بحساسية تاريخية لروسيا؟
في زمن ما، كان هناك ما يسمى بحلف وارسو، نسبة إلى العاصمة البولندية، وهي منظمة عسكرية أسسها الاتحاد السوفياتي عام 1955 ردا على تأسيس الناتو، وتكونت من عدد من دول الكتلة الشرقية، بما فيها آنذاك بولندا، كانت بولندا خلال الحرب الباردة حليفةً للاتحاد السوفياتي، لا سيما في سياق حكم الحزب الشيوعي البولندي، وكانت تسمى جمهورية بولندا الشعبية، لكنها حافظت على استقلالها عن الاتحاد الروسي.
الحساسية بين الجانبين قديمة إذ وقعت حوالي 40 حربا بين روسيا وبولندا على مدار التاريخ، منها حرب ليفونيا (1558-1583)، حينما حاولت روسيا التوسع وضم أراضي ما سمي حينها بليفونيا (حاليا لاتفيا وإستونيا)، واستنجاد حكام هذه المنطقة بحكام الدول المجاورة خصوصا الاتحاد البولندي-الليتواني. وخسرت روسيا في نهاية الحرب أراضي ليفونيا لصالح هذا الاتحاد وكذلك لصالح السويد.
وهناك كذلك الحرب الروسية-البولندية (1654-1667)، التي انتهت بدورها بانتصار البولنديين رغم خسائرهم في البداية، ووقع فيها النزاع حول أوكرانيا بالتحديد، لكن روسيا انتصرت لاحقا في حروب أخرى على بولندا، وأدى ذلك إلى تقسيم بولندا ووقوعها تحت الاحتلال الروسي.
وجرت مواجهات مجددا بينهما في القرن الـ20، لا سيما الحرب التي تلت مباشرة الحرب العالمية الأولى، ودامت سنتين، انتصرت فيها بولندا، كما غزا الاتحاد السوفياتي وألمانيا النازية أراضي بولندا عام 1939 مما أدى إلى تقسيم أراضيها بينهما، فضلا عن مواجهات أخرى خلال الحربين العالميتين، وكذلك نزاعات داخل بولندا لمحاولة التحرر من النفوذ السوفياتي، حتى نجاحهم في ذلك عام 1989.
لماذا بولندا مهمة جدا للناتو؟
لم تسقط أوكرانيا في أيدي الروس كما كان يخطط الرئيس فلاديمير بوتين، لكن لو تحقق المخطط، كانت بولندا لتشكل مكانا لإعادة تجميع القوات الأوكرانية حسب تحليل لصحيفة إيكونوميست، إذ يوجد في أوكرانيا 10 معابر حدودية مع بولندا، استفاد الجنود الأوكرانيون من تدريبات في بولندا بعد اندلاع الحرب، مما يجعل البلد نقطة إستراتيجية مهمة في تجميع وتدريب القوات المناوئة لروسيا، ويمكن أن تصير هذه القوات هي قوات الناتو في حال اتساع رقعة الحرب إلى مواجهة بين روسيا وبلدان الحلف.
تعرف بولندا جيدا أهميتها لحلف الناتو، وظهر هذا في تصريحات قيادييها، ويؤكد موقع “ديفينس نيوز” الأميركي أنه لا يوجد حليف داخل الناتو قام خلال السنوات الماضية بتطوير أنظمته الدفاعية ودعم القوات الأميركية في أوروبا كما فعلت بولندا، التي تخلت عن كثير من السلاح السوفياتي القديم واستبدلته بسلاح غربي متطور، عكس عدد من بلدان أوروبا الشرقية القريبة من روسيا.
أضحى صوت بولندا قويا داخل الناتو، ومن ذلك اعتراضها على إمكانية ترشيح رئيسة الوزراء الدانماركية مته فريدريكسن لمنصب الأمين العام القادم لحلف الناتو (نفت مته الأخبار لاحقا)، وشددت وارسو على اختيار شخصية من دول الجناح الشرقي، وتدعم بولندا رئيسة وزراء إستونيا، كايا كلاس خليفة للنرويجي ينس ستولتنبرغ.
كيف قوّت بولندا ترسانتها العسكرية مؤخرا؟
اتجهت بولندا لتعزيز ترسانتها العسكرية منذ انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا، وكانت هي الزبون الأكبر للسلاح الأميركي خلال عام 2023، بقيمة 30 مليار دولار، وهو رقم غير مسبوق لبولندا من السلاح الأميركي، ومن هذه المشتريات مروحيات أباتشي الجديدة، وأنظمة الصواريخ المدفعية هيماريس، ودبابات أبرامز.
ولم تتوقف بولندا عند السلاح الأميركي، فقد وقعت مؤخرا صفقة ضخمة بقيمة 1.5 مليار يورو لشراء أسلحة متطورة من السويد منها بنادق كارل غوستاف المتطورة المضادة للدبابات، وهي أسلحة استخدمها الجيش الأوكراني ضد القوات الروسية وحققت نجاحا كبيرا.
وأعلنت بولندا أنها ستخصص 4% من ناتجها الإجمالي لشؤون الدفاع عام 2024، وهو رقم مرتفع نسبيا مقارنة مع متوسط دول الاتحاد الأوروبي البالغ 1.7%، لكن بولندا ليست فقط مشترية للسلاح، بل مصنعة له، وصدّرت خلال 2022 حوالي 1.18 مليار يورو من الأسلحة، جلها لدول أوروبية، من أشهر الشركات هناك المجموعة البولندية للأسلحة، المتخصصة في صناعة البنادق الرشاشة غروت (GROT).
كيف تطوّرت العلاقات مع الولايات المتحدة؟
بعد اندلاع الحرب، نشرت الولايات المتحدة فرقة عسكرية في جنوب شرق بولندا لدعم القوات المحلية، وأرسلت دعما جويا سريعا لها، كما أضحت بولندا نقطة تواصل بين أميركا وأوكرانيا، وزارها الرئيس الأميركي جو بايدن في الذكرى الأولى للغزو الروسي.
وأذنت بولندا للولايات المتحدة بافتتاح أول قاعدة عسكرية أميركية دائمة فوق أراضيها، وتحديدا في مدينة بوزنان، غربي بولندا، بعدما كان الوجود العسكري الأميركي في البلد محصورا في مجموعة للدعم تتكون من بضعة آلاف من الجنود، وهي القاعدة العسكرية الأميركية الدائمة الأولى في بلد له حدود مع أوكرانيا.
وغير بعيد عن القاعدة، وتحديدا في بلدة بويدز، افتتحت واشنطن والناتو مجمعا لتخزين وصيانة المعدات العسكرية، كما بدأت بولندا بناء قاعدة أميركية للدفاع الجوي الصاروخي في شمال البلاد عام 2016، وهي جزء من دفاع صاروخي للناتو موجود في عدة بلدان منها تركيا وإسبانيا ورومانيا.
كيف دعّمت بولندا أوكرانيا؟
تحوّلت بولندا إلى جسر لإيصال الكثير من الأسلحة التي قدمتها دول في الناتو إلى أوكرانيا، كما كانت أول دولة في الحلف تعلن بشكل رسمي تقديم طائرات مقاتلة إلى أوكرانيا بعد بداية الحرب، ويتعلق الأمر بمقاتلات (ميغ 29)، في وقت كان فيه الدعم العسكري لحلف الناتو خجولا.
وضغطت وارسو كذلك على ألمانيا لأجل إرسال دبابات ليوبارد 2 إلى أوكرانيا بعدما كانت برلين مترددة في ذلك، لكن بولندا توقفت في الربع الأخير من عام 2023 عن تصدير الأسلحة لأوكرانيا في سياق خلافات بين البلدين.
ويشير تحليل لمؤسسة الأبحاث الأميركية “المجلس الأطلسي”، أن القيادة البولندية عملت على “صياغة روابط غير مسبوقة بين الشعبين البولندي والأوكراني”، وذلك رغم الخلافات التاريخية، وأن البلدين وجدتا أنفسهما في اتحاد “أمام التهديد الوجودي القادم من روسيا”.