اللغة العربية في بوركينا فاسو.. إرث التاريخ وتحديات الحاضر | ثقافة
رغم أن جذور اللغة العربية في بوركينافاسو تعود إلى عدة قرون، فإن اللغة الفرنسية هيمنت طيلة عقود، بتأثير من الاستعمار، على التعليم والإدارة في البلد الأفريقي الذي يمثل المسلمون حاليا أغلبية سكانه، وفرض هذا الواقع هيمنة ثقافية على حساب الناطقين والمتعلمين باللغة العربية في بوركينا فاسو.
ومع عودة خطاب التحرر من آثار الاستعمار الفرنسي -الذي دام لأكثر من 6 عقود- إلى تصدّر الواجهة في معظم دول الساحل بمنطقة غرب أفريقيا، بما فيها بوركينا فاسو، وتوجه السلطات لإلغاء اعتماد الفرنسية لغة رسمية والإبقاء عليها فقط لغةَ عمل، وترسيم اللغات المحلية، تبرز من جديد مسألة اللغة العربية في بوركينا فاسو.
جذور تاريخية
ارتبط انتشار اللغة العربية في منطقة غرب أفريقيا بدخول الإسلام وانتشاره، وأسهم هذا الانتشار في ترسيخ الثقافة العربية عن طريق التعليم الديني الذي اكتسب صيغة الإرث المعرفي المتناقل عبر الأجيال.
ويرى الباحث في مجال التاريخ ابّهاه عبد الله بوداديه أن بوركينا فاسو كانت تاريخيا “ضمن نطاق السودان الغربي وبالتالي فهي منطقة تتأثر بما يتأثر به الإقليم”، مضيفا أن “الإسلام دخل إلى منطقة غرب أفريقيا عموما خلال القرن الثاني الهجري”.
ويؤكد الباحث أن “بعض الدراسات تذكر تأخر دخول الإسلام إلى بوركينا فاسو خصوصا إلى حدود القرن الخامس الهجري عن طريق التجارة عبر الصحراء، حيث إن التاجر كان يجمع بين سلعته والدعوة لدينه، وبالتالي فإن احتكاك التجار بالطبقة النافذة جعل الإسلام نخبويا، كما ذكر السعدي والبكري وابن خلدون”.
وبخصوص العوامل التي أسهمت في انتشار اللغة والثقافة العربية في المنطقة، يرى بوداديه أن منطقة الغرب الأفريقي “لم تشهد التدوين إلا متأخرا، فثقافة المنطقة قائمة بالأساس على الثقافة الشفوية والتلقينية”، لافتا إلى أن هذا المعطى يجعل من الصعب تحديد تاريخ “انتشار الثقافة العربية فيها وهي ثقافة كانت مصاحبة فعلا لدخول الإسلام وإن كانت القوافل الشريان أو الجسر الذي عبرت من خلاله هذه الثقافة لتنتشر في عموم المنطقة”.
ويضيف أن “من العوامل التي ساهمت في نشر الثقافة العربية والإسلامية انتشار الطرق الصوفية، التي توغل مشايخها في المنطقة، بالإضافة إلى نزوح بعض التجار الذين استقروا نتيجة طبيعة عملهم التجاري وكذا وفود القبائل العربية كبني هلال وبني سليم وبني معقل إلى موريتانيا التي تعد بوابة غرب أفريقيا”.
تأثير الاستعمار
وفي إطار سياستها الاستعمارية في بلدان أفريقية أخرى، تبنت فرنسا في حقبة استعمارها بوركينا فاسو سياسة تعتمد على ترسيخ اللغة والثقافة الفرنسية، لا سيما في مؤسسات التعليم والإدارة، في مقابل تهميش اللغات المحلية، ومحاولة إحكام السيطرة على تعليم اللغة العربية ومراقبته.
واعتمد تعليم اللغة العربية في بوركينا فاسو قبل الاستعمار الفرنسي على المدارس الدينية التقليدية، وبحلول منتصف الخمسينيات من القرن الماضي بدأ إنشاء المدارس الحديثة لتعليم العلوم الشرعية واللغوية.
وقد بدأت المطالبات بإضفاء الطابع الرسمي على تعليم اللغة العربية في بوركينا فاسو مبكرا، حيث تمت المطالبة في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين بإدراج العربية مادةً دراسية في مناهج التعليم الثانوي، إلى جانب المطالبة بالاعتراف بالمدارس العربية وتطويرها.
وتشير إحصائيات إلى أن عدد المدارس العربية في بوركينا فاسو بلغ في السنوات الأخيرة أكثر من 2500 مدرسة، تمثل نسبة 70% من مجمل المدارس الخاصة في البلاد، ونسبة 25% من مجمل المدارس الابتدائية.
تحديات مستمرة
ويعتبر الباحث في مجال التاريخ بوداديه أن من أبرز التحديات التي واجهت انتشار اللغة العربية في بوركينا فاسو ومنطقة غرب أفريقيا تاريخيا أن هذه المنطقة “كانت قصية عن العالم الإسلامي وأسهمت الظروف الطبيعية والمناخية في تأخر انتشار الإسلام والثقافة العربية فيها”.
ويظهر أن هذا التحدي ما يزال قائما بصيغة أو أخرى؛ فضعف التواصل الثقافي بين منطقة العالم العربي ومنطقة غرب أفريقيا، يسهم في تراجع تأثير اللغة العربية على الثقافة والمجتمع في دول هذه المنطقة.
وينضاف إلى هذا التحدي تحد آخر يتمثل في غياب الاعتراف الرسمي ببعض المدارس العربية، حيث تشير إحصائيات إلى أن نحو 55% من المدارس العربية في بوركينا فاسو لا تحظى باعتراف الوازرة المشرفة على التعليم.
مرحلة جديدة
ويفتح مسعى إحلال اللغات المحلية في بوركينا فاسو محل اللغة الفرنسية باعتبارها لغة رسمية، والإبقاء على الأخيرة لغةَ عمل فقط، البابَ أمام تراجع نفوذ وهيمنة الفرنسية على التعليم والإدارة، مما يعني فرصة كبرى أمام اللغة العربية لحضور أكثر فاعلية داخل المجتمع البوركينابي، خاصة أنها لغة تتكئ على تراكم تاريخي راسخ عبر القرون.
ويأتي مسعى بوركينا فاسو فيما يتعلق بإلغاء رسمية اللغة الفرنسية بعد قرار مماثل اعتمدته جارتها مالي في دستورها الجديد، مما يؤشر على مرحلة جديدة من تراجع نفوذ الثقافة واللغة الفرنسية في بعض المستعمرات الفرنسية السابقة بمنطقة الساحل الأفريقي.
وتبقى فرصة تعزيز حضور اللغة العربية في بوركينا فاسو محكومة بشرط وجود توجه رسمي لإعادة الاعتبار للغة التي تمثل الحاضنة المعرفية للإسلام الذي يدين به أغلب سكان البلاد، ووجود جهد ثقافي يدفع باتجاه تنبي هذا المسعى.