مسار إجباري.. مسلسل يغرد خارج سرب الاعتياد والتكرار | فن
تحتشد صور النجوم على اللوحات الإعلانية بأحجام عملاقة لا تدع مجالا لقراءة عنوان العمل الرمضاني، الذي تُعلن عنه، كما لو أنه كلما كبر الحجم الذي يحتله الممثل على أفيش العمل تزيد موهبته أو شهرته، لكن صورة لشابين عاديين بلا عضلات مفتولة أو أعين غاضبة، تظهر في خلفية لوحة إعلانية لمسلسل “مسار إجباري”.
شابان استطاعا تحقيق نجاحات تلفزيونية كبيرة مؤخرا، أحدهما بقائمة قصيرة من الأعمال ولكنه وصل إلى قاعدة شعبية عريضة وهو “عصام عمر” بعد مسلسله الناجح “بالطو”، والثاني “أحمد داش” الذي عرفه الجمهور طفلا لينضج ويصبح أحد أشهر ممثلي جيله ومن أكثرهم تنوعا في أدواره.
مسلسل “مسار إجباري” من إخراج “نادين خان”، مع معالجة درامية لـ”باهر دويدار” وسيناريو “أمين جمال” وبطولة “عصام عمر” و”أحمد داش” و”بسمة” و”صابرين” و”رشدي الشامي” ويتكون من 15 حلقة.
بعيدا عن الأنواع الدرامية الشائعة
يبتعد مسلسل “مسار إجباري” عن الأنواع الدرامية الشائعة بين مسلسلات رمضان 2024، فهو ليس كوميديا، ولا تدور أحداثه حول غدر الأصدقاء والأهل والانتقام في حارة شعبية، بل يمكن اعتباره كشفا خاصا للطبقة الوسطى بما تحمله من تناقضاتها الخاصة، ويستعرض عائلتين من هذه الطبقة تتشاركان رغما عن أنفيهما أبا واحدا.
يبدأ المسلسل بمشاهد قصيرة تشبه الإعلانات التلفزيونية لأحد المجمعات السكنية الحديثة، عائلة صغيرة من أب وأم وطفلة يتضاحكون في ضوء الشمس الغاربة التي تُضفي ألقا ذهبيا على سعادتهم، صورة مثالية للأسرة، تكسرها في اللقطة التالية فتاة يُلقى بها من أعلى بناية لتقع الجثة وتتفتت هذه السعادة.
لا نرى أفراد الأسرة هذه مرة أخرى، فهم ليسوا سوى مفتتح للعمل، الذي يخبرنا منذ لحظاته الأولى أن لدينا جريمة، وهذه الجريمة متصلة بسعادة أسرة ما، وقادرة على تفكيك أواصرها كما حدث عندما يدفع رب هذه الأسرة ابنته وزوجته جانبا حتى لا يريان الفتاة المفتتة العظام الملقاة على الأرض، فينكسر سحر هذه اللحظة بشكل آني.
تقود المشاهد التالية المتفرج إلى دار القضاء العالي، حيث تجري محاكمة للمتهم في قتل الفتاة الملقاة من أعلى البناية، ويحكم القاضي بالإعدام على المتهم، ويسقط أحد الحاضرين أرضا ويتم نقله للمستشفى.
يستمر المسلسل في التأسيس لحبكته، فنشاهد على التوازي عائلتين، لكل منهما أم حنون، إحداهما بابن واحد وهو “حسين” أو “أحمد داش”، وأخرى لديها 3 أبناء، أكبرهم “علي” ويقدم دوره “عصام عمر”، يتلقى كل من الشابين مكالمة هاتفية تخبره أن والده مصاب بأزمة قلبية وفي أحد المستشفيات، وأمام غرفة المريض يكتشفان أنهما إخوة من أب واحد أخفى حقيقة وجودهما عن بعضها البعض.
تلك المفاجأة الأولى التي يفجرها الأب “عمر البرنس”، غير أنها ليست الوحيدة، فيعلم ابناه أنه متورط مع عصابة تقف خلف إلقاء الفتاة بالمشهد الأول من أعلى البناية، وقد زور تقرير الطب الشرعي بعد حصوله على رشوة، ويندم على ما اقترفه وينوي ما إن يخرج من المستشفى التوجه للنيابة لإظهار براءة المتهم الذي حُكم عليه بالإعدام، وإلى هنا تنتهي رحلة الأب، الذي يتم قتله قبل نهاية الحلقة، ليترك لولديه إرثا عبارة عن مجموعة من الأسرار وعصابة قاتلة وحقيقة يجب كشفها بأقل خسائر ممكنة.
وبينما يحاول “علي” و”حسين” حل اللغز، والبحث عن الدليل الذي يثبت براءة المتهم، يكتشف كل منهما أهمية الآخر في حياته، وتبدأ علاقة من الإخوة، التي على الرغم من نشوئها من العدم فإنها حقيقية في كل تفاصيلها.
نادين خان والولع بالطبقة الوسطى
انطلقت مسيرة “نادين خان” من المسلسل الاجتماعي الواقعي “سابع جار” والذي قدم على مدار 60 حلقة القصص اليومية الاعتيادية لسكان إحدى البنايات بالقاهرة، وانتقلت بعد ذلك إلى عدة مسلسلات تلفزيونية وفيلم سينمائي وحيد هو “أبو صدام”، يمكن ملاحظة سمتين في أعمال المخرجة، أولاهما تركيزها على قصص الطبقة الوسطى -ما عدا “أبو صدام”-، بينما الثانية اهتمامها الخاص بقصص أبطالها من الشباب.
يؤكد مسلسل “مسار إجباري” على هاتين السمتين، بل يُعتبرا أفضل مميزاته، فبينما يبدو لأول وهلة صراعا تقليديا بين الخير والشر، الفساد والصلاح، فإن هذا الجانب هو أكثر تفاصيله تواضعا، وقد اتخذت الشخصيات الشريرة نمط الشدة التقليدية، سواء من حيث المظهر أو البناء وانعكس ذلك على الحوار الخاص بهم، وينطبق ذلك على كل من المحامي “مجدي حشيش” وزوجة المتهم اللعوب “سناء” و”سعد” الذراع القاتلة لـ”مجدي”.
على الجانب الآخر، فإن عامل الجذب الحقيقي هو العلاقة الناشئة بين “حسين” و”علي” ووالدة كل منهما والأخرى، والفروقات الواضحة بين أسرة كل منهما على الرغم من أن كلاهما ينتمي للطبقة ذاتها، ليوضح المسلسل الاختلافات التي تكمن حتى بين أبناء الطبقة الواحدة نتيجة لعوامل مثل تعليم الأم، ومكان العيش، والميول الشخصية، فبينما تقترب عائلة إحسان الزوجة الأولى والمعلمة في إحدى المدارس من حدود الطبقة الوسطى العليا، تقف “عنايات” أو “نعناعة” كما تفضل على الحدود بين الطبقة الوسطى والدنيا، سواء من حيث طريقة ارتدائها لملابسها أو مفرادتها اللغوية، غير أن هذا التباين لم يقلل من الدفء أو الود النامي بين كل منهما.
استخدمت “نادين خان” أدواتها كمخرجة وعلى رأسها التصوير وتأطير ممثليها داخل الكادرات لتعزيز هذا الطابع الحميمي الذي يجمع الشخصيات، ويمكن ملاحظة ذلك في كل المشاهد التي تجمع بين البطلين على الأريكة في مغسلة السيارات التي يجتمعان فيها للتداول والتخطيط، ومشاهد كل من “علي” و”حسين” في منزلهما ومع والدتيهما على وجه الخصوص.
هذا إلى جانب حسن توجيه الممثلين، فنشاهد “عصام عمر” بعيدا عن الكوميديا التي عُرف بها في مسلسله “بالطو” بينما يخرج “أحمد داش” من عباءة الشاب الجامعي الذي ينتمي للطبقة الوسطى العليا كما قدمته “نادين خان” نفسها في مسلسل “مين قال؟!” منذ عامين.
يغرد مسلسل “مسار إجباري” خارج السرب، لا يقدم لمشاهديه مغامرة يعلمون نهايتها من قبل بدئها، ويراهن على موهبة أبطاله وليس فقط أسمائهم الرنانة، عمل يمكنه حتى إزالة الصراع التقليدي بين الخير والشر من حبكته ليقدم قصة أخوين يبنيان علاقتهما من الصفر مليئة بالدفء والرقة والتمثيل الممتاز.