ربيع دمشق.. “العقد الضائع” الذي سبق الثورة السورية | الموسوعة
بدأ ما يعرف بـ”ربيع دمشق” بعد وفاة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد وتسلم ابنه بشار الأسد مقاليد الحكم منتصف يوليو/تموز 2000، وشهدت سوريا بعضا من “التحرر السياسي”، وعلت أصوات كثيرة مطالبة بإصلاحات قضائية وقانونية واقتصادية، وشكّل ذلك بداية “صحوة سياسية” في البلاد، لكنها قوبلت من النظام السوري بسلسلة اعتقالات وحملة قمع استهدفت كثيرين من رموز هذا الحراك، ويعتبر المتتبعون أن ذلك كان من المقدمات التي قادت إلى إشعال فتيل الثورة السورية عام 2011.
ومنذ بداية “ربيع دمشق” وحتى فبراير/شباط 2001 شهدت سوريا تغيرات نسبية، مع وجود منسوب من حرية التعبير وإنشاء منتديات سياسية غير رسمية، لكنها ما لبثت أن أغلقت بعد توقيف 10 معارضين للنظام، فانتهى “الربيع” خلال 7 أشهر، ووصفت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تلك الفترة وما لحقها بـ”العقد الضائع”.
بداية الربيع و”بيان الـ99″
ساهمت كلمة بشار الأسد التي ألقاها فور تقلده الرئاسة بنشر أمل في أوساط المعارضة بإمكانية تحسين أوضاع البلاد التي ورثها عن أبيه في بلد نظامه السياسي جمهوري برلماني، إذ قال إن “الديمقراطية واجب علينا تجاه الآخرين قبل أن تكون حقا لنا”.
بعد هذا الخطاب نشر رياض الترك مقالات عدة كتب في واحد منها “من غير الممكن أن تظل سوريا مملكة الصمت”، وأرسل المفكر السوري أنطون مقدسي إلى بشار عبر صحيفة الحياة في أغسطس/آب 2000 تهنئة له بتوليه الرئاسة وتذكيرا له بما قاله في خطابه عن احترام الرأي الآخر وإعلاء مفهوم الدولة على الزعامة.
ومما ذكره في رسالته “سيدي، اسمح لي أن أهنئك بالرئاسة الأولى، وأيضا بكلمات وردت في بيانك، حقا واعدة (..) إنها بداية لدرب طويل إذا سلكناه يمكن أن ننتقل تدريجيا من البداوة والحكم العشائري إلى حكم القانون”، لكنه وبسبب هذه الرسالة أقيل من وظيفته التي شغلها منذ ستينيات القرن الـ20 في وزارة الثقافة.
ومن ثم بدأت جماعة من المفكرين والمثقفين السوريين بالاجتماع وتدارس أوضاع البلاد، وممن بدأ على أيديهم “ربيع دمشق” الصحفي ميشيل كيلو والسياسي رياض سيف الذي أنشأ في منزله “منتدى الحوار الوطني”.
وانتشرت منتديات (صالونات) سياسية غير رسمية عقدت لفتح النقاش بشأن القضايا السياسية في البلاد وقضايا المجتمع المدني والإصلاحات حتى قيل إنه لم تبق بلدة ولا حي إلا ونادى مثقفوها بإنشاء منتدى، وأشيع أن عددها وصل نحو 170.
ومن أبرزها منتدى “جمال الأتاسي” وأنشأته سهير الأتاسي على اسم والدها المعارض، ومن داخل هذه الصالونات ظهرت المطالب بإصلاح سياسي وقضائي.
وقد قال المدير السابق للأمن الداخلي بهجت سليمان عن هذه المنتديات -التي أشار إلى معرفة الدولة بها وبمحتوياتها- إن “أغلبية ما تسمى منظمات المجتمع المدني ما هي إلا وسيلة وغطاء لأنشطة المنظمات الماسونية العالمية أو مرتبطة بأندية الروتاري التي يتحكم بها اليهود بقصد السيطرة على العالم”.
وكانت البداية الرسمية لظهور المطالب بـ”بيان الـ99″ الذي وقعه مثقفون وفنانون يوم 27 سبتمبر/أيلول 2000، أي بعد شهرين من خطاب بشار، وطالبوا فيه بالتعددية السياسية والفكرية، وإطلاق الحريات العامة، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإلغاء حالة الطوارئ التي أعلنت منذ عام 1963.
تلاه “بيان الـ1000” في يناير/كانون الثاني 2001، وفيه أصر الموقعون على المطالب السابقة، وطالبوا بديمقراطية تعددية حزبية، ورفع حالة الطوارئ المفروضة في البلاد.
وصدر بيان آخر من جماعة من المحامين السوريين طالبوا فيه بمراجعة دستورية شاملة، وإلغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية وإطلاق الحريات العامة.
تدابير إصلاحية
لم يعترف النظام بالبيانات رسميا، لكن البلاد بدأت تلاحظ سلسلة تدابير إصلاحية في الأشهر الأولى من تولي بشار سدة الحكم، تلا ذلك إعلان عدد من قرارات العفو وإطلاق سراح المئات من السجناء السياسيين بعد إغلاق سجن المزة في نوفمبر/تشرين الثاني 2001.
في تلك الفترة عادت كثير من المنظمات الحقوقية للظهور، وتأسست أخرى بالتوازي مع خطوات الحكومة للإصلاح، ولم تمنع السلطات منظمات المجتمع المدني ولم تقف أمام انتشارها، عكس توجهاتها السابقة أيام حافظ الأسد.
رويدا رويدا بدأت الصحف المؤيدة للنظام بالانتشار والرد على مقالات الصحفيين المعارضين، ولإحكام قبضته سمح للأحزاب الستة المكونة للجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة (يقودها حزب البعث العربي الاشتراكي) بفتح مكاتب إقليمية وإصدار صحف خاصة بها.
وصرح وزير الإعلام السوري حينها عدنان عمران بأن “دعاة المجتمع المدني استعمار جديد”، وقال عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري آنذاك “لن نسمح بتحويل سوريا إلى جزائر أو يوغسلافيا أخرى”.
ربيع لم يكتمل
بدأت الإصلاحات الطفيفة تختفي وباسم الوحدة الوطنية والاستقرار أوقفت حركة المعارضة، وفي فبراير/شباط 2001 أغلقت المنتديات السياسية قسرا فبقي من أصل 70 اثنان فقط، واشترط لفتح واحد منها تصريح رسمي وإجراءات تعسفية شبه مستحيلة، واعتقل رياض سيف ورياض الترك ومأمون الحمصي وعارف دليلة مع آخرين، ووجهت إليهم تهمة “محاولة تغيير الدستور بوسائل غير مشروعة”.
وكان سيف قد اعتقل بعد أن نشر دراسة عن “مشروع للهاتف المحمول” في سوريا أشار فيها إلى “ضياع 7 مليارات دولار على الدولة السورية”، فاعتقل حينها وتمت الصفقة وباع بشار الشركتين إلى ابن خاله رامي مخلوف بثمن يعادل 10% من قيمتها الفعلية.
وصرح بشار في منتصف مارس/آذار بأن في سوريا “أسسا لا يمكن المساس بها، قوامها مصالح الشعب وأهدافه الوطنية والقومية والوحدة الوطنية، ونهج القائد الخالد حافظ الأسد والقوات المسلحة”.
بدأ النظام السوري سلسلة اعتقالات واسعة طالت معارضين كثرا، وشنت الحكومة حملة قمع ضد الموقعين على البيان، وزادت رقابة الدولة على المواطنين وضيق الجيش الخناق وقمع المعارضين في محاولة لوقف الحراك الشعبي.
وفي منتصف أبريل/نيسان صدرت الوثيقة الثانية “للجان إحياء المجتمع المدني” تحت عنوان “توافقات وطنية عامة”، تلاها بيان جمع 185 مثقفا ومبعدا تضامنوا فيها مع البيانات الصادرة داخل سوريا، وطالبوا بإطلاق الحريات العامة، والسماح بعودة المبعدين.
وردَّ وزير الدفاع السوري السابق مصطفى طلاس على البيانات قائلا “إننا أصحاب حق، ولن نقبل بأن ينتزع أحد منا السلطة لأنها تنبع من فوهة بندقية ونحن أصحابها، لقد قمنا بحركات عسكرية متعددة، ودفعنا دماءنا من أجل السلطة”.
وفي صيف 2002 أطلقت الحكومة حملة إعلامية ركزت على دعاوى إصلاح “الاقتصاد” متجاهلة باقي الزوايا، ورافقت ذلك سلسلة اعتقالات لم تتوقف مع تهديدات بالاعتقال القسري للمعارضين، مما أطفأ “ربيع دمشق” سريعا وخمدت الأصوات وتفككت “حركة المعارضة”.
ما بعد الربيع.. إعلان دمشق
يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 2005 أطلقت المعارضة السورية “إعلان دمشق”، وهو وثيقة وقعت عليها قوى سياسية وشخصيات مدنية معارضة للنظام، بينها موقعون على البيانين السابقين.
دعت القوى في الإعلان إلى إنهاء حكم الأسد وإقامة نظام ديمقراطي تعددي مع رفع حالة الطوارئ، وإلى “انتقال تدريجي وسلمي إلى الديمقراطية والمساواة بين جميع المواطنين في سوريا علمانية وذات سيادة”، وذلك في أول بيان معارض واضح يستهدف حكم الأسد مباشرة، وبسببه اعتقل كثير منهم مثل سهير الأتاسي ورياض سيف للمرة الثانية.
وشملت قائمة الهيئات الموقعة على البيان التجمع الوطني الديمقراطي وجماعة الإخوان المسلمين وجماعات من الأقليات من الأكراد والآشوريين وأفرادا بارزين في حركة “ربيع دمشق”.
واجه هذا التكتل المعارض إشكالا في التوفيق بين مطالب اليساريين والعلمانيين والإسلاميين، فاستمرت الانقسامات داخله أواخر عام 2007 حتى انسحبت جماعة الإخوان المسلمين منه لانضمام جبهة الخلاص الوطني بزعامة عبد الحليم خدام الذي انشق عن النظام عام 2006.
وانقسمت المعارضة إلى شقين، الأول حوى الفصائل اليسارية والقومية، والآخر ضم الجناح الإسلامي المعارض وشخصيات من حراك “ربيع دمشق”، منهم رياض سيف ورياض الترك اللذان اعتقلهما النظام بعدها بأسابيع مع 10 آخرين من المؤسسين لإعلان دمشق.
استمرت المعارك على زعامة المعارضة، فشلّ التحالف وتشتت في تحالفات أخرى جديدة، ومن زعاماته من غادرت إلى المنفى، وعام 2009 أعلن عن قياديين جدد في الخارج.
وكان مما نادى به الإعلان إسقاط النظام ورفض الحوار معه والمساواة والحرية، خاصة في ما يخص الأقليات، كما دعا إلى “دولة علمانية تعترف بالإسلام بوصفه العنصر الثقافي الأبرز”، وتحرير هضبة الجولان، وتصحيح العلاقات مع لبنان التي توترت عامها، خاصة مع ثورة الأرز.
استمر النظام في التضييق على المعارضين، ومارس أشكالا كثيرة من القمع بداية من الاعتقالات القسرية والتعسفية والمنع من السفر ومنع المظاهرات، وصولا إلى القتل، فأشعل ذلك أزمة جديدة بداية عام 2011، فبدأت الثورة السورية التي راح ضحيتها أكثر من 230 ألف مدني، بينهم أكثر من 15 ألفا قتلوا تحت التعذيب، إضافة إلى اختفاء واعتقال نحو 155 ألف شخص وتشريد قرابة 14 مليون سوري، حسب ما أعلنته الشبكة السورية لحقوق الإنسان.