كيف تعتبر الرقابة العنصر المكمل والحاسم في الإبادة الجماعيّة؟ | سياسة
امع استمرار الإبادة الجماعيّة بلا هوادة في غزّة، تقع على عاتقنا جميعًا مسؤولية إدراج “فلسطين” و”الفلسطينيين” في كل محادثة.
في الشهر الماضي، اشتكى الكاتب والصحفي هوارد إريك جاكوبسون، في برنامج “نيوزنايت” (News night) الإخباري الرئيسي لهيئة الإذاعة البريطانية، من أنّ هيئة الإذاعة العامة البريطانية تعرض الكثير من صور معاناة الفلسطينيين في غزة.
وأضاف أنه من خلال بث المعاناة الفلسطينية على شاشة التلفزيون بهذه الطريقة؛ فإن هيئة الإذاعة البريطانية “تنحاز إلى جانب”، وأنه بينما كان “من المؤلم رؤية ما يحدث، فهناك أسباب لذلك”.
ولم يكن هذا هو التعبير الأول عن هذا الشعور. فقبل بضعة أسابيع، كانت هناك مناقشة جارية على منصة الشبكات المهنية “لينكد إن” حول ما إذا كان هناك “عدد كبير جدًا من المنشورات المتعلقة بإسرائيل وفلسطين” على الموقع، وما إذا كان ينبغي تغيير ذلك. وأجاب الكثيرون بأنه ينبغي ذلك، فقد أرادوا أن يتوقف الناس عن الحديث عن تجويع الفلسطينيين وقصفهم ودفنهم تحت الأنقاض.
قد يبدو من الغريب أن يعترف أشخاص مثل جاكوبسون بالمستويات الهائلة للمعاناة في غزة، لكنهم في نفس الوقت يطالبون العالم بأن يسمع القليل عنها. ولكن هذا ليس مفاجئًا على الإطلاق؛ فلقد كانت الرقابة دائمًا مكملًا ضروريًا للإبادة الجماعية. ومع استمرار الإبادة الجماعية في غزة، اتخذت الجهود المبذولة لإسكات أولئك الذين سعوا إلى دقّ ناقوس الخطر أشكالًا مختلفة.
في نوفمبر/ تشرين الثاني في الولايات المتحدة، قامت جامعة أريزونا “باستبدال مؤقت” للأستاذة المساعدة ريبيكا لوبيز ومنسقة الاتصال المجتمعي ريبيكا زابيان لقيامهما بتيسير مناقشة في الفصل الدراسي حول الحرب الإسرائيلية على غزة
لقد قيل وكُتب الكثير عن رفض إسرائيل السماح للصحفيين الأجانب بالدخول بحرية إلى غزة لتغطية الإبادة الجماعية وهجماتها التي تستهدف الصحفيين الفلسطينيين، هناك الذين يخاطرون بحياتهم وأطرافهم ليُظهروا للعالم حقيقة ما يحدث لشعبهم، حتى إنّ الصحفيين الذين يبعدون آلاف الأميال عن القطاع الفلسطيني عوقبوا لجرأتهم على الحديث عن الإبادة الجماعية.
ففي ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قامت هيئة الإذاعة الأسترالية “إيه بي سي” بفصل المذيعة أنطوانيت لطوف؛ بسبب إعادة نشر منشور لمنظمة هيومن رايتس ووتش يرى أن “إسرائيل تستخدم المجاعة كسلاح حرب في غزة”. وقد نشرت شبكة “إيه بي سي” نفسها تقريرًا عن ادعاء هيومن رايتس ووتش، والذي كررته الأمم المتحدة منذ ذلك الحين.
وتقول لطوف – التي يُعتقد أنها أول امرأة عربية أسترالية تعمل مراسلة في تلفزيون تجاري – إنها تخشى أن تتراجع قناة “إيه بي سي” تحت ضغط الجماعات المؤيدة لإسرائيل التي تتهمها بـ “معاداة السامية والتحيز”؛ بسبب دعمها الحقوق الفلسطينية وانتقادها إسرائيل منذ تعيينها لأول مرة، ولقد رفعت دعوى قضائية ضد “إيه بي سي”؛ بسبب الفصل التعسفي.
وطوال هذه الإبادة الجماعية، تم أيضًا إسكات المعلمين وأساتذة الجامعات في جميع أنحاء العالم الذين حاولوا التضامن مع الفلسطينيين. فلقد طُرد مدرس إسرائيلي من وظيفته، وتم اعتقاله ووضعه في الحبس الانفرادي لانتقاده تصرفات الجيش الإسرائيلي.
وكانت “جريمة” مائير باروتشين الوحيدة هي منشوره على فيسبوك في اليوم التالي لهجوم حماس على إسرائيل والذي قال فيه: “الصور المروعة تتدفق من غزة. لقد تم القضاء على عائلات بأكملها… أي شخص يعتقد أن هذا له ما يبرره بسبب ما حدث بالأمس، عليه أن يتخلى عن صداقته. أطلب من الجميع أن يفعلوا كل ما هو ممكن لوقف هذا الجنون. أوقفوه الآن. ليس لاحقًا، الآن!!”
وفي وقت سابق من هذا الشهر، أوقفت الجامعة العبرية في القدس أستاذة القانون نادرة شلهوب كيفوركيان، وهي مواطنة فلسطينية في إسرائيل؛ بسبب انتقادها حربَ إسرائيل على غزة والصهيونية بشكل عام.
ولم يقتصر إسكات المعلمين والمحاضرين الجامعيين على إسرائيل أيضًا. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني في الولايات المتحدة، قامت جامعة أريزونا “باستبدال مؤقت” للأستاذة المساعدة ريبيكا لوبيز ومنسقة الاتصال المجتمعي ريبيكا زابيان لقيامهما بتيسير مناقشة في الفصل الدراسي حول الحرب الإسرائيلية على غزة.
وزعمت الجماعات المؤيدة لإسرائيل أن محاضرتهما كانت “متحيزة ومعادية للسامية وكاذبة بشكل صارخ وداعمة للإرهاب”. كما تم وضع اثنين من معلمي الصف الأول في مدرسة عامة مستقلة بمنطقة لوس أنجلوس في إجازة بعد نشرهما على وسائل التواصل الاجتماعي منشورًا حول درس قاما بتدريسه حول “الإبادة الجماعية في فلسطين”.
كما أن السياسيين وموظفي الخدمة المدنية، في إسرائيل وفي البلدان التي تدعم حرب إسرائيل على غزة، ليسوا محصنين ضد مثل هذه الرقابة. وفي يناير/ كانون الثاني، أعلن عوفر كاسيف، عضو الكنيست الإسرائيلي من حزب “الجبهة للتغيير” اليساري، عن نيته الانضمام إلى جنوب أفريقيا في إجراءاتها القانونية ضد إسرائيل بموجب اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية. وردًا على قرار كاسيف بدعم قضية الإبادة الجماعية في جنوب أفريقيا، اتهمه 85 عضوًا في البرلمان الإسرائيلي (من أصل 120) بـ “الخيانة” ووقّعوا على عريضة لطرده من الكنيست.
وعلى الجانب الآخر من العالم، في كندا، اضطرت سارة جاما، وهي عضو في برلمان مقاطعة أونتاريو، إلى الاعتذار عن بيان أدلت به في أعقاب هجوم حماس على إسرائيل في أكتوبر/ تشرين الأول؛ حيث دعت إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي والفصل العنصري. وقد جاء اعتذار جاما بعد أن دعا رئيس وزراء أونتاريو دوغ فورد إلى استقالتها.
وتم فصل مدير الأداء التنظيمي والعدالة لمدينة إيفانستون بولاية إلينوي في الولايات المتحدة بعد أن أعرب عن تعاطفه مع الفلسطينيين في غزة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي يناير/ كانون الثاني، رفع ليام بيرد دعوى قضائية فدرالية ضد صاحب عمله السابق. وتدعي الدعوى أيضًا أن كبار المسؤولين في المدينة “أجّجوا” الغضب العام تجاه بيرد بشأن القرار المقترح الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة قبل تقديمه إلى لجنة الإنصاف والتمكين في نوفمبر/ تشرين الثاني.
ولا شك أن الجهود المبذولة لفرض رقابة وترهيب على أي شخص وكل من يتحدث ضد الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة أمر محزن، لكنها ليست مفاجئة بأي حال من الأحوال.
وتكشف نظرة إلى التاريخ العالمي أن إسكات الأصوات الناقدة ساعد في خلق بيئة متساهلة مع الفظائع الجماعية، وأسوأ الفظائع على الإطلاق، الإبادة الجماعية، منذ قرن من الزمان على الأقل.
ففي جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية بقيادة سلوبودان ميلوسيفيتش، تم تنفيذ العديد من التدابير لقمع ومراقبة جميع المنشورات المستقلة، وكذلك محطات التلفزيون والإذاعة التي تجرأت على التحدث ضد الفظائع التي يرتكبها الصرب ضد الألبان والبوشناق والكروات في جميع أنحاء المنطقة، أو حتى ذكرها بطريقة طبيعية.
وفي عام 1998، اتُهم خمسة من محرري الصحف المستقلة “بنشر معلومات مضللة”؛ لأن منشوراتهم أشارت إلى الألبان الذين قُتلوا في كوسوفو على أنهم “أشخاص” لا “إرهابيون”.
وعندما هدد حلف شمال الأطلسي في نهاية المطاف بغزو كوسوفو لوضع حد للفظائع، ضاعفت الحكومة الصربية تصميمها على إسكات كافة الأصوات المعارضة. قال أحد أعضاء ائتلاف ميلوسيفيتش: “إذا لم نتمكن من الاستيلاء على جميع طائراتهم (الناتو)، فيمكننا الاستيلاء على تلك التي في متناول أيدينا، مثل لجان هلسنكي المختلفة، ومجموعات كويزلينج”. وأضاف أن أولئك الذين ثبت أنهم “شاركوا في خدمة الدعاية الأجنبية.. لا ينبغي أن يتوقعوا أي خير من سلطات الدولة”.
بعد عقدين من الإبادة الجماعية في البوسنة، والتي صاحبها الظل المظلم للرقابة في جميع أنحاء البلاد، أطلقت السلطات في الصين “حملة الضرب الصارمة ضد الإرهاب العنيف”، التي استهدفت الإيغور وغيرهم من المسلمين الأتراك في منطقة شينجيانغ إليغور ذاتية الحكم.
ووفقًا لمسؤول صيني نقلت عنه منظمة هيومن رايتس ووتش؛ فإن الغرض من الحملة ضد الأقليات المسلمة في المنطقة المتمتعة بالحكم الذاتي هو: “قطع الصلة بأنسابهم، وقطع جذورهم، وقطع روابطهم، وقطع أصولهم”. وتقدر منظمات حقوق الإنسان أنه تم إرسال مليون مسلم تركي إلى معسكرات “التثقيف السياسي”، ومراكز الاحتجاز السابق للمحاكمة، والسجون منذ بداية “العملية”.
هنا أيضًا رافقت الرقابة الفظائع؛ حيث قطعت السلطات خدمة الإنترنت في جميع أنحاء المنطقة لعدة أشهر، فلقد قاموا بسجن مؤسسي مواقع الويب الإيغورية والكتّاب والمحررين بتهم جرائم، مثل: “الانشقاق، وتسريب أسرار الدولة، وتنظيم مظاهرة غير قانونية أو تعريض أمن الدولة للخطر”.
كما أخضعوا المنطقة لمستويات شديدة من مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث قاموا بحذف ما يقدر بنحو 25 بالمائة من جميع تعليقات وسائل التواصل الاجتماعي. كما قاموا بقمع الخطاب المؤيد للإيغور في أماكن أخرى من البلاد.
كانت الرقابة وقمع حرية التعبير أيضًا من السمات الرئيسية للمحرقة النازية. وشمل ذلك حظر الأدب اليهودي، والحرق المنهجي لـ “الكتب غير المرغوب فيها” المصنفة على أنها “غير ألمانية”؛ سعيًا إلى “التجديد الأخلاقي”.
وأغلق النازيون أو سيطروا على جميع صحف المعارضة في ألمانيا في وقت مبكر من فترة ولايتهم، وحتى النهاية سيطروا على كل الأخبار – عن الحزب النازي، وسياساته ضد اليهود، والمجهود الحربي بشكل عام- التي ظهرت في الصحف والإذاعة وفي نشرات الأخبار.
فقد مُنع الألمان من الاستماع إلى محطات الراديو الأجنبية، ولم يُسمح إلا بمشاركة معلومات محدودة للغاية ــ وخاضعة للرقابة الشديدة ــ عن البلاد وجهودها الحربية مع بقية العالم. حتى إن الحزب سيطر على ما كتبه الجنود الألمان إلى الوطن من جبهات مختلفة في جميع أنحاء العالم.
وكانت النتيجة النهائية لجهود الرقابة الصارمة هذه هي أن الأغلبية الساحقة في المجتمع الدولي لم تعلم بالمدى الحقيقي للفظائع النازية، والمعاناة اليهودية في الأراضي التي تسيطر عليها ألمانيا، إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
والآن تجري إبادة جماعية أخرى في غزة، وتلعب الرقابة دورها مرة أخرى. وفي عصر الهواتف المزودة بكاميرات ومواقع التواصل الاجتماعي، ثبت أنه من المستحيل إلى حد ما بالنسبة لأولئك الذين يرتكبون ويسهلون الإبادة الجماعية أن يمنعوا الفلسطينيين من مشاركة واقعهم، وأولئك في جميع أنحاء العالم من رفع أصواتهم لدعمهم.
ولكن هذا هو بالضبط السبب وراء بذل جهود لا هوادة فيها لإسكات ومراقبة الصحفيين والأكاديميين والسياسيين والناشطين الذين يقفون مع فلسطين – الجهود المبذولة لضمان توقف الصور المؤلمة للألم والمعاناة في غزة عن الوصول إلى شاشاتنا.
وهذا هو بالضبط السبب وراء مسؤوليتنا الجماعية لإدراج “فلسطين” و”الفلسطينيين” في كل مكان، في كل مقال، وكل عمل فني، وكل مناقشة.
إن فرصتنا الوحيدة لوقف هذه الإبادة الجماعية هي التعلم من التاريخ ومواصلة الحديث عن فلسطين.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.