الانتخابات المحلية التركية ستُعيد هندسة السياسة العامة | سياسة
تستعدُّ تركيا لانتخابات محلّية عالية المخاطر نهاية هذا الشهر، ولن تؤدي نتائجها فحسب إلى إعادة تشكيل موازين القوى الحزبية على مستوى الإدارات المحلية، بل ستعمل أيضًا على إعادة هندسة السياسة الداخلية على نطاق واسع. ومع أنّ الانتخابات لن تُشكل تهديدًا للولاية الرئاسية الحالية للرئيس رجب طيب أردوغان، فإنها ستلعب دورًا بارزًا في تحديد مستقبل زعامة أردوغان من جانب، وستختبر من جانب آخر ما إذا كانت المعارضة ستحتفظ بما تبقى لديها من القوة التي اكتسبتها منذ آخر انتخابات محلية في عام 2019.
على الرغم من أن أردوغان قال في وقت سابق هذا الشهر؛ إن الانتخابات الحالية هي الأخيرة التي سيخوضها – في إشارة إلى أنه لن يترشح للرئاسة مرّة أخرى بعد انتهاء ولايته في عام 2028 بسبب القيود الدستورية – فإن مسؤولين في الحزب الحاكم كبكير بوزداغ نائب رئيس البرلمان ألمح إلى إمكانية إجراء انتخابات عامة مبكرة قبل انتهاء ولاية أردوغان لإفساح المجال أمامه للترشح مرّة أخرى. إن إثارة النقاش بشأن الانتخابات المبكرة ومستقبل زعامة أردوغان قبل الانتخابات المحلية تُعطي لمحة عن الانعكاسات الكبيرة المحتملة لنتائجها على السياسة الداخلية.
وبالنظر إلى أن المنافسة الأكثر أهمية في هذه الانتخابات تتمثل في الزعامة على إسطنبول، أكبر مدن تركيا من حيث عدد السكان والثقل السياسي، فإنها ستكون محورية في عملية إعادة هندسة السياسة الداخلية بعد الحادي والثلاثين من مارس/ آذار.
وبالنسبة لأردوغان، فإن استعادة حزبه السيطرة على إسطنبول ضرورية لمواصلة تعافي زعامته من الأضرار التي أصيبت بها منذ خسارة المدينة وبعض المدن الكبرى الأخرى في عام 2019.
أما حزب “الشعب الجمهوري”، فإن احتفاظه بالسيطرة على إسطنبول يكتسب أهمية كبيرة على مستوى الحزب، ودوره المستقبلي في الحياة السياسية، وعلى مستوى مستقبل الشخصية الأكثر قوة في المعارضة، وهو أكرم إمام أوغلو.
ومن المفارقة أن النقاش بشأن الانتخابات العامة المبكرة بدأ يُثار على جبهتي الحزب الحاكم، وحزب “الشعب الجمهوري” المعارض لأهداف مختلفة.
فبينما يُعول حزب “الشعب الجمهوري” على نصر كبير في الانتخابات المحلية للدفع باتجاه إجراء انتخابات عامة مبكرة بعد ذلك، فإن حزب “العدالة والتنمية”، يسعى لفوز يبني عليه من أجل التمهيد لهدفه القريب المتمثل في تغيير الدستور، ولهدفه البعيد المتمثل في خيار الانتخابات المبكرة الذي سيكون مُصممًا لإفساح المجال أمام أردوغان للترشح للرئاسة مرّة أخرى.
مع ذلك، من غير المتصور بأي حال أن يتحقق سيناريو الانتخابات العامة المبكرة في المستقبل المنظور بمعزل عن نتائج الانتخابات المحلية؛ لأسباب متعددة، أهمها أن هذا الخيار لن يكون مطروحًا على أجندة التحالف الحاكم إلا قبل فترة قصيرة من انتهاء ولاية أردوغان، فضلًا عن أن خُطة التعافي الاقتصادي، لا تحتمل مزيدًا من حالة عدم اليقين السياسي قبل إتمامها. كما أن إجراء انتخابات مبكرة من دون انفراجة في الأزمة الاقتصادية الراهنة قد يأتي بنتائج عكسية لأردوغان.
منذ وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى السلطة قبل أكثر من عقدين، لم تكن الانتخابات المحلية تأخذ هذا القدر الكبير من الأهمية على مستوى السياسة العامة سوى بعد انتخابات 2019.
ولا تقتصر أسباب ذلك على أن انتخابات 2019 شكّلت أول هزيمة انتخابية للحزب الحاكم في مدن كبرى مثل إسطنبول وأنقرة، بل لأنها خلقت حقبة جديدة من السياسة الحزبية تمثّلت في تشكيل تحالف بين أكبر حزبين معارضين هما حزبا “الشعب الجمهوري” و”الجيد”، قبل أن يتطور في انتخابات عام 2023 إلى ائتلاف واسع ضم ستة أحزاب معارضة إلى جانب حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” الكردي، علاوة على ظهور إمام أوغلو الذي نُظر إلى فوزه برئاسة بلدية إسطنبول وقتها على أنه بداية لطموحه السياسي بالوصول إلى رئاسة الجمهورية.
ومع أن التقييمات الكبيرة التي بُنيت على انتخابات 2019 انهارت بعد فشل المعارضة في الإطاحة بحكم أردوغان في انتخابات مايو/ أيار الماضية، إلا أن نتائج الانتخابات المحلية المقبلة ستُحدد ما إذا كان بعض هذه التقييمات لا يزال واقعيًا.
حقيقة أن البيئة السياسية التي ستُجرى فيها انتخابات مارس/ آذار تختلف بشكل جذري عن البيئة التي صاحبت انتخابات عام 2019 تزيد المخاطر على حزب “الشعب الجمهوري” وأحزاب المعارضة عمومًا، وهو ما يجعل الآثار المحتملة لها على حالة المعارضة، عمومًا، وعلى أحزابها المختلفة، قويةً لدرجة أنها قد تُعيد هندسة السياسة الحزبية للمعارضة.
فمن جانب، ستخوض أحزاب المعارضة انتخابات مارس/آذار بدون تحالف على غرار 2019 و2023. ومن جانب آخر، فإن أكبر مكونين لتحالف “الأمة” المعارض السابق (وهما حزبا الشعب الجمهوري والجيد) أصبحا الآن في حالة عداء شديد، ويشهد كلاهما أزمات داخلية وصراعات على مستوى القيادة.
وهذا الوضع يُقوض بالتّأكيد من فرص حزب “الشعب الجمهوري” للاحتفاظ بسيطرته على البلديات الكبرى، على غرار إسطنبول وأنقرة حتى في الوقت الذي يستعيض فيه عن شراكته السابقة مع حزب “الجيد” بتحالف انتخابي مع حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” الكردي.
أما الآثار المتوقعة للانتخابات على حزب “الشعب الجمهوري”، كونه المنافس الأكبر للتحالف الحاكم، فإنها ستكون على مستويَين. الأول يتعلق بالوضع الداخلي للحزب بعد التغيير الذي أحدثه على مستوى قيادته بعد انتخابات مايو/أيار الماضية. ومن البديهي القول؛ إن فوز حزب “الشعب الجمهوري” سيُعزز زعامة أوزغور أوزيل للحزب، والعكس صحيح. كما أن هزيمة محتملة له قد تُمهد الطريق أمام الزعيم السابق للحزب كمال كليجدار أوغلو لمحاولة العودة مُجددًا إلى زعامة الحزب.
أما المستوى الثاني، فيتعلق بمصير أكرم إمام أوغلو. وليس من المبالغة القول إن إمام أوغلو أهم عنصر في هذه الانتخابات. ففي حال نجاحه في البقاء بمنصبه، فإنه سيُعزز تأثيره كزعيم الظل لحزب “الشعب الجمهوري” وسيدعم طموحاته للترشح عن الحزب في الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2028، أو في سيناريو انتخابات مبكرة عامة، والعكس صحيح.
ولا تقل أهمية هذه الانتخابات لحزب “الشعب الجمهوري” عما هو الوضع عليه بالنسبة لحزب “الجيد”. كون الأخير سيخوض للمرة الأولى منذ تأسيسه أول استحقاق انتخابي بشكل مستقل عن حزب “الشعب الجمهوري”، لذا فإن انتخابات 31 مارس/آذار ستُشكل اختبارًا لمدى قدرة زعيمته ميرال أكشينار على إظهار أن حزبها قادر على الاحتفاظ بوضعه كثاني أكبر حزب معارض دون الاعتماد على شريكه السابق.
وفي حال نجاحها في ذلك، فإنها ستُعزز وضع حزبها في المعادلة السياسية الداخلية كبديل ثالث عن الثنائية الحزبية التقليدية المتمثلة بحزبي “العدالة والتنمية” و”الشعب الجمهوري”، وستُصبح طرفًا وازنًا في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
كما أن فشل حزب “الجيد” في الحفاظ على كتلته التصويتية في هذه الانتخابات قد يؤدي إلى مزيد من الاستنزاف الداخلي له إن على مستوى القادة، أو على مستوى القاعدة الشعبية، بما يُشكل تهديدًا وجوديًا له. وهذا التهديد الوجودي، سيعمل على إعادة تشكيل الحالة القومية في الحياة السياسية.
أخيرًا، فإن الآثار المحتملة لانتخابات مارس/آذار على حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” الكردي ستبقى أقل حدة مقارنة بحزبي “الشعب الجمهوري” و”الجيد”، لكنّه أيضًا يواجه اختبارًا حاسمًا لاستعادة قاعدته الشعبية التي خسر جزءًا منها في انتخابات 2023 لأسباب عديدة، على رأسها تحالفه مع حزب “الشعب الجمهوري”.
لذلك، فإن نجاح الحزب في تحقيق معايير الفوز الخاصة به في هذه الانتخابات، والمتمثلة في استعادة زخمه التمثيلي للحالة السياسية الكردية، سيُحدد التأثير المستقبلي له في ديناميكيات السياسة الداخلية.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.