إعمار النفس بديوان العرب.. أدباء يحتفون باليوم العالمي للشعر | ثقافة
يحتفي العالم اليوم الخميس بالشعر، كأحد أشكال التعبير الإبداعي وأحد مظاهر الهوية اللغوية والثقافية، وقد اعتمد المؤتمر العام لليونسكو، خلال دورته الـ30 التي انعقدت في باريس عام 1999، في 21 مارس/آذار، يوما عالميا للشعر، بهدف دعم التنوع اللغوي، ومنح اللغات المهددة بالاندثار فرصا أكثر لاستخدامها في التعبير، وتكريم الشعراء وإبداعهم المتميز.
وحول عطاء الثقافة العربية في هذا المجال، أشار أدباء إلى أهمية المناسبة في إلقاء الضوء على جهود الشعراء في صون اللغة العربية وتعزيز محتواها الحضاري، مشيدين بدور الشعر العربي المعاصر في إعلاء مفاهيم الجمال والحوار والتضامن والتعايش، وأكدوا لوكالة الأنباء القطرية على رحابة عطاء الشعر العربي وتجدد أشكاله ومضامينه، وإسهام الحضارة العربية في تزيين الحياة بالحكمة والجمال والبلاغة.
الشعر إعمار للنفس
وأوضح الشاعر والأديب القطري محمد إبراهيم السادة أن الشعر مرآة تعكس ما يجيش بخاطر الأديب من أحاسيس تجاه الآخرين والمحيطين به أو تجاه أمكنته ووطنه أو آرائه ومعتقداته، لافتا إلى قدرة الشعر على إعمار النفس بمشاعر الإكبار والاستحسان من خلال ألفاظ تحمل معاني مكثفة بإيقاع جميل، فقد نظم القدماء علومهم بالشعر حتى يسهل الحفظ على متلقي تلك العلوم لما للشعر من موسيقى وإيقاع.
وأشار إلى أن الشعر حمل لنا الكثير من المعلومات عن حياة السابقين وطرق معيشتهم ورحلاتهم وأدواتهم والكثير من طباعهم وتجاربهم في الحياة، وكأن قصائدهم عبر مئات السنين رسائل تحمل لنا خبراتهم ونصائحهم.
وشدد السادة على أن الشعر العربي حمل لنا إبداعات في وصف الطبيعة وسحر جمالها من واحات وأنهار وكثبان، واحتفى بالإنسان من خلال أغراض شعرية كالغزل والإخوانيات والحماسة والفخر والرثاء وغيرها، وروى لنا وقائع ومعارك وأحداثا وهو بذلك وثق لنا جزءا من التاريخ.
وحول تعدد وتنوع الأشكال الشعرية، قال السادة: إن العبرة بجودة الشعر والإيقاعات ليست حكرا على أحد، فقد جدد الشعراء المحدثون أساليبهم وأدواتهم وصنعوا قوالب شعرية حظيت بإعجاب المتلقي وأرضت ذوقه وحسه الأدبي.
مآثر الشعراء
ومن جانبه، قال الشاعر والأديب السوداني الدكتور الصديق عمر الصديق، إنه في اليوم العالمي للشعر، يذهب المشتغلون بالشعر إبداعا ودرسا مذاهب شتى في تقدير قيمة الشعر العربي، والتنويه بمآثر الشعراء الذين ضربوا بسهم كبير أو صغير في رفد حياضه، ولكنهم جميعهم يوقنون أن الشعر هو ديوان العربية الذي حفظ ألفاظها وتراكيبها، وطرائق بنائها، ورفدها بوابل غزير من تشعباته المجازية الساحرة، والأساليب البلاغية المبتكرة، وأصناف من النظم المبتدع من تنضيد الجمل الشعرية المحكمة النسج؛ فكانت كلها مراكب للمعاني الحكمية الرفيعة.
وليس عجيبا، بحسب الأكاديمي السوداني، أن يعبأ الشعر العربي المعاصر بأمر ترقية الحس الجمالي، وإذكاء ذائقته حين وجدنا الشاعر العربي ممتزجا بالطبيعة هائما بعناصرها، سابحا في آفاق الجمال الكوني، شاهدا على تعانق المادة والروح في تأمل تجليات سفور الحسن الكوني حتى يصنع الشاعر وجودا مغايرا من الفن البديع.
ويؤكد الدكتور الصديق: “إذا كان هذا شأن الشعر مع الجمال فليس عجيبا أن يعلي من شأن المعاني الإنسانية الرفيعة كالحوار، والتضامن البشري لإشاعة السلام والرغبة في التعايش بين البشر. ولأن الشعر عمل فني مركب فإنه لا يتوسل في إعلاء هذه القيم توسل الخطابة، والتقرير المباشر وإنما يتخذ من الأساليب الفنية من المجاز، والانزياحات الأسلوبية معبرا إلى الإبداع”.
بستان ديوان العرب
ويضيف أن الشعر العربي فضاء شاسع مليء بالتعدد والتنوع في الأشكال والمضامين، وهو بستان كبير لك أن تقطف منه ما يروقك التماسا لشكل بعينه: عمودا مركوزا، أو تفعيلة مجنحة، أو نثرا شاردا متمردا. كلها أشكال بنائية من الكتابة الشعرية. أما المضامين فهي المحتوى الفكري الذي وسعه الشعر العربي من لدن الجاهليين، وغموض حنينهم الطللي، وروحانية المتنسكين، بأصناف من الفلسفات، والأفكار، والمذاهب العصرية، فالشعر حقا هو ديوان العرب بهذا المعنى وبغيره.
بدوره، أفاد الشاعر والأديب الموريتاني أدي ولد آدب، أن تخصيص يوم عالمي للاحتفاء بالشعر، ما هو إلا رد جميل لهذا الإبداع الذي ظل يحتفي بكل الأيام المميزة، ويؤثث بالجمال، كل المناسبات والمواسم، والمحافل، مثلما كانت المواسم، والمناسبات تحتفي بالشعر، لا سيما بالنسبة لأمة العرب، التي كانت البلاغة عموما بصمة روحها، والشعر خصوصا أبو فنونها.
وأوضح أن الإبداع الشعري أسهم منذ غابر الأزمان في تهذيب الأرواح، وبناء جسور الحب والسلام والجمال، ففي اللغة العربية علاقة وطيدة بين فن الشعر والمشاعر الإنسانية.. فكانت بحوره مصب روافد الجمال والفن، حتى استطاع رقراقه، منذ غابر الأزمان، أن يطيب شظف الصحراء، وينضر جدبها، وأن يهذب الأرواح، ويشيع الحب والسلام والجمال، ففي اللغة العربية تجانس اشتقاقي بين فن الشعر والمشاعر الإنسانية، فالشعر-في حقيقته- فعول، متفاعل، أو لا يكون.
أشكال الشعر ومآلات الشعراء
وحول أشكال الشعر وقوالبه، قال الشاعر الموريتاني إن الشعر الحقيقي اليوم متمرد على أي قالب تقليدي، أو حداثي، لا يلائم روح الشعر الجموح، فالشعرية روح سارية في الأشكال، ويظلمها من يلتمسها في المعجم وحده، أو في التصوير، أو في العاطفة، أو في الفكرة، أو الوزن، أو القافية، أو البناء العام، كل على حدة، فهي طاقة سحرية تدب في كل أولئك معا.
ومن جانبه يعرف عيسى الشيخ حسن الشاعر الأديب السوري الشعر بأنه انهماك المجازات في تجميل الغامض، وتوتر اللغة في ترجمة الألم، والصعوبة بوصفها قنطرة إلى الوضوح، والغروب بوصفه برزخا بين لونين، والشعر منظور هندسي، وسدنته جديرون بأن نطلق أسماءهم على المكتبات وقاعات الجامعات وشوارع المدن. فهم حملة الفوانيس في ليل الأمة كي يضيؤوا فكرة السعادة بالكلمة والصورة.
وهنا نتذكر شعراء ماتوا مشردين، وغرباء، وجوعى جراء حيف السلطان، ومآلات الحروب السوداء، ووجع الحب. ورغم ذلك ما زال القارئ العربي يرى الضوء المنبثق من قصائد أمل دنقل، ورياض الصالح حسين، وإدريس جماع، وعبد الوهاب الفيحاني.
وحول دور الشعر العربي المعاصر في إعلاء مفاهيم الجمال والحوار والتضامن والتعايش، أشار إلى أن الشعر يدون الجمال والحرية والموت، ويزين الحياة، ونصوص الشعر الحقيقي عابرة للإثنيات والملل والنحل، والشعر أسس الحضارة، تلك التي تتناقلها الأمم مثل عصا التتابع. وربما كان لاتساع نشاط الترجمة في تعرفنا على طاغور الآسيوي وسنجور الإفريقي ونيرودا اللاتيني، وعرفتنا سونيتات شكسبير والدو بيت الفارسي، والهايكو الياباني.
وأكد عيسى الشيخ حسن دور الشعر العربي في نشر رسالة السلام والحرية والأمل، وأنه ما زال رغم التحديات المعاصرة يفاجئ جمهوره بظواهر شعرية لافتة، فشجرة الشعر ظليلة تطعمت عبر العصور بأنواع جديدة، فحملت غصونها من كل الثمرات، وفي مرحلة تالية تشابكت هذه الأشكال وتبادلت مزاياها عبر تقنيات الحداثة كالتناص مثلا، واستعارت أشكالها كقصيدة النيو كلاسيك العمودية، وغير بعيد سرحت قصيدة النثر في مراع جديدة، مضيفة إلى الشعر العربي لونا جديدا. فالشعر في النهاية هو قوس احتمالات اللغة.