رسائل من خط النار (1) | دولة الحب | آراء
(1)
عزيزي..
لا يحتاج الأمر إلى مقدمات، سأحاول الدخول في الموضوع مباشرة، لكن في الحقيقة لا أستطيع تجاوز أول لقاء في حياتنا، الذي أعقبه لقاءات ولقاءات، بعد أن أعلنا في بياننا المشترك الأول عن حبنا المشترك، حينها لم نكن لنتخيل أننا سنواجه ما واجهنا من تحديات، تلك التي وجدنا في هزيمتها -ورغم قسوتها- لذة بالغة، وعندما أتممنا بناء عش الزوجية لم نضيع وقتًا، فقد هرعنا إلى التخطيط بدقة لما هو قادم من الأيام وما تحمله لنا من ذرية، لم يمر من الزمن كثير قبل أن نُصدر بياننا المشترك التالي والأخير، الذي فاجأ الجميع، ونحن نعلن فيه عزمنا على الانفصال.
سأفعل مثلكَ الآن، كما كنتَ تفعل دائما، سأخلط السياسة بأمرنا، وأسألكَ: هل كنا لنفترق لو كانت الحالة السياسية مختلفة، فلا ثورة مضادة، تجهض أحلامنا، وتدفعنا إلى غربة نضيع فيها؟
(2)
عندما قررنا الزواج قلتَ لي: إن الأبدية شرط من شروط صحته، أي أن تكون لكل منَّا النية بينه وبين ربه، وبصورة قاطعة، في أن يبقى في هذه العلاقة حتى الرمق الأخير من أنفاسه، فإذا وقع ما لم يكن في الحسبان، يحل الطلاق.
وهذا يعني أن كلاًّ منا قد فكّر كثيرا جدا قبل أن يتخذ هذه الخطوة بالارتباط الأبدي، وأنك وأنا ندرك تمامًا أن الأمر ليس رحلة مدرسية، ولا مشروعًا مؤقتًا، ولا تجربة محددة زمنية، لقد قررننا البقاء معًا متلاصقين إلى أن نغادر الحياة الدنيا.
وهذا يعني بالضرورة أن كلينا كان في غاية التأكد من أن الطرف الآخر هو الشخصية التي تناسبه، هو بعينه، بعيوبه قبل مميزاته، بإحباطاته قبل إنجازاته، نحن لسنا تافهين ولا مراهقين، لقد قلَّب كلٌّ منا الأمور من كل ناحية، وتوصَّل إلى أن هذا الخيار، أي أنا لكَ وأنتَ لي، هو ما يلائمه، وأن روحينا قد تلاقتا قبل أن تتلاقى الأجساد.
(3)
أيام خطوبتنا كانت فترة جميلة للغاية، حرص فيها كل منا على أن يبدو في أحسن صورة وهيئة وسلوك، إنها زمن الاكتشاف، كل منا يكتشف الآخر، يكتشف عالمه، الأقرباء والأصدقاء، ما يحب وما يكره، تلك كانت أيام المرح والبهجة، تمر علينا خفيفة حلوة رومانسية، لا مسؤوليات، ولا التزامات.
كنت أحب مشاكستك، مشاغبتك، وأرغب في إرضائك في الوقت ذاته، أجلس كأني تلميذة وأنت معلمي، أتناسى كل ما قرأت، وكل تجاربي التي مررت بها، وأُنصت لك، فقط أُنصت لك، فأنت العالم كله.
تحدثني عن الحب، تقول: إنه شرط لازم لإنجاح الزواج، تنظر إلى السماء، تأخذ نفسا عميقا ثم تستطرد، لكن الزواج أكبر من الحب، الزواج مشروع ضخم، مؤسسة لها قوانينها، التزامات لا حد لها، مسؤوليات على كلٍّ منا أن يتحملها ويقوم بها، راضيًا سعيدًا، وإننا سوف نتزوج ليس فقط لأننا نحب بعضنا بعضًا، وإنما سعيًا إلى تأسيس هذا التنظيم العلني المسمى الزواج.
(4)
سأفعل مثلكَ الآن، كما كنتَ تفعل دائما، سأخلط السياسة بأمرنا، وأسألكَ: هل كنا لنفترق لو كانت الحالة السياسية مختلفة، فلا ثورة مضادة، تجهض أحلامنا، وتدفعنا إلى غربة نضيع فيها؟
أتعرف… إنني أحسد جيل آبائنا وأمهاتنا؛ فقد كانت لهم مرجعية يعودون إليها عند كل اختلاف، لكننا جيل ضائع، لا مرجعية له، بل عليه أن يتخذ قراراته وهو في أشد حالات القلق والخوف، كيف تكون بربك قرارتنا صائبة والحال هكذا؟!
المثير للسخرية أننا كنا نشتكي آباءنا وأمهاتنا ونطلب منهم أن يدعونا نخوض تجاربنا الخاصة بنا، والآن ونحن في عرض البحر، نخوض أصعب تجاربنا، نبحث عنهم، نبحث عمَّن يرشدنا، أو قُل: يُضيء لنا بعض العلامات في الطريق، حتى الأخلاق الجمعية بمحاذيرها ومحظوراتها نفتقدها.
(5)
كلانا يكره الروتين، لكنكَ لم تكن لتمل أن تعود متعبًا فتقول: هيا بنا نشاهد مسرحية “المتزوجون”، كنا نغرق ضحكًا على “صرصار” شيرين، وعلى “ملوخية” سمير غانم، وعلى “زرّات” جورج سيدهم.
كنا نضحك كما لو أننا لم نضحك من قبل، وفي نهاية الأمسية تُصدر بيان شجب لما ارتكبه الحكام بشأننا حتى بتنا رغم الإنسانية التي تجمعنا طبقات، تستعبد بعضها بعضًا.
(6)
عزيزي…
الشعب يريد إسقاط النظام.
لا بأس، لكن على الشعب أن يكون مستعدًّا لدفع الثمن.
حدثتني عن ضرورة أن يتغير المرء، فإذا ما تغيرتُ أنا اعترضتَ أنتَ، واعتبرتَ الأمر واحدًا من أسباب الخلاف.
نعم أنا تغيرت.. أعترف وأقر.
لكن بربك هل تغيرتُ أنا بينما أنتَ في مكانك ثابت، أم أنك تغيرت أيضًا؟
ثم مَن منا لا يتغير؟!
لكن ثمة أمرًا لا يجب أن نغيره فينا، وهو تشبثنا بما نؤمن.
لطالما كنتَ تحدثني عن المناضلين، هؤلاء الذين يناضلون لأجل مبادئهم، ولا ينتظرون أجرًا ولا نفعًا، إذن لماذا لا تكون في حالتنا هذه واحدًا منهم؟ لماذا لا تناضل من أجلنا، من أجل حبنا الذي قمنا بإعلانه بكامل إرادتنا، وأقمنا دولته، بل واجهنا الضغوط الخارجية بشجاعة واتخذنا قرارنا بإرادتنا الحرة أن “نكون”، فلماذا الآن وبضغوط داخلية تتنازل عن أن “نكون”؟
(7)
عزيزي…
الانتقال من “الأبدية” إلى “الانفصال” ليس سهلاً، ثمة مراحل وشروط طويلة ومعقدة عليك الإيفاء بها أولاً.
مشكلة جيلنا -يا صاحبي- ليست في الطلاق بحد ذاته، ولكن في سرعة اللجوء إليه.
لا يلجأ الطبيب إلى بتر العضو المريض إلا بعد استنفاد كل وسائل العلاج، ونحن لم نفعل، أُدرك أن الطلاق أمر طبيعي، وهو ليس دليلا على سوء أخلاق أحدنا، لكن أُدرك أيضًا أنه آخر الحلول وليس أولها، وأنه أبغض الحلال عند الله.
يا ناس.. الطلاق أبغض الحلال.
هذا والسلام!