معارك الصُّغد الحامية.. يوم فتح قُتيبة بن مسلم الباهلي بُخارى وسمرقند!
“إن الله أحلكم هذا المحل ليعز دينه، ويذبَّ بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة، والعدو وقْما (قمعا وخسارة)، ووعد نبيه النصر بحديث صادق، وكتاب ناطق، فَقَالَ: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»”.
(قتيبة بن مسلم الباهلي مخاطبا جنده عند ديار بخارى)
انطلقت الفتوحات الإسلامية إلى العراق والشام في الأشهر الأخيرة من عُمر الخليفة الأول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في عام 12هـ، وذلك بعد حروب طاحنة قضى فيها المسلمون على المرتدين من القبائل العربية، وأعادوا لملمة شعثهم، ومن ثم عمدوا إلى مواجهة أقوى جبهتين في ذلك الزمان؛ الفُرس الساسانيين والروم البيزنطيين، وعلى مدار عشرين عاما أو يزيد قليلا تمكَّن المسلمون من فتح العراق وبلاد الشام ومصر وأجزاء واسعة من بلاد فارس.
ولكن وفاة عمر بن الخطاب (الخليفة الثاني) -رضي الله عنه- ومقتله على يد أبي لؤلؤة المجوسي في عام 23هـ أحدث اضطرابا في إيران، فقد ارتدت كثير من مناطق الوسط والجنوب الفارسي عن المعاهدات التي أبرموها مع الفاتحين المسلمين في تلك المرحلة، لا سيما في مناطق اصطخر والبيضاء وغيرها، ولهذا السبب قرر الخليفة الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن يُعيّن واليا جديدا على البصرة، يملك حماسة الشباب، وطاقة متدفقة لإعادة المناطق الفارسية إلى طاعة الخلافة الراشدة، ثم يشرع في توسيع عمليات الفتوحات في مناطق خراسان والسند، وصولا إلى الهند.
فتوح خراسان
وكان فتح خراسان، وهي المنطقة التي تشمل اليوم أفغانستان وشرق إيران ومناطق جنوب جمهورية تركمانستان، بداية من عام 22هـ، ففي ذلك العام أمر الخليفة عمر بن الخطاب بتدفق الجنود إلى هذه المناطق وفتحها على يد الأحنف بن قيس التميمي، ويبدو من رواية الطبري أن الأحنف بن قيس هو الذي أشار على عُمر بن الخطاب بفتح هذه المناطق؛ إذ يقول: “وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف بن قيس، وعرف فضله وصدقه”[1]، وما بين عامي 18هـ وحتى 23هـ، وهو عام وفاة الخليفة عمر، تمكَّن المسلمون من ضم جميع أقاليم فارس وخراسان.
لكن مقتل عُمر -رضي الله عنه- على يد أبي لؤلؤة المجوسي قد أحدث هزّة عنيفة في إيران التي نفضت يد الطاعة، وانقلبت على المسلمين، وحين استقر القرار لعثمان بن عفان -رضي الله عنه- أعاد هيكلة الولايات وتعيين ولاة جدد، لا سيما ولاية البصرة التي كانت مسؤولة عن عمليات الفتوحات في إيران، وكان واليها حينذاك منذ زمن عمر الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري، فأرسل عثمان قيادة جديدة شابة تمثّلت في عبد الله بن عامر بن كُريز القرشي ابن الخامسة والعشرين ربيعا حينذاك، وقد انطلق منذ وطئت قدماه البصرة في عام 29هـ يعيد السيطرة على هذه المناطق الشاسعة من وسط وجنوب إيران، وكذلك مناطق خراسان. وهو ما يذكره البلاذُري في “فتوح البلدان” حين يقول: “فلما استخلف عثمان بن عفان ولّى عبد اللَّه بن عامر بن كريز البصرة في سنة ثمان وعشرين ويقال في سنة تسع وعشرين وهو ابن خمس وعشرين سنة، فافتتح من أرض فارس ما افتتح ثم غزا خراسان في سنة ثلاثين”[2].
غير أن استشهاد عثمان بن عفان في عام 35هـ وأحداث الفتنة التي استمرت عقب وفاته طوال خلافة علي -رضي الله عنه- ثم في السنوات الأولى في الدولة الأموية في خلافة معاوية أدّت كلها إلى توقف عمليات الفتوحات عند حدود خراسان، وكان الإقليم الذي يجاور خراسان هو إقليم ما وراء النهر، أي ما وراء نهر جيحون الذي يُقال له اليوم أموداريا، وهو يشمل أراضي أوزباكستان وطاجيكستان وأجزاء من كازاخستان وأفغانستان وجنوب قيرغيزستان اليوم، وهي أغلب مناطق تركستان التاريخية.
فتوحات ما وراء النهر الأولى وارتدادها
بلغ سعيد بن عثمان سمرقند وقد وجد أهلها مستعدين له، حاشدين كل طاقتهم وعددهم، فمكث يوما يريح جنده من عناء الطريق، فلما كان من الغد اشتدّت المعركة بين الجانبين، واستمرت على مدار ثلاثة أيام، وقيل استمرت شهرا كاملا، ويبدو أن الشهر الكامل هي المدة الأرجح؛ لمنعة سمرقند وحصانتها وارتفاعها عن السهول والمزارع المحيطة بها، ونشب القتال بين الجانبين في منطقة لا تبعد عن الأسوار، حتى قيل إن سعيد فقد إحدى عينيه في تلك المعركة، ثم حاصرهم حتى بدا له أن قادة الصغد وكبار أمرائهم وأبنائهم قد انزووا إلى حصن بعيد فحاصرهم فيه، ثم تمكن أخيرا من أسرهم.
فلما رأى أهل سمرقند أسر كبرائهم وافقوا على الصّلح والتبعية للمسلمين كما فعل أهل بخارى على أن يدفعوا سبعمئة ألف درهم، وأن يعطوا المسلمين رهنا من كبار أمرائهم، وأن يدخل المسلمون المدينة، فدخلها سعيد في ألف فارس وسار فيها حتى خرج من الباب الآخر، ثم انصرف إلى عسكره ورجع من سمرقند إلى ترمذ في الجنوب وعبر نهر جيحون صوب مرو عاصمة خراسان، يقول الطبري: “وناهضه الصغد، فقاتلهم فهزمهم وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا منهم خمسين غلاما يكونون في يده من أبناء عظمائهم، وعبر فأقام بالترمذ، ولم يف لهم، وجاء بالغلمان الرهن معه”[5] إلى مرو.
قتيبة بن مسلم الباهلي وفتح بخارى وسمرقند
وهكذا كان الفتح الأول لسمرقند على صعوبته صُلحا بين الطرفين على شروط وجزية مع ضمان الحكم الذاتي للصغد والترك لهذه المناطق، الأمر الذي سمح لهم بانتقاض العهود مرة بعد أخرى، وبعد وفاة معاوية وارتقاء ابنه يزيد بن معاوية للخلافة، أحب والي خراسان حينذاك سلْم بن زياد أن يؤكد سيادة المسلمين على سمرقند فعبر إليها سنة 62هـ، فجدّد أهلها الصلح والتعاهد معه، وأدوا إلى سلم الجزية وهدايا أخرى كثيرة أُرسلت إلى مقر الخلافة في دمشق، ولكن بعد وفاة يزيد بن معاوية في عام 64هـ والصراع الذي نشب بين عبد الله بن الزبير في الحجاز والجزيرة العربية من جهة، وعبد الملك بن مروان من جهة أخرى، فضلا عن استغلال بعض ولاة هذه المنطقة للأوضاع مثل موسى بن عبد الله بن خازم والي ترمذ المتمرد على ولاة خراسان الذي حال دون عبورهم نهر جيحون لأعوام طويلة حتى مقتله في عام 85هـ/704م، كل ذلك أدى إلى هذا تعطيل إعادة الفتوحات[6].
في غضون ذلك، أرسل الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق والشرق الإسلامي عامة قائدا جديدا إلى هذه المنطقة وهو قُتيبة بن مسلم الباهلي في عام 86هـ/705م، ذلك الذي لن يتمكن من تأكيد السيادة الإسلامية على سمرقند وبلاد الصغد فقط، بل ستمتدّ فتوحاته حتى يطرق أبواب الصين هنالك عند مدينة كاشغر وما وراءها.
والحق أن قُتيبة من مسلم الباهلي كان بخلاف مَن سبقوه من الفاتحين أشد حرصا لا على تأكيد السيادة الإسلامية على هذه المناطق فقط، بل وعلى نشر الإسلام فيها، لا سيما حواضرها الكبرى مثل بخارى وسمرقند وغيرها، ومنذ وطئت قدماه خراسان وما وراء النهر سنة 86هـ عزم على العبور إلى ما وراء النهر عدة مرات بجيوش كثيفة، وقد امتاز قتيبة بطيب الخلال، وحرصه على نشر الإسلام، حتى إن الطبري ينقل عنه بعض خطبته التي قالها لما جاء أول مرة إلى تلك المناطق، وجاء فيها:
“إن الله أحلّكم هذا المحل ليعزّ دينه، ويذبَّ بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة، والعدو وقْما (قمعا وخسارة)، ووعد نبيه النصر بحديث صادق، وكتاب ناطق، فَقَالَ: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ». ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب، وأعظم الذّخر عنده فقال: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، إلى قوله: «أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ» ثم أخبر عمن قُتل في سبيله أنه حيّ مرزوق، فقال: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتًا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)”[7].
بمثل هذه الروح انطلق قُتيبة بن مسلم في بلاد ما وراء النهر، وسرعان ما كان النصر حليفه، والمغانم طوع بنانه، فقد استولى على مدينة بيكند على طريق بخارى، واستعان المسلمون بغنائمها على مواصلة العمليات العسكرية في تلك المناطق، وفي عام 88هـ تمكن من فتح بعض نواحي بخارى، ثم تأكيد السيادة الإسلامية على بخارى ذاتها وفتحها عام 90هـ، ولم يقبل من أهلها الحكم الذاتي كما فعل الفاتحون المسلمون من قبله، وإزاء هذه الفتوحات السريعة التي بلغت الآفاق، خاف الصُّغد في سمرقند من قُتيبة، وأرسل زعيمهم طرخون إليه فدية كبيرة، وبالفعل رجع قتيبة هذه السنة عن سمرقند، ولكن في ربيع العام التالي 91هـ انطلق صوب نواحي سمرقند مثل كش ونسف وغيرها، ولم يتعرض له طرخون خوفا من قوته، ولما رأى أهل الصغد جُبن طرخون عن مواجهة قتيبة بن مسلم وجيوشه وتقاعسه ثاروا عليه، وسجنوه وعينوا بدلا منه قائدا جديدا اسمه غُوزك، جاء بروح انتقامية وثورية ضد المسلمين.
وإزاء هذه التطورات في سمرقند انتهج قُتيبةُ نهج المفاجأة والخداع العسكري، فأظهر أنه يريد الحرب ولكنه عمل على المناورة والخداع والتمويه، فأظهر أنه يريد سمرقند ونواحيها أولا، ولكنه اتجه شمالا إلى خوارزم وفتحها بسهولة، وقياسا على تكتيكات قتيبة السابقة توقع أهل سمرقند أنه لن يغزوهم في ذلك العام، وهو ما أكدته تحركات قتيبة بالفعل، حيث أرسل الغنائم والثقل العسكري مع أخيه عبد الرحمن بن مسلم إلى مرو عاصمة خراسان، ثم كتب إليه وهو في الطريق أن يوجه الثقل في سرية تامة إلى سمرقند على أن يلحق به هنالك ببقية الجيش[8].
هنالك وقف قتيبة في جيشه خطيبا يقول: “إن الله قد فتح لكم هذه البلدة (خوارزم) في وقت الغزو فيه ممكن، وهذه السُّغد شاغرة برجلها، قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، منعونا ما كنا صالحنا عليه طرخون، وصنعوا به ما بلغكم، وقال الله: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ»، فسيروا على بركة الله، فإني أرجو أن يكون خوارزم والسُّغد كالنضير وقريظة”[9].
وبالفعل التقى الجيشان عند أسوار سمرقند، حين ذلك أُسقط في أيدي الصغد، وأرسلوا على الفور إلى ملوك الترك والصين وفرغانة وغيرهم ليمدوهم على المسلمين، وكان قتيبة قد خصَّص فرقة للاستطلاع والمراقبة تمكنت من استكشاف مجيء قوات تركية كثيفة، واستطاع صالح بن مسلم أخو قتيبة وعبد الرحمن أن يوقعها في فخّ أعدّه لها، مع حصار شديد ورمي بالمجانيق، وهجوم لا يتوقف من قتيبة ورجاله، حتى انثلم في سور المدينة ثلم، حين ذلك انكسر أهل سمرقند، واستسلموا وأعلنوا الهزيمة والصلح على شروط قتيبة، وقد اشترط عليهم أن يؤدّوا مليون (ألف ألف) درهم عاجلة، ومئتي ألف درهم سنوية، وبالإضافة إلى جزية من الرؤوس تكون من الشباب فقط، وأن تُحرق الأصنام التي كانوا يعبدونها، وأن تُهدم بيوت النيران التي كان يتعبّد فيها المجوس الزرداشتية، ولأول مرة يأمر قتيبة ببناء مسجد جامع في سمرقند، ثم وهو الأهم أن يوطّن فيها المسلمون بأُسرهم وأبنائهم[10].
ولم يتوقف عند هذا الحد، فقد علم غدرهم ونكوصهم عن معاهدات الصلح مع المسلمين من قبل، ولهذا عيّن عليها أخاه عبد الله بن مسلم الباهلي، وأضاف إليه حامية عسكرية كبيرة لأول مرة. وهكذا دانت سمرقند للمسلمين على يد قُتيبة بن مسلم الباهلي هذا القائد الكبير الذي استمرت فتوحاته في تركستان وصولا إلى الصين التي أجبر إمبراطورها على دفع الجزية للمسلمين، كما يثبته كُتّاب التواريخ كالطبري وابن أعثم والبلاذري وغيرهم، وذلك تاريخ غابر وعامر، حيث لا يكاد يُصدّق أن يفتتح المسلمون في أزمنة قليلة من حدود الصين إلى جنوب فرنسا!
_______________________________________
المصادر
- [1] تاريخ ابن جرير الطبري 4/94.
- [2] البلاذري: فتوح البلدان ص390.
- [3] ابن أعثم الكوفي: الفتوح 4/190.
- [4] ياقوت الحموي: معجم البلدان 3/409.
- [5] تاريخ الطبري 5/306.
- [6] تاريخ الطبري 6/398، 399.
- [7] السابق 6/424.
- [8] ابن أعثم الكوفي: الفتوح 7/236، 237.
- [9] الطبري: السابق 6/472، 473.
- [10] الطبري: السابق 6/475.