عالم ما بعد تويتر.. هل بدأت حقبة التطبيقات الخارقة؟
“سنودع قريبا كل الطيور”.
(إيلون ماسك، مالك منصة إكس، أو العصفور الأزرق “تويتر” سابقا)
في الثالث والعشرين من يوليو/تموز الماضي، أعلن إيلون ماسك عن بدء تنفيذ خطته الكبرى خلف شراء منصة الوسائط الاجتماعية التي كانت تُعرف باسم تويتر، ليقرر تغيير كل ما يتعلق بهوية الشركة والمنصة إلى حرف “إكس” (X).
لا تتعلق الأمور بمجرد تغيير هوية تويتر، ففي الحقيقة يبدو أننا نشهد فعليا انتهاء حقبة من عصر الإنترنت، والأكثر إثارة أننا نشاهدها تحدث عمليا في الوقت الفعلي. ليست الفكرة بالطبع في رغبات الملياردير الأميركي، الذي يرغب في التحكم بكل شيء من حوله، وتغيير إحدى أشهر منصات الوسائط الاجتماعية إلى حرف يدل على الغموض، تحقيقا لأحلامه الناتجة عن أزمة منتصف العمر كما يبدو. لكن الفكرة أن منصة تويتر نفسها مثّلت منذ ظهورها تغييرا جذريا في شبكات التواصل الاجتماعي، وكانت بداية ما نعرفه الآن بمنصات الوسائط الإعلامية الاجتماعية.
And soon we shall bid adieu to the twitter brand and, gradually, all the birds
— Elon Musk (@elonmusk) July 23, 2023
لاحظ هنا أننا نفرّق بين شبكات التواصل الاجتماعي (Social Networks) ومنصات الوسائط الاجتماعية (Social Media)؛ نحن نستخدمهما بالتبادل هذه الأيام للتحدث عن الشيء نفسه، لكن هذا هو تحديدا التغيير الذي حدث منذ انطلاق تويتر وكان سببا في تشكيل تلك المنصات كما نعرفها واعتدنا عليها الآن!
في البدء كانت شبكات التواصل
كما يشير اسمها الأصلي، كان الهدف الأساسي وراء الشبكات الاجتماعية، استعد للمفاجأة، هو التواصل وليس نشر وصناعة المحتوى. كانت الفكرة البسيطة في بدايتها تقوم على ربط شبكة معارفك الشخصية، أي جهات الاتصال الذين تعرفهم شخصيا وتثق بهم، بشبكات الآخرين، وبهذا يمكنك تكوين شبكة أوسع من جهات الاتصال ممن يمكنك الوثوق بهم أيضا.
عندما بدأت منصة “لينكد إن” عام 2003، وعدت بسهولة البحث عن وظيفة والتواصل في مجال الأعمال عبر إمكانية تتبع شبكات معارفك الشخصية. شبكة “فريندستر” (Friendster) عام 2002 قدمت الشيء نفسه لكن للعلاقات الشخصية، نعم كانت هناك شبكة اجتماعية شهيرة قبل ظهور فيسبوك، ثم ظهر فيسبوك عام 2004 لشبكات أصدقاء الجامعة، وهكذا.
المهم، كما ترى، كانت فكرة الشبكات الاجتماعية عموما هي بناء أو تعميق العلاقات بالأساس مع الأشخاص الذين تعرفهم وتثق بهم، لكن طريقة تعميق تلك العلاقات ومغزاها كان يُترك للمستخدم ليقرره. كان ذلك هو الوضع حتى جاء عام 2006، وبدأت معه منصة تويتر في الظهور والانتشار، التي كانت ربما أول منصة وسائط اجتماعية حقيقية، حتى لو لم تُوصف بهذا الوصف في حينها. وبدلا من التركيز على ربط شبكات الأشخاص ببعضهم، كانت المنصة أشبه بغرفة دردشة عملاقة للعالم تحركها الأحداث؛ منصة تويتر كانت للتحدث إلى الجميع في الوقت نفسه، وربما هذا من الأسباب الرئيسية التي دفعت الصحفيين للتوجه إلى المنصة.
بالطبع كان هذا عصر المدونات على الإنترنت، ويمكن للمدونة أن تصل إلى أي شخص يملك جهاز حاسوب بمتصفح إنترنت، ولكن عمليا كان من الصعب انتشار تلك المدونات، ولم تتمكن من الحصول على أعداد القراءات المجزية، لاحظ هنا أننا في عام 2006، لم تكن الهواتف الذكية انتشرت، ولم يظهر أول هاتف آيفون بعد.
على تويتر، كان بإمكان أي شخص أن يرى أي محتوى نشره أي شخص آخر فورا، وعلى عكس المشاركات على المدونات أو الصور على منصة “فليكر” أو مقاطع الفيديو على “يوتيوب” حينها، كانت التغريدات قصيرة ولا تتجاوز 140 حرفا، بهذا لا تحتاج إلى جهد لكتابتها، مما سهّل عملية نشر الكثير منها على مدار اليوم. مع زيادة الاستخدام، بدأت المنصة تتحول إلى ساحة عامة للحديث، يتدفق منها تيار مستمر من الأخبار العالمية والأحداث والتفاعل عليها، وبالطبع جعلها وجهة مفضلة بالنسبة للمشاهير والساسة والمؤثرين في الرأي العام.
عندما نعود إلى تلك اللحظة، فسنتأكد بأن فكرة وسائط الإعلام الاجتماعي كانت قد وصلت فعلا، وبدأ معها صناعة واستهلاك المحتوى لأي سبب أو بدون سبب. منذ تلك اللحظة، بدأت فكرة الإعلام الاجتماعي تتجاوز فكرة الشبكات الاجتماعية.
ثم تحولت إلى منصات إعلامية
بداية من عام 2010 تقريبا، بدأ الأمر في الانتشار أكثر، وانتشرت العدوى لكل الشبكات الاجتماعية تقريبا، مع ظهور منصة إنستغرام، التي يمكن اعتبارها بمنزلة الجسر بين حقبة الشبكات الاجتماعية وعصر الوسائط الاجتماعية الذي نعيش به الآن، وهو ما تزامن حينها مع انتشار الهواتف الذكية والتصوير بها.
بدلا من مجرد فكرة التواصل وبناء روابط اجتماعية كما كان مقررا لها، قدمت الوسائط الاجتماعية الجديدة منصات تسمح للمستخدمين بنشر المحتوى بأكبر قدر ممكن، بعيدا حتى عن شبكات الأشخاص المقربين منهم، تلك المنصات جعلت من أي شخص صانعا للمحتوى أو على الأقل ناشرا أو مشاركا له.
اكتشفت باقي المنصات هذا الكنز، وخلال وقت قصير، أصبحت جميع الشبكات الاجتماعية تُفضل هذا النموذج الجديد. بدأت منصة فيسبوك في تشجيع المستخدمين على مشاركة المحتوى الذي ينشره الآخرون لزيادة التفاعل على المنصة، بدلا من مشاركة آخر التحديثات مع أصدقائهم.
أطلقت “لينكد إن” برنامجا لنشر المحتوى عبر المنصة أيضا (1)، وقبل ذلك أضافت تويتر، التي كانت بالفعل منصة نشر في الأساس، ميزة “إعادة التغريد”، أو “ريتويت”، مما سهّل انتشار المحتوى كثيرا عبر شبكات المستخدمين. (2) اعتمدت كل منصة أخرى نسخة من هذه الميزة بسبب قدرتها الكبيرة على توليد المشاركات، ويصعب الآن تصور وجود أي منصة اجتماعية بدونها تقريبا.
يمكننا التفكير في هذا التغيير بالصورة الآتية: في حقبة الشبكات الاجتماعية، كانت العلاقات والتواصل بين الأشخاص ضروريا، لأن هذا ما كان يدفع المحتوى الشخصي واستهلاكه، لأنك ببساطة تتابع أصدقاءك وعائلتك وتعرف أخبارهم من تلك الشبكات. لكن في عصر وسائط الإعلام الاجتماعي، تسعى المنصات إلى تقليل قوة الروابط والعلاقات قدر الإمكان، بما يكفي للسماح بتدفق وانتشار المحتوى لأكبر عدد ممكن من المستخدمين. هذا بدوره سيجبر المستخدم على متابعة تلك المنصة، لأنها تحولت من مجرد مكان تقابل فيه معارفك إلى شبكة تتدفق فيها الأخبار وأشكال المحتوى دون توقف.
طبعا كان مارك زوكربيرغ أفضل مَن استغل هذا الأمر، وتحول كل محتوى منصاته إلى الاعتماد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي، في محاولة لإبقاء المستخدم لأطول مدة. بالطبع كل هذا جلب معه زيادة هائلة في التفاعل، وبالتبعية ارتفاع في أرباح الإعلانات القائمة على البيانات، الذي جاء من اقتصاد المحتوى المعتمد على انتباه المستخدم في المقام الأول، وتحولت معظم تلك المنصات إلى منصات ترفيهية. ربما هذا ما ساعد في انتشار تطبيق تيك توك أكثر، لأن الوضع كان مهيّأ لظهور منصة تعرض المحتوى الترفيهي والسريع جدا، دون الحاجة إلى أي مجهود أو انتباه حقيقي.
أصبح بإمكان أي شخص الآن كسب بعض المال، أو حتى الكثير منه، عبر “صناعة المحتوى” على الإنترنت؛ باعت لهم المنصات هذا الوعد، وخلقت برامج وآليات رسمية لتسهيل هذا الأمر. وظهر مصطلح جديد يعرف بالمؤثر أو “إنفلونسر”، حتى إنه أصبح نموذجا يطمح الشباب في الوصول إليه، خاصة ممن يعتبرون الشهرة على منصات مثل إنستغرام أفضل وأكثر جدوى من الشهرة التقليدية.
الآن، لكي تتواصل مع شبكة معارفك، عليك أن تتوجه إلى تطبيقات المراسلة الفورية، مثل واتساب، لأن منصات التواصل الاجتماعي لم تعد تؤدي هذا الغرض. كل هذا، كما رأيت، بدأ مع ظهور تويتر، والآن يبدو كل شيء على وشك أن يتغير.
إلى أين سنذهب؟
لا يتعلق الأمر بإيلون ماسك وتغييره لمنصة تويتر، كما ذكرنا، فالمنصة وطريقة عملها ستظل كما هي تقريبا على كل حال، لكن شركة تويتر نفسها كانت في تراجع مستمر منذ سنوات، لهذا فإن تغيير ماسك للمنصة ربما يكون عرضا لأسباب أكبر وأعمق.
لكن بعيدا عن الأسباب نفسها، فإن التغيير الذي يطرحه إيلون ماسك قد يكون أحد أشكال منصات التواصل الاجتماعي في المستقبل. أولا فكرة الحصول على مزايا إضافية عبر اشتراك شهري، وهي ليست فكرة إيلون ماسك وحده، لكنها بدأت تصبح توجها في صناعة وسائل التواصل الاجتماعي.
خلال الفترة الماضية، قدَّم تطبيق سناب شات اشتراكا شهريا بمزايا إضافية، يوتيوب أيضا يقدم خدمة اشتراك شهري بعدد من المزايا منها مشاهدة فيديوهات بدون إعلانات، وكذلك منصة ديسكورد وتطبيق تلغرام. بعدها أعلن إيلون ماسك عن اشتراك شهري على تويتر، ثم قررت شركة ميتا، التي تملك أكبر تطبيقات من حيث الحجم وعدد المستخدمين، الدخول لهذا المجال والإعلان عن خدمة مدفوعة لتوثيق الحسابات على منصاتها، لتؤكد التوجه الجديد نحو تصنيف طبقي في وسائل التواصل الاجتماعي. (3)
ثم هناك فكرة تطبيق كل شيء، وهي الفكرة التي جعلت ماسك يقرر التوجه لشراء تويتر من الأساس، وهو ما ذكره الرجل منذ العام الماضي فعلا في تغريدة على حسابه: “شراء تويتر يهدف إلى تسريع إنشاء إكس (X)، تطبيق كل شيء”.
Buying Twitter is an accelerant to creating X, the everything app
— Elon Musk (@elonmusk) October 4, 2022
على عكس التطبيقات العادية التي صُممت لتقوم بمهمة واحدة بصورة جيدة، يمكن لما يُسمى بالتطبيقات الخارقة أن تقوم بكل شيء، أو على الأقل هذه هي الفكرة المطروحة. بدلا من أن يحتاج المستخدم إلى أكثر من تطبيق، مثلا تطبيق لكي يطلب سيارة، وآخر ليطلب الطعام، وثالث كي يدفع معاملاته البنكية، يمكن أن تُدمج كل هذه الخدمات في تطبيق واحد، لا يخرج المستخدم منه أبدا.
تعريف “التطبيق الخارق” أو تطبيق “كل شيء” قد يبدو غامضا، ولكن شركات التقنية وقادتها غالبا ما يستخدمون المصطلح عندما يبررون عملية “حشر” المزيد من المزايا والمهام داخل تطبيقاتهم، وهي مزايا غالبا ما تختلف عن الوظيفة الأساسية التي يقدمها التطبيق الأصلي. هذا النوع من التطبيقات الخارقة ينتشر أكثر في الصين ودول آسيا، والمثال الأكثر شهرة بالطبع هو تطبيق “وي تشات” (WeChat) الصيني، الذي يملكه أحد أكبر عمالقة الإنترنت الصيني وهي شركة “تنسنت” (Tencent). (4)
يطمح إيلون ماسك إلى محاولة تكرار نجاح تطبيق “وي تشات” في الصين، الذي بدأ بوصفه تطبيقا للمحادثات الفورية، وتحول على مدار العقد الماضي إلى تطبيق كل شيء تقريبا هناك، يُستخدم التطبيق في قراءة الأخبار وحجز رحلات السيارات وحجز مواعيد الكشف عند الأطباء ودفع الضرائب وغيرها الكثير من الأنشطة اليومية الأخرى. ربما تلك الفكرة أيضا تكون هي مستقبل منصات التواصل الاجتماعي.
ثم هناك بعض الأفكار الحالمة لهذا المجال، وهي منصات تواصل لا مركزية، مثل منصات “ماستودون” (Mastodon) و”بلوسكاي” (Bluesky)، القائمة على بروتوكول مفتوح المصدر يُعرف باسم “أكتيفيتي بوب” (ActivityPub)، وهي حالمة لأنها تأمل في إعادة السيطرة للمستخدم، وتربط كل شيء بمنصة اجتماعية واحدة، يمكن للمستخدم فيها أن ينقل كل أصدقائه أينما ذهب.
غالبا مَن يستخدم شبكة الإنترنت سيكون من مستخدمي المنصات الاجتماعية؛ وفقا لدراسة حديثة، هناك ما يقرب من 5 مليارات شخص، أي ما يزيد على 60% من سكان كوكب الأرض، يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، بينما عدد مستخدمي شبكة الإنترنت وصل إلى 5.19 مليارات شخص، بنسبة 64.5% من سكان العالم. (5) تلك المنصات كان لها أكبر تأثير على ثقافتنا الإنسانية منذ ظهورها، وأصبحت جزءا أساسيا من حياتنا اليومية، حتى بعد تحولها إلى منصات ترفيهية بالأساس. لهذا فإن أي تغييرات ضخمة قادمة فيها تعني تغييرات كبيرة ضخمة في شبكة الإنترنت بأكملها، وفي مستقبل ثقافتنا الإنسانية، بلا مبالغة.
_________________________________________
المصادر:
- 1) LinkedIn launches ‘Signal’ in beta for professional news streams
- 2) The Man Who Built The Retweet: “We Handed A Loaded Weapon To 4-Year-Olds”
- 3) شارة تحقق فيسبوك بمقابل مادي.. هل انتهت مجانية وسائل التواصل الاجتماعي؟
- 4) التطبيق الخارق.. لماذا يُحوّل إيلون ماسك تويتر إلى شركة إكس (X)؟
- 5) أكثر من 60% من سكان العالم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي