فقه الأقليات المسلمة.. رؤية نقدية (3) | آراء
في مقال الأسبوع الماضي أوضحت أن “فقه الأقليات المسلمة” يرجع إلى أصلين:
- تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر، وأثر اختلاف هذه القسمة على بعض الأحكام الشرعية، وهي مسألة محل خلاف بين الفقهاء.
- وإبراز حالات الاستثناء وقواعد الضرورة والحاجة في الفقه العام لتشكل أصلاً من أصول ما سمي “فقه الأقليات المسلمة” يُستند إليه في بناء الأحكام الخاصة بها.
أما هذا المقال فسيوضح أنه لا حاجة لإنشاء فقه جديد لمعالجة الأسئلة المتعلقة بـ”الأقليات المسلمة”؛ إذ إنها لا تخرج عن منهجية الفقه العام، ولكن الإشكال إنما يكمن في منهج التفقه، وقراءة التحولات التاريخية التي تمس الأقليات والأكثريات فيما يخص رؤية العالم والانتقال من منظومة الخلافة إلى منظومة الدولة القومية. ولبيان ذلك سأناقش محورين يتصلان بالأصلين اللذين بُني عليهما فقه الأقليات المسلمة والمشار إليهما آنفًا.
رؤية العالم بين منظومة الخلافة ومنظومة الدولة
تندرج “دول الغرب” -وفق التقسيم الفقهي التاريخي للعالم- ضمن “دار الكفر”، ومن ثم تُستحضر هنا -عادة- الأحكام الفقهية المنبنية على هذه القسمة، ومنها: علاقات السلم والحرب، والهجرة من هذه الدول وإليها، وحمل المصحف إليها، بل الحصول على جنسيتها وغير ذلك. وهنا يمكن أن نميز بين ثلاثة مواقف في التعامل مع هذا الأصل وتطبيقاته الفقهية:
الأول: موقف التنظيمات الإسلامية المسلحة المنتسبة إلى الجهاد، فقد شكلت قسمة العالم ثابتًا من ثوابتها، وتمسكت بتطبيقات القسمة التي أدت إلى نتائج كارثية كما رأينا مع تنظيم القاعدة وما تفرع عنه وصولاً إلى داعش (أو تنظيم الدولة الإسلامية).
- الثاني: موقف بعض المشايخ التقليديين ممن تَبَنوا تحريم الإقامة الدائمة في دول الغرب بالاستناد إلى هذه القسمة، من ذلك -مثلاً- الفتوى التي أصدرها بعض المشايخ السوريين بتحريم الإقامة الدائمة في دول الغرب في محاولة للحد من هجرة اللاجئين السوريين إليها. ولكننا لا نجد لهم كلامًا في سائر تطبيقات الأصل المشار إليه (كالجهاد وحمل جنسية بلد “دار الكفر”، وحمل المصحف إليه وغير ذلك)، مما قد يعني أننا أمام تعامل (أو ربما تصور) انتقائي يفتقر إلى الاتساق من جهة، ويَقصُر نظره عن دَرْك غياب مفهوم “دار الإسلام” (وهو قَسيم دار الكفر في القسمة نفسها) واستحقاقاته من جهة أخرى؛ خصوصًا أن مثل هذا التنزيل للقسمة التاريخية للعالم يأتي في سياق إشكالية حديثة أفرزتها الدولة القومية، وهي ظاهرة اللجوء التي أغلب اللاجئين فيها -حاليًّا- من المسلمين، وتشكل -اليوم- معضلة أخلاقية وقانونية وسياسية.
فمثل هذه الفتاوى تستحق أن تُناقَش من جهتين: تصورها الكلي للقسمة التاريخية، وقدرتها على تقديم تصور أو إسهام فقهي لمعالجة ما ترتب على التحولات التاريخية المشار إليها؛ إذ إن الاكتفاء -فقط- بإسقاط القسمة التاريخية على واقع اللجوء اليوم، ومن ثم تحريم الإقامة فيما يسمى “دار الكفر” لا يجدي نفعًا لا على المستوى المنهجي ولا على المستوى العملي فيما يخص هؤلاء المسلمين اللاجئين الباحثين عن مخرج وقد ضاقت بهم الأرض بما رحبت. باختصار: الحديث عن “دار الكفر” يقتضي الحديث عن واجبات “دار الإسلام” في المقابل؛ إذا كنا سنستصحب هذه القسمة التاريخية اليوم.
- الثالث: موقف ما سُمي “فقه الأقليات المسلمة” الذي يُحسب له أنه تجاوز السؤال التقليدي عن حكم الإقامة في “دار الكفر” إلى القول بضرورة الوجود الإسلامي في الغرب، وهو تَجَاوُزٌ ينطلق من تَصَور جديد يتأسس على أمرين: أولهما: عالمية الرسالة الإسلامية وفريضة نشرها، الأمر الذي يَفرض أن يكون هناك وجود إسلامي مؤثر في بلاد الغرب التي لها وزنها في السياسة والهيمنة في عالم اليوم، وثانيهما: جملة من المصالح الشرعية، كالمحافظة على المسلمين في ديار الغرب، ودعم كيانهم المعنوي والروحي، ورعاية من يدخل في الإسلام من هذه الديار؛ خصوصًا أن لدينا تجربة تاريخية إسلامية نشرت الإسلام عن طريق حركة التجارة في آسيا وأفريقيا. ومن هذا الباب -فيما يبدو- خلص الشيخ يوسف القرضاوي -رحمه الله تعالى- إلى أنه “لا مجال للسؤال عن جواز إقامة المسلم في بلد غير مسلم أو في (دار الكفر) كما يسميها الفقهاء”، مما يعني أن هذا الموقف لم يعد يرى للسؤال نفسه أي مشروعية.
يبدو هذا الموقف الثالث متقدمًا على سابقيه، ولكنه لم يعالج المسألة معالجة وافية؛ إذ بقي متذبذبا فيما يخص القسمة التي خضعت لها تصوراته؛ فقد شكلت القسمة مستندَه النظري للقول بفقه للأقليات المسلمة كما سبق (بالإضافة إلى صناعة الاستثناءات)، بل إنه اتكأ عليها -أحيانًا- لبناء بعض التعليلات الفقهية لبعض الفتاوى الخاصة بالأقليات، كما في تجويز أخذ القرض بفائدة من البنك التجاري لشراء مسكن؛ بالاستناد إلى أثر قسمة العالم في الأحكام على رأي بعض الفقهاء ممن أجازوا التعامل بالربا في دار الحرب.
قد نكون اليوم بحاجة إلى البحث عن رؤية جديدة للعالم تلائم التحولات الجارية، خاصة في ظل علاقات السياسة والسلطة من جهة، وحركة البشر ومنظومة الحقوق المرتبطة بهم من جهة أخرى
فالواقع أن الانتقال إلى منظومة الدولة القومية والنظام الدولي الحديث جعل من منظومة الخلافة وما تعلق بها (ومنه قسمة العالم) مسألة تاريخية، وإن كان بعض منظري التنظيمات المسلحة قد جعلوا هذه القسمة من المعلوم من الدين بالضرورة.
تقسيم العالم -وإن ورد في بعض الآثار وأخبار السيرة النبوية ودلّ عليه زمان التشريع الإسلاميّ في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومَن بعده- كان توصيفًا لواقع تاريخي تبعا للحالة السياسية التي كانت سائدة آنذاك، بمعنى أنه لم يكن حكمًا تكليفيا، ولذلك لم نجد أي دليل يأمر به أو يطلب الامتثال له، بل عامة ما ورد فيه هو توصيف لوقائع الحال وهو ما انتهى إليه الشيخ عبد الله الجديع فيما أذكر.
مما يدل على أنه مسألة تاريخية أن الواقع تغير في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فظهر مفهوم جديد هو “الدار المركبة”. فحين سئل عن بلدة “ماردين” هل هي بلد حرب أم بلد سلم؟ أجاب بأنها “دار مركبة فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار. بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتَل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه”. وإذا ما نظرنا إلى واقع النظام الدولي وجدناه أبلغ أثرا وأكثر تعقيدا من حال الدار المركبة التي عاينها ابن تيمية في زمنه.
قد نكون اليوم بحاجة إلى البحث عن رؤية جديدة للعالم تلائم التحولات الجارية، خاصة في ظل علاقات السياسة والسلطة من جهة، وحركة البشر ومنظومة الحقوق المرتبطة بهم من جهة أخرى (القانون الدولي الإنساني، وقوانين الهجرة واللجوء)؛ خاصة مع تصاعد سطوة الدولة الاستبدادية بحدودها الضاغطة وأنظمتها القامعة.
من ذلك مثلا أنه يمكن استعادة مفهوم “أرض الله” الذي يَرِد في القرآن الكريم أربع مرات (النساء 97، والأعراف 73، وهود 64، والزمر 10)، كما يرد في جملة من الأحاديث النبوية لعل أشهرها قوله صلى الله عليه وسلم عن مكة: “وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ” (رواه أحمد وغيره). و”أرض الله” يكمّله مفهوم “خلفاء الأرض” الذي يرد صريحا مرة واحدة (في سورة النمل، الآية 62) وغير صريح مرتين على الأقل (في سورة الأعراف، الآية 69 والآية 74)، كما يرد بلفظ “خلائف الأرض” أو “خلائف في الأرض” ثلاث مرات (في سورة الأنعام- الآية 165، وسورة يونس- الآية 14، وسورة فاطر- الآية 39).
ووجه التكامل بين التعبيرين (أو المفهومين) أن تعبير “أرض الله” يحدد الملكية الأصلية للأرض، بينما يحدد تعبير “خلفاء الأرض” وظيفة الإنسان على هذه الأرض. فـ”أرض الله” يرد صريحا في قوله تعالى -مثلاً- ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف 128)، بينما ينسب الكافرون -في المقابل- الأرضَ لأنفسهم ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾ (إبراهيم، الآية 13)، الأمر الذي يتكرر على لسان الكافرين في القرآن بصيغ متعددة، منها: “أرضنا” و”أرضكم” (في سورة الأعراف- الآية 110، وسورة طه- الآية 57 والآية 63، وسورة القصص- الآية 57، وسورة الشعراء- الآية 35). أما تعبير “خلفاء الأرض” فيوضح أن الإنسان مستخلف في الأرض وليس مالكا لها، والاستخلاف يعني أنه أُوكل إليه مهمة التصرف فيها بمسؤولية وإعمارها، ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود، الآية 61)، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (يونس، الآية 14)، وهذا معنى التسخير والتذليل.
تبدو الأرض -في القرآن- ميراثًا مستقبليًّا للصالحين ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور، الآية 55)، ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون﴾ (الأنبياء، الآية 105)، وهذه الرؤية لا تتحقق إلا بالسياحة في الأرض ونشر دعوة الإسلام، لا بالتقوقع داخل حدود جغرافية محددة كما كان الشأن تاريخيا لعوامل مفهومة اقتضتها علاقات السلم والحرب من جهة، والقدرة على الوفاء بالواجبات الدينية (حرية التدين) من جهة أخرى.
هذه السياحة في الأرض تفرضها اليوم عدة أمور منها:
- تأمين الضروريات الخمس في ظل حالة الاستضعاف والاضطهاد.
- نشر الدعوة وحمل الرسالة للعالمين.
- سد الحاجات والقيام بالواجبات عن طريق التجارة.
- طلب العلم وغير ذلك مما اقتضه تغيرات العالم اليوم من التواصل.
- بناء العلاقات والمؤسسات.
- الإسهام في العالم وحالة التدافع بين الحق والباطل.
يحيل مفهوم “أرض الله” -إذن- إلى ثلاثة معانٍ مركزية:
- حرية الحركة في أرض الله.
- العُمران؛ لأن الأرض إرثٌ للصالحين، وهذا إخبارٌ وإنشاءٌ، أي أنه طلبٌ إلى الصالحين بوراثة الأرض جاء بصيغة الإخبار.
- تثبيتُ معيار الخير العام، كما ورد في الحديث النبوي عن عُرْوَةَ قال: “أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى أن الأرض أَرْضُ الله، والعبادَ عباد الله، ومَن أَحْيَا مَوَاتًا فهو أَحَقُّ به” (رواه أبو داود)، وعن الزُّبَيْرِ بن الْعَوَّامِ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “الْأَرْضُ أَرْضُ اللهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللهِ، فَحَيْثُ وَجَدَ أَحَدُكُمْ خَيْرًا فَلْيَتَّقِ اللهَ وَلْيُقِمْ” (رواه الطبراني).
الخروج من صناعة الاستثناء الذي قام على فكرة الخصوصية
الأصل الثاني الذي قام عليه “فقه الأقليات المسلمة” -كما سبق- صناعة الاستثناء وتوسيعه ليستقيم بمعزل عن الفقه العام بل وأصوله؛ بناء على أطروحة الخصوصية التي شرحتها في مقال الأسبوع الماضي الذي أوضحت فيه أن التنظيرات لهذا الفقه الخاص لم تفلح في إثبات أصول خاصة تعزله عن الفقه العام، كما أن الانشغال بفكرة “الجماعة المسلمة” في الغرب كاد يهمّش قضايا الأفراد والتدين الفردي. ولذلك سأوضح هنا جملة نقاط توضح أن حال الأقلية لا يختلف عن حال الأكثرية في السياق الحديث، وإن اختلفت بعض التفاصيل التي لا تنهض لإفراد فرع خاص من الفقه، وهي:
النقطة الأولى: الموازنة بين السياسي والقضائي والفردي
ثمة ثلاثة مستويات هنا يجب الوفاء بها جميعا دون حيف، تشمل الجوانب السياسية والقضائية والفردية.
أولاً: المستوى السياسي
نجد أننا -مجددًا- أمام نظام الدولة الحديثة المفارق لنظام الخلافة، وعلينا التعامل معه بحيوية نقدية، وهذا سيؤثر على مسائل وأحكام تتصل بهذا التحول، من بينها -كما سبق- مسائل الجهاد والهجرة واللجوء، وغيرها.
ثانيا: المستوى القضائي
وهو قَسيم الدياني، والأصل في الشريعة الاحتكام إلى الدياني والضمير الفردي، ولكن عند التنازع يُلجأ إلى القضاء، غير أن القانون في الدولة الحديثة توسعت سلطته، لأنه بات يعبر عن سيادة الدولة نفسها: تشريعا وحاكمية وتنفيذا، وفي مسائل أوسع من مسألة الخصومات فقط، ويدخل فيها كل مسائل التوثيق والإلزام والإجراءات والتقاضي وغيرها، وهذا أحد تحولات الانتقال من منظومة الخلافة إلى منظومة الدولة القومية ذات السيادة، والتشريع وسيادة القانون هما التعبير الأبرز عن هذه السيادة.
وفي رأيي أنه لا بد من تقليص مساحة القانوني قدر الإمكان، وتعظيم علاقات الثقة بين الناس، وتقوية مساحة الضمير الفردي؛ فعلى سبيل المثال يمكن الاحتكام في أحكام الميراث إلى أمانات المكلفين من الورثة وإن كان التشريع القانوني مغايرًا لذلك، مما يعني أن المسألة ترجع إلى ديانات الأفراد من جهة، وإلى الرضا والاختيار فيما بينهم من جهة أخرى على أي وجه كانت قسمة الميراث.
أما على المستوى الفردي -ولعله الأوسع بين المستويات الثلاثة- فيجب على المسلم أن يتعلم ما لا يَسع جهله من ضروريات الدين، وأن يقتصر استفتاؤه للمفتي على حدود المسائل المشكلة فقط. هذا يعني أن عموم المسائل الفردية لا تخرج عن أحد منهجين:
- الأول: اجتهاد المكلف في تحقيق المناط، وهنا يجب التمييز بين الحكم والفتوى؛ إذ الفتوى هي تنزيل الحكم العام على واقعة حال أو شخص معين، والمكلف هو أعلم الناس بملابسات حالته؛ فالأصل أنه هو الذي ينزل الحكم على واقعته.
- الثاني: استفتاء القلب الذي يوجب علينا تنمية الضمير الفردي والحاسة الأخلاقية الفردية لدى الناس؛ حتى تقوم بدور فاعل في الممارسة؛ لأن كثرة الاعتماد على استفتاء في كل صغيرة وكبيرة أضعف هذه الحاسة.
في المسائل المركبة، وخاصة في الحقل السياسي والاجتماعي، نلجأ إلى مقياس خير الخيرين وشر الشرين لانعدام الخير الخالص؛ ففي كثير من الأحيان تكون الخيارات المتاحة للفاعل مربكة، ومن ثم يصبح تقليل الشر مصلحة شرعية مطلوبة أيضًا
النقطة الثانية: تجديد منهج النظر إلى الفقه ورفع كفاءة المتفقهة
وذلك للوقوف على ثلاثة أمور:
- الأول: التحول التاريخي والسياسي الذي طرأ على الفقه في الانتقال من الخلافة إلى الدولة (ومن ثم هناك تقاطعات بين الشرق والغرب في فكرة نظام الدولة نفسه).
- الثاني: التعددية الفقهية التي انطوى عليها الفقه نفسه (الحد الأدنى ما ثبت فيه الإجماع وكان من مسائل التشريع).
- الثالث: مدارك الأحكام؛ فالأحكام معقلنة ولها مدارك وليست مقولات تعبدية لا يُعقل معناها، كما تبدو مع بعض مفتي اليوم، وغالب الفقه معلل، وهذا يؤدي إلى مرونة وسعة في الفهم والقبول من جهة، وانفتاح على تحولات السياق من جهة ثانية، ودقة في التنزيل على الوقائع المتغيرة دون جمود على المنصوص في كتب الفقه من جهة ثالثة.
النقطة الثالثة: التمييز بين التشريعي وغير التشريعي
ميز الأصوليون في أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم بين خمسة أنواع رئيسة هي:
- ما فعله لامتثال أمر الله كما في “إذا قمتم إلى الصلاة”.
- ما فعله لبيان الأمر الإلهي المجمل كما في “صلوا كما رأيتموني أصلي”، و”خذوا عني مناسككم”.
- ما فعله جِبِلَّةً كالقيام والقعود والحركة والأكل والشرب، وإن كانت مواظبته على فعل على هيئة معينة قد تُخرج الفعل من الجبلي إلى التشريعي، وفي هذا خلاف بين الأصوليين. كما في الجلوس بين الخطبتين الذي عده الشافعية واجبًا، وكما في الاضطجاع بعد سنة الفجر الذي عده الشافعية مندوبًا، وكما في الذهاب من طريق والعودة من طريق آخر في صلاة العيد الذي وقع في حكمه الخلاف بين الفقهاء.
- الفعل الخاص به صلى الله عليه وسلم ككقيام الليل الذي كان واجبًا في حقه، والزيادة على أربع زوجات التي أبيحت له خاصة.
- الفعل المجرد أي ما فعله ابتداء ولم يكن واحدا من الأقسام الأربعة السابقة، كلبس النعلين في الصلاة كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، وسائر أفعاله الدنيوية وهو ما وقع في حكمه خلاف عريض بين الأصوليين.
محل الكلام هنا، أنه إذا وقع هذا التمييز في فعل النبي نفسه صلى الله عليه وسلم، فكيف بعمل المسلمين التاريخي؟ ولذلك وجب التمييز هنا بين الإسلام المعياري الذي يعبر عنه النص المرجعي، والإسلام التاريخي الذي يدخل فيه التجربة الإسلامية التاريخية والفهوم المتعلقة بالمعارف الزمنية. ففي الإسلام التاريخي يجب أن نلتفت إلى أهمية أربعة أمور:
- الأمر الأول: التمييز بين الأبعاد التشريعية والأبعاد الثقافية التي باتت اليوم أكثر تركيبًا وإن كان يجمعها تعبير “غير التشريعي”، فكثير من الحديث عن الهوية يختلط فيه الثقافي وعادات البلد الأصلي الذي جاء منه المهاجرون ممن صاروا يصنفون ضمن “الأقليات المسلمة”، كما أن الأعراف والفهوم والتجارب البشرية متغيرة ومنطبعة بالمكان والزمان، ولذلك يجب أن نطور البحث في معايير هذا التمييز؛ خصوصًا أنه جرى تضخيم التشريعي لدى طائفتين: السلفية والإخوان المسلمين، فالأولون ضخموا الواجبات العقدية والفقهية، والأخيرون اخترعوا واجبات دينية سياسية جديدة (كالقول بوجوب الانتخاب ونحوه).
لعل مما له دلالة هنا في هذا التمييز بين التشريعي وغيره قول الإمام القرافي -رحمه الله- “إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجرِهِ على عُرف بلدك، واسأله عن عُرف بلده وأَجْرِه عليه وأَفْتِه به دون عُرف بلدِك والمُقَرَّرِ في كتبك، فهذا هو الحق الواضح”، وقول الإمام ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: “من أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلَّ وأضلَّ”، وقول ابن عابدين -رحمه الله تعالى: “المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح اللفظ، وإما أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد ورأي، وكثير منها ما يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه، بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولا.
ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد: إنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس؛ فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عُرف أهله، أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزم عنه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد؛ لبقاء العالَم على أتم نظام وأحسن إحكام”، ويمكن أن نضرب أمثلة عديدة على هذا مما بات مسائل عامة تشترك فيها الأقلية والأكثرية، كالوشم والنمص، وضرب الزوجة وضرب الصبيان تأديبًا، وغير ذلك مما يتصل تقويمه بأعراف اجتماعية وثقافية ويظنه بعض المفتين اليوم مسائل تشريعية ثابتة (ناقشت النمص وضرب المرأة في مقالات سابقة على موقع الجزيرة نت).
- الأمر الثاني: الإفادة من علوم السياق، أي العلوم الاجتماعية والإنسانية في تصويب الأفهام وضبط المصالح والمفاسد، ووزنها بعيدًا عن التقديرات الاعتباطية أو الظنية (كعلوم السياسة والاقتصاد والفلسفة والاجتماع والنفس)؛ فإن لها أثرًا مهمًّا في فهم الواقع وتقدير المصالح والمفاسد؛ حتى يتسنى للمفتي تنزيل الأحكام عليه.
- الأمر الثالث: أن تعقيدات الزمن الحاضر لم يعد يندرج بعض أو كثير منها ضمن ثنائية الصح والخطأ التي تتسم بالوضوح الشديد، ومن ثم بات كثير من إشكالات اليوم يتصل بالحقول متعددة التخصصات ويتطلب اجتهادًا جماعيًّا أو رؤية مركبة متعددة التخصصات (غالب المعضلات الأخلاقية متعدد التخصصات، كإشكاليات الهجرة واللجوء، والتعديلات الجينية، وحكم سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وغيرها).
وفي مثل هذه المسائل المركبة، وخاصة في الحقل السياسي والاجتماعي، نلجأ إلى مقياس خير الخيرين وشر الشرين لانعدام الخير الخالص؛ ففي كثير من الأحيان تكون الخيارات المتاحة للفاعل مربكة، ومن ثم يصبح تقليل الشر مصلحة شرعية مطلوبة أيضًا، ويصبح التقويم بسبب عموم البلوى مختلفا، وربما سقط الأمر والنهي بفضل عدم توفر شرطي إمكان العلم والعمل كما قال ابن تيمية رحمه الله، ويصبح التدرج في تبليغ الأحكام مسألة مهمة كذلك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه.
- الأمر الرابع: البحث -دومًا- عن القيم الكلية المشتركة، وتسكين مسائلنا المعاصرة (وليس فقط الأقليات) ضمنها، مع بيان الفوارق وعقلنتها؛ فعلى سبيل المثال المثلية الجنسية تمت شرعنتها بإدراجها ضمن قيمة أعم هي حماية المستضعفين (vulnerable people)، فنحن نتفق على القيمة الكبرى ولكننا نختلف حول ما يصح إدراجه فيها وما لا يصح، وما المعايير التي يُحتكم إليها في ذلك؟ والله أعلم.