“الحريق” ونبوءة الثورة الجزائرية.. دور الأدب في قيادة الكفاح | آراء
تمنيت لو أن الأديب الجزائري محمد ديب (1290-2003) كتب رواية “الحريق” بلغة العرب التي كان يمكن أن تزيدها إشراقا، فالمترجم مهما اجتهد لا يستطيع أن يعبر عن المعاني التي تتدفق في قلب الأديب.
واللغة الفرنسية يتحدث بها المستعمر الذي احتل أرض الجزائر، وأباد الملايين من شعبها، فلم تكن صالحة ليعبر بها محمد ديب عن أحزان الجزائريين وكفاحهم وثورتهم.
لكن هذا لا يقلل من أهمية ترجمة السوري سامي الدروبي للرواية (توفي 1976)، واجتهاده في تصوير الحياة في الجزائر بلغة العرب.
تبلورت تلك الأمنية عندما قرأت في شبابي إنتاج الأدباء الجزائريين الذين قدموا إنتاجهم باللغة الفرنسية، فقد زاد إدراكي لتلك العلاقة القوية بين اللغة العربية والحرية، وأن استخدامها هو جزء من الهوية والحضارة والروح، ووظيفة الكاتب هي أن يقود كفاح شعبه من أجل الحرية بلغته ولغتهم، وشكل ذلك كله قراري الشخصي أن أكتب باللغة العربية رغم إدراكي أن اللغة الإنجليزية كان يمكن أن توفر لكتبي مجالا واسعا للتأثير، والتدريس في الجامعات، والمال والشهرة.
و”الحريق” قد تكون الرواية الأشهر بين أعمال ديب، بل قد تكون الأشهر في الأدب الجزائري عموما، واعتبرها كثيرون نبوءة بتفجر ثورة التحرير الجزائرية، فقد صدرت لأول مرة عام 1954 قبل 4 أشهر فحسب من اندلاع الثورة، وعالجت في فصولها تلك المظالم التي عاشها الجزائريون، وصراع الهوية الذي كانوا يخوضونه في مواجهة الاستعمار.
وهذه الرواية هي العمل الثاني من ثلاثية للكاتب ضمت أيضا رواية “الدار الكبيرة” في 1952 و”النول” في 1957، وقد حظيت بشهرة واسعة خارج أوساط المهتمين بالأدب، ولا سيما بعد تحولها إلى مسلسل تلفزيوني في السبعينيات من القرن الماضي، إضافة لإدراج أجزاء منها ضمن المقررات المدرسية.
ثورة أحرار لا لصوص
قال الشيخ: “إنني أحس أن اللحظة التي سنفهم فيها واجباتنا الجديدة أصبحت قريبة، فلن تلبث أن تأتي”.
إنها نقطة البداية عند محمد ديب: إدراك معنى الحياة الذي يشرق في النفس عندما تفهم الواجبات، لكن ما تلك الواجبات؟
رغم أن الفرنسيين سرقوا أرض الجزائر، وأقاموا عليها مزارعهم فإن الصبي “عمر” يرفض أن يقتحم سور إحدى المزارع ليسرق، ويبرر ذلك بقوله: إنه لا يسرق، ويريد ألا يسرق في يوم من الأيام، وأكثر من ذلك أن هذه البساتين للأوروبيين، وهو يجب أن ينظر إليهم وجها لوجه، لا يغض طرفه حين يراهم، ولا شك أن الأوروبيين يتمنون أن يروا العرب لصوصا يسرقون، كان “عمر” يحرص على أن يسلك سلوك الرجال، وعلى أن يتكلم كما يتكلم الرجال.
هنا يبدوا الموقف واضحا، والصبي عمر يعبر بقوة الرجال عن نقطة الانطلاق نحو المستقبل، فنحن نحرر أرضنا، ولا نسرق شيئا من أحد، نحن ثوار أحرار ولسنا لصوص.
ومن الواضح أن محمد ديب كان يدرك أهمية الصورة الذهنية ودورها في كفاح الجزائريين، وأنها من أهم الإنجازات التي يمكن أن يحققها الشعب.
فهل سبق محمد ديب علماء الاتصال في توضيح أهمية الصورة الذهنية؟
جنون الحرية حكمة وصواب
الذين يريدون أن يتحرروا وأن يحرروا أرضهم، أصبحوا يستيقظون كل ليلة، ويمدون آذانهم منصتين، فجنون الحرية قد صعد إلى رؤوسهم، من ذا يحررك يا جزائر؟
إن شعبك يمشي في الطرقات يبحث عنك.
والجدة “أم الخير” تروي عن أيام الحرية التي سبقت مجيء الفرنسيين. تقول “أم الخير”: إن جدها كان محاربا عظيما، فارسا كبيرا حكيما، يعلو بعدله وخيره وبسالته، كان جدها إنسانا ملكا.
وأما الآن فقد أصبحت ألوف الهكتارات من الأرض لمستوطن واحد من الفرنسيين، وهؤلاء المستوطنون جميعا وصلوا إلى هذه البلاد بأحذية مثقبة نعالها، وها هم أولاء الآن يمتلكون مساحات من الأرض لا تعد ولا تحصى.
الخروج من السكون
ثم إذا بهذا العالم الصغير الراكن الساكن الهادئ يتحرك، لقد قام الفلاحون بإضرابهم، إن البلاد تفيق، تخرج من ركودها، فتسير فى أول الأمر سيرا بطيئا، سير من صحا من نوم طويل ثقيل، إنها تسير في طريق الحياة.
صاح “علي بن رباح”: الناس في هذه البلاد من طين كريمة، قلوبهم لا تزال سليمة، كل ما كابدنا من بؤس ومن شقاء لم يفسدنا، إننا لم نخفض رؤوسنا في يوم من الأيام، فلن نخفضها اليوم، كل رجل من هؤلاء الرجال أشبه بالبارود، يكفي أن تسقط عليه شرارة.
يقول “بادعدوش”: إن كان خبزنا أسود، إن كانت حياتنا سوداء، فإليهم يرجع السبب في سواد خبزنا، وسواد حياتنا جميعا.
وقال “بن أيوب”: في كل يوم ينتزعون قطعة من لحم أجسادنا، فما يبقى في مكان اللحم المنتزع إلا جرح عميق تنزف منه حياتنا، إنهم يقتلوننا ببطء، أيها الجيران: لأن تموتوا خير من أن تتركوا شبرا من هذه الأراضي، إذا تركتم أرضكم عشتم أنتم وأبناؤكم بؤساء إلى آخر الحياة.
هذه ليست حياة
تتصاعد الأحداث فيلخص “بن أيوب” القضية، حياتنا هذه ليست حياة، أبناؤنا وأجدادنا كانت عليهم واجبات، كانت الحياة عندهم لا تخلو يوما من الواجبات، وشعورهم بهذه الواجبات هو الذي جعل منهم رجالا، أما نحن فلم نجد خيرا من التحلل من واجباتنا.
من الواضح أن محمد ديب يؤكد هذا المعنى، فلا قيمة للحياة إن لم يقم الإنسان بمسؤولياته وواجباته.
هل نملك حرية الحياة؟
في حوار يتضمن الكثير من المعاني التي تشكل أساسا لرؤية الثورة يتساءل “سليمان”: هل نحن نملك حرية الحياة؟ ثم يجيب: نحن لا نملك حرية العيش كما نريد.
قد تظن أنك حر بشخصك، ولكن شعبك ليس حرا، فأنت إذن لست حرا أيضا، ذلك أنه لا وجود لك إلا في شعبك، هل في وسع ذراعي هذه أن تعيش بغير جسمي؟ أبدا، مع ذلك قد تتوهم أن هذه اليد مستقلة عن الذراع، كذلك شأنك أنت بين إخوانك.
هكذا يبدع محمد ديب، ويقدم أفكارا جديدة، فحرية الإنسان ترتبط بحرية شعبه وأمته ووطنه.
أرادوا أن يكونوا آلهة
استخدم محمد ديب شخصياته للتعبير عن جوانب مختلفة من القضية، فقال “سيد علي”: إن الفرنسيين نصبوا أنفسهم آلهة وأربابا، وأرادوا أن نتجه إليهم بالعبادة.
ويضيف “سيد علي”: أما الصداقة فلا مجال للحديث عنها إنهم يتصدقون علينا تصدقا، وذلك أقسى على النفس من الاحتقار إنهم ينظرون إلى المسلمين على أنهم ليسوا بشرا أفليس طبيعيا أن نهب الآن فندافع عن أنفسنا؟ ألا يجري سلب الناس أرزاقهم باسم فرنسا؟ ألا يودع الأبرياء في السجون باسم فرنسا؟ ألا يجوع الناس باسم فرنسا؟ ألا ترتكب جرائم القتل باسم فرنسا؟ لقد اقترن اسم فرنسا بأعمال حقيرة.
ويواصل: لم يستطع الاضطهاد في يوم من الأيام أن ينتصر على الشعوب، إن اتحاد الشعوب سيمزق هذا الاضطهاد في جميع البلاد.
سراج يتحدى التعذيب
اعتقل الفرنسيون “حميد سراج” وعذبوه حتى أشرف على الهلاك، لولا أنه تمسك بالحياة رغم الدم الذي يقطر من عينيه، لكن الإضراب انتشر في جميع القرى، لقد شب حريق لن ينطفئ، ولن ينقطع لهيبه الدامي إلا بعد أن يغرق البلاد كلها بلألائه.
قال “سليمان” لنفسه: إن طاقات البلاد لم تستيقظ بعد.
وقال الشيخ: نحن نعرف أين هم الأبرياء، إنهم موثقون بالسجن والضرب والدم أيضا، إن دمنا يسفح، وسيظل يسفح ما في ذلك ريب، وهكذا سوف تتحد صفوفنا فلنظل متحدين بالدم الذي بيننا.
وقال “عزوز”: إن الله لا يبيح لنا نحن المسلمين أن نقنط.
اعتقلت الشرطة الكثير من الفلاحين، فالتفت جموع الفلاحين حول المعتقلين فجأة واندفعوا يطوقون الشرطة التي تقود موكب السجناء، رغم التهديد باستخدام القوة، لم يتراجع الرجال، وتدفق الفلاحون من الحقول: إننا يجب أن نحطم الاستبداد وأن ندفنه.
سلطات فرنسا تستجوب الناس وتتهمهم بالتآمر على فرنسا والانتماء إلى حزب الشعب الجزائري أو الحزب الشيوعي، ويكون الاستجواب مصحوبا بالضرب بالسياط.
بعد 3 أشهر فقط من صدور هذه الرواية ثار الجزائريون ضد الاحتلال الفرنسي، يعبرون عن حلمهم بالحرية والاستقلال والعزة والكرامة.
لقد توقع محمد ديب في روايته ثورة الجزائر، لكن ذلك يطرح سؤالا مهما: كيف يمهد الأدب للثورة؟