السيرة النبوية في السينما.. الغياب والقيود والإمكانيات | آراء
يدفع المُهر الصغير “رياح” باب إسطبل الخيول برأسه وينطلق كالريح يعدو كي يجلب لأمه زهرة بمناسبة يوم عيد ميلادها. وبعد أن وجد ضالته وقبل أن يصل إلى بيته، دخل مجموعة من التجار إلى الإسطبل ليشدوا وثاق أمه الفرسة، يقتادوها عنوة بعد أن بيعت لأحد التجار.
يكتشف صديقه الطائر الصغير الخبر فيطير مسرعا إلى “رياح” ليخبره بما جرى فيعود المهر الصغير باحثا عن أمه في الإسطبل فلا يجدها لينفطر قلبه ويخوض غمار رحلة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بحثا عنها ويسير فيها على خطى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في فيلم الرسوم المتحركة التركي “المهر” (Tay) للمخرج التركي نور الله ينيهان، إنتاج عام 2022.
لم تشهد دور السينما في العالم العربي منذ فترة طويلة إنتاج أفلام تجسد جوانب من السيرة النبوية الشريفة رغم تطور الإمكانيات الفنية والضخ المالي والاستثمار بقطاع الإنتاج السينمائي في عديد من الدول العربية
عُرض الفيلم في دور السينما التركية قبل أشهر أواخر عام 2022. وبحسب وكالة الأناضول للأنباء، فإن خطط عرضه شملت السينما في دول الخليج السعودية وقطر والإمارات والبحرين وسلطنة عمان والكويت في الوقت ذاته تقريبا. وهو يعد أول عمل فني تركي للرسوم المتحركة يعرض في الشرق الأوسط، وهو من إنتاج مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية “تي آر تي” (TRT). وبعد انتهاء مدة العرض السينمائي أتاحته المؤسسة مجانا عبر الإنترنت قبل أسابيع قليلة لكنه غير مترجم للعربية أو الإنجليزية للأسف.
ورغم أن الفيلم موجه للأطفال، فإنه يمثل إحدى المحاولات السينمائية الجادة لتصوير السيرة النبوية الشريفة بشكل جذاب وبإمكانيات درامية وفنية عالية، إذ يبتعد عن السرد القصصي التقليدي ويروي السيرة على لسان أحد الحيوانات وهو المهر الصغير “رياح” في رحلته للبحث عن والدته والتي تتقصى رحلة الهجرة النبوية ذاتها من مكة إلى المدينة. وخلال هذه الرحلة يتعرف المهر على جمل كبير السن حكيم. وبعد أن تهب عليهم عاصفة رملية يأوون إلى كهف ويبدأ الجمل في رواية قصة سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم وسيدنا أبي بكر الصديق خلال الهجرة ومعاناتهما مع مشركي مكة.
ولم تشهد دور السينما في العالم العربي منذ فترة طويلة إنتاج أفلام تجسد جوانب من السيرة النبوية الشريفة رغم تطور الإمكانيات الفنية، ورغم الضخ المالي والاستثمار في قطاع الإنتاج السينمائي في عديد من الدول العربية. وأعتقد أن هذا الغياب يعود لعدة عوامل.
أولا: ارتبطت الأعمال الدينية في السينما بجدال فقهي وديني موسمي ينحصر في مسألة إمكانية تجسيد الأنبياء والصحابة على الشاشة من عدمه أو معارك أفلام تسئ للإسلام والأنبياء. وهو ما جعل أي خوض في هذه المساحة الإنتاجية محفوفا بالمخاطر ابتداء، وقد أدى هذا لعزوف كثير من المخرجين والمنتجين عن مثل هذه الأعمال تجنبا للمشاكل. وحقيقة الأمر أن مساحة المباح والمتفق عليه فقهيا في مسألة الأعمال الدينية على شاشة السينما أوسع كثيرا من مساحة الاختلاف رغم طغيان أخبار المشاكل بسبب محاولات المخرجين الغربيين المتكررة الدخول إلى هذه المساحة وتصدي العلماء والجماهير في العالم الإسلامي لهم بسبب مشاكل في القصة أو تجسيد أحد الشخصيات.
ويحسب لبواكير السينما العربية أنها كانت متحررة من هذه الصراعات لأنها قدمت أعمالا عديدة مستوحاة من السيرة مثل الفيلم المصري “بيت الله الحرام” من إخراج أحمد الطوخي وإنتاج عام 1957 والذي يقدم قصة حملة أبرهة الحبشي لهدم الكعبة. وهناك أيضا فيلم مصري آخر هو “خالد بن الوليد” من تمثيل وإخراج حسين صدقي وإنتاج عام 1958.
ثانيا: إن معالجة السيرة النبوية في العقود الأخيرة اقتصرت على المسلسلات الدرامية ربما لظروف الميزانية من جهة، وللرغبة في الوصول إلى شرائح أوسع خاصة أفراد العائلات من جهة أخرى. وقد تحقق هذا الغرض الأخير إلى درجة ما، لكن هذه المعالجة البصرية جعلت فصول السيرة وأحداثها فقيرة إلى حد كبير من ناحية الديكور والإخراج مقارنة بأحدث تقنيات الصورة والسرد البصري الذي وصلت إليها صناعة السينما في العالم. وبالتالي أنصب النقاش بعد أي مسلسل مستوحى من السيرة على فكرة السيناريو ومدى مطابقة الحوار لما ورد في كتب التراث من دون تجاوز ذلك إلى فحوى الرسالة البصرية وراء العمل، ومدى نجاعتها ووصولها إلى الجمهور.
ثالثا: حُصر السرد القصصي والبصري المكاني للأفلام القليلة التي تناولت السيرة النبوية الشريفة في كل من مدينتي مكة والمدينة رغم أن أحداث السيرة بها كثير من التنوع المكاني والعرقي، مثل هجرة المسلمين إلى الحبشة والتي دامت سنين طويلة، وهو ما يعني ان شرق إفريقيا هو جزء لا يتجزأ من السيرة النبوية. فلم تركز الأفلام على هذا الجانب الأفريقي في السيرة النبوية وكل ما يتعلق بها من دخول أهل الحبشة الإسلام والمفارقة بين عام الفيل وحملة أبرهة التي أتت لتهدم الكعبة والبلد ذاته الذي يسوق له القدر بعدئذ حاكما عادلا هو النجاشي ليؤوي الصحابة من رجال ونساء. وكيف أن هجرة الحبشة ليست هجرة واحدة بل هجرتان وبهما من تفاصيل العلاقة مع أهل أفريقيا، والقصص كثيرا مما يستحق أن يظهر في المعالجات الفيلمية.
يبقى فيلم “بلال.. سلالة بطل جديد” للمخرج الباكستاني خورام آلافي -وبالتعاون مع الممثل الأميركي الشهير ويل سميث إنتاج عام 2015- أحد الأفلام الاستثنائية في هذا المجال. الفيلم حاول تقديم صورة أخرى للصحابي بلال بن رباح رضي الله عنه باستخدام تقنيات حديثة وبعملية تطوير للسيناريو استغرقت سبع سنوات وتعاون إنتاجي عربي غربي مشترك. والفيلم خارج عن فكرة المقال لأنه لا ينتمي حقيقة للسينما العربية وإنما حاول تقديم عمل سينمائي يناسب الجمهور الغربي أكثر من العربي، بعد أن جرى تجريد الشخصية من كثير من خصائصها ودسمها الروحي مثل فكرة أنه مؤذن سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم، والتركيز الشديد على مسألة العبودية والتحرر.