من القيثارة السومرية إلى اكتشاف العود.. ماذا قدّم العراق للموسيقى؟ | فن
من أرض بلاد ما بين النهرين وفي حضارته الأولى ومن معابد سومر في العراق القديم علت أصوات الموسيقى الأولى وأنغامها المتعددة، حتى صارت أولى ركائز الموسيقى العالمية، ومرت بعصور وأطوار عدة حتى وصلت إلى أحدث الآلات الموسيقية وأشهر المقطوعات والعازفين.
واستخدمت الموسيقى -التي وصفها ابن خلدون في مقدمته بغذاء الروح- في مختلف الفعاليات التي يقوم بها الإنسان بوصفها لغة تحاكي مشاعره وترافقه في طقوسه الدينية ومناسباته الاجتماعية وفي تربية أطفاله، حتى وصلت إلى أن تكون جزءا من علاج المرضى.
العمق التاريخي والأثري
وعن العمق التاريخي والأثري للموسيقى وبداياتها من أرض الرافدين والحضارة السومرية الأولى، يشرح الباحث في علم وتاريخ الأديان والحضارات القديمة خزعل الماجدي، أن السومريين هم أول من دوّن النوتة الموسيقية، عن طريق المقاطع الكتابية المسمارية، وقد اعتمد السلّم الموسيقى السومري على أساس النظام الرياضي السومري الستيني الذي ربط بين النغمات ورموزها المسمارية بالآلهة وأعدادها الرمزية، ووضعوا السلّم الموسيقي السباعي الذي يستوجب درجة إضافية ليكون ثمانياً من أجل إعادة التكرار، وهذه الدرجة الثامنة هي الأوكتاف، وتمثلها الإلهة إنانا بأشعتها الثمانية حيث تسلسلها السادس في السلّم الموسيقي، مشيرا إلى أن ذلك يعني أن الموسيقى السومرية ذات مدى صوتي واسع مكوّن من أوكتافين وثلثي الأوكتاف.
ويبين الماجدي -للجزيرة نت- أنه أجرى بحثا في العمق التاريخي والأثري للموسيقى، مشيرا إلى أن السبب في أن يكون السلم الموسيقي السومري سباعياً هو في اعتقاد السومريين بأن سلالم الموسيقى تناظر النظام الفلكي بكواكبه السبعة، ويناظر أيام الأسبوع. ورغم أنهم كانوا يعتقدون أن الإله إنكي كان هو إله الموسيقى، فإن إنانا إلهة الحب والجمال كانت هي المسيطرة على أداء الموسيقى عندهم، ولها قصيدة شهيرة تقول فيها على لسان كاهنتها “أنا الوتر الأول.. أنا الوتر الأخير”، وهذا يعكس اقترانها بالإله آن والإله الأخير الأرضي ديموزي معاً.
وعبر العصور، مرّت الموسيقى العراقية بمراحل عدة حتى تطورت لتناهز العالمية، فهي لون من ألوان التعبير الإنساني، وقد يتم التعبير بها عن خلجات القلب المتألم الحزين، وكذلك عن النفس المرحة المرتاحة.
في التراث الإسلامي
والتراث الإسلامي حافل بالموسيقى خاصة في العصر العباسي، حيث تلاوة الموشحات عبر مقامات متعددة، كونها تمثل نمطا من أنماط الثقافة التي تعكس صبغات صورة الثقافة المجتمعية.
وفي هذا الصدد، يقول الباحث في التراث الإسلامي محمد البخاري إن الاهتمام بالموسيقى عاد بقوة في زمن الخلافة الأموية، و لعل من أشهر المغنين في ذلك العصر “طويس” مولى بني مخزوم، و كان لا يضرب بالعود وإنما ينقر بالدف، وكان عالما بأنساب أهل المدينة، وهو أول من غنى بالمدينة غناء يدخل في الإيقاع، و هو بناء ألحان الغناء على موقعها و ميزانها.
وفي حديثه للجزيرة نت، يوضح البخاري أن الموسيقى تطورت في زمن الدولة العباسية بشكل كبير، من خلال جعلها فنا له أصوله النغمية المبنية على مقامات صوتية لكل طريقة صوتية تتناول البيت الشعري الذي غالبا ما يكون غزليا، مبينا أن من أشهر الموسيقيين وقراء الموشحات آنذاك إبراهيم الموصلي وولده إسحاق، وإبراهيم بن المهدي، وقد ساعدت الظروف الاقتصادية على أن يبلغ الاهتمام ذروته بدعم البلاط العباسي الذي كان مترفا ماديا.
أثر آلة العود
وعن أثر آلة العود في الموسيقى العراقية والعربية والعالمية، يقول الخبير في الآلات الموسيقية عمر محمد فاضل، وهو نجل صانع العود الشهير محمد فاضل وصاحب أكبر ورشة لصناعة العود في بغداد، إن العود آلة أساسية في التخت الشرقي منذ زمن زرياب الذي وضع الوتر الخامس وحتى اليوم، بفضل صناع العود الذين تمكنوا من جعله مهما في ذلك التخت، مشيرا إلى أن غالب الملحنين يعتمدون العود في التلحين لكونه يوضع بين أحضانهم ولأن مساحات السلالم كلها متوفر على “بورد” العود، ولذلك يتمكن الملحن من ضبط ألحانه.
ويشير فاضل -في حديث للجزيرة نت- إلى أن أول من اقتنى عود “محمد فاضل” من الملحنين العرب كان الموسيقار محمد عبد الوهاب، وذلك عام 1959، ومن ثم الموسيقار فريد الأطرش (عام 1963)، وفي ستينيات القرن الماضي صار عود محمد فاضل في أحضان أكثر الفنانين العراقيين والخليجيين، مبينا أن الوتر السادس أضيف إلى العود من قبل مدرسة الشريف محيي الدين حيدر وتلاميذه منير بشير وجميل بشير عام 1936، لكن كلا منهم له طريقة استعمال، أي أن منير استعمل “دو دو” وجميل “فا فا”.
وعن تاريخ العود، يوضح فاضل أن ظهوره كان في الفترة الأكادية الأولى، وكان سيد الآت الطرب لدى جميع الندماء الذين واكبوا الخلفاء الأمويين والعباسيين، وهو آلة وترية يعود أصلها إلى السومريين نحو 2450 قبل الميلاد.
سيمفونية عراقية
وتطورت الموسيقى في العراق بعدما مرت بعدة مراحل وعبر آلاف السنين، حتى تأسست فيه منتصف القرن الماضي أول فرقة سيمفونية، وكانت الأولى في العالم العربي.
ويتحدث قائد الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية المايسترو علي خصاف عن مراحل إنشائها، فيقول إن العراق يعتبر من رواد الموسيقى الكلاسيكية، خاصة أن الفرقة السيمفونية العراقية هي من أقدم الفرق في العالم العربي، فقد تأسست عام 1948، واشتهر العراقيون بتراثهم الموسيقي التقليدي وأداء المقامات المتعددة والأغنية الريفية والبغدادية، وكل ألوان الموسيقى والغناء.
ويبين خصاف للجزيرة نت أن القيثارة هي أصل آلة العود، وأن مزج الآلات الموسيقية الغربية بالشرقية هي تجربة عراقية رائدة، وأن من أبرز من أسسوا السيمفونية العراقية: الراحل جميل حافظ وأسعد محمد علي من الجيل الأول، ومن الجيل الثاني: مهدي خصاف وستار أسعد وسمير ستار، وقد ساهموا مساهمة كبيرة في وضع اللبنات الأولية للفرقة.
وبحسب خصاف، فإن عدد الفرقة السيمفونية العراقية الآن 110، منهم 90 عازفا و20 إداريا، بينما كان العدد في فترة الثمانينيات والتسعينيات نحو 50 فردا، ويزداد العدد بزيادة الآلات الموسيقية. فضلا عن ذلك، فإن الفرق تضم العديد من الشباب، موضحا أن الآلات متنوعة، شرقية وغربية، ومنها العود والناي والفلوت والتيكلو والأوبو بالنسبة للخشبيات، أما النحاسيات الهوائية فتضم الفرنجورن و الكلومبيت وغيرها، والإيقاعات المتكونة من 22 آلة مثل الطبول والأجراس والمضارب والصنوج، وكذلك الوتريات التي تعزف بقوس مثل الكمان الأول والكمان الثاني، والديولا والجلو، فضلا عن آلة البيانو.