الشيخ القارئ محمد رفعت.. “قيثارة السماء” و”بلبل الفردوس” | الموسوعة
محمد رفعت، قارئ مصري ذائع الصيت، ولد عام 1882، عُرف بصوته البديع وإحساسه المرهف، واشتُهر بلقب “قيثارة السماء” واقترن صوته بالأذان والقرآن في شهر رمضان الكريم، فعُرف بـ”مؤذن رمضان”.
هو أول قارئ للقرآن الكريم في الإذاعة المصرية، وكان يستمتع بصوته العذب المسيحيون كما المسلمون، وقد تنافست الإذاعات العالمية الكبرى على تسجيل صوته لافتتاح برامجها التي تبث باللغة العربية، وقد توفي عام 1950.
المولد والنشأة
ولد “محمد رفعت” ابن “محمود رفعت” الاثنين (التاسع من مايو/أيار 1882) في حي “المغربلين” بمنطقة الدرب الأحمر في مدينة القاهرة.
ونشأ في عائلة من الطبقة المتوسطة، وكان والده ضابطا في الشرطة المصرية، وقد عاش طفولته في الحي الشعبي الذي ولد فيه، وعانى من نكسات صعبة، أشدها كان فقدان بصره وهو لا يزال في الثانية من عمره.
وقد روت ابنته قصة فقدان بصره، حيث أخبرها والدها أنه ولد مبصرا، لكنه أصيب بمرض في إحدى عينيه، ونظرا للإهمال في العلاج ضعف بصره شيئا فشيئا حتى فقد القدرة على الإبصار بإحدى عينيه، أما الأخرى فكان يرى بها شيئا يسيرا.
وفي عام 1936 وبينما كان يقرأ سورة الكهف بمسجد سيدي جابر الشيخ بالإسكندرية، احتشد الناس على غير العادة، والتفوا حوله ليعانقوه ويقبّلوه، وبينما هم كذلك طالت أصبع أحدهم العين المبصرة عن غير قصد ففُقئت، وفقد بصره تماما بعدها.
كما عانى من اليتم، حيث توفي والده وهو ما يزال في التاسعة من عمره، فوجد نفسه مضطرا لتحمل مسؤولية عائلته.
الطريقة الصوفية والشخصية المرهفة
كان محمد رفعت صوفي النزعة نقشبندي الطريقة، وكان عفيف النفس زاهدا، أمضى حياته في مسكنه البسيط في حي “المغربلين” المكتظ بالسكان.
واشتُهر بكونه صاحب مبدأ ونفس كريمة، ولم يكن طامعا في المال، وكان يقول “إن سادن القرآن لا يمكن أبدا أن يُهان ولا يُدان”، لذلك رفض أن يسجل تلاوته لإذاعات محلية بسبب بثها أغاني كان يراها خليعة لا تتماشى مع وقار القرآن، بينما كان يتطوع للقراءة في مآتم الفقراء وأهل الحي.
وقد عرض عليه المليونير الهندي “حيدر آباد” السفر إلى الهند لإحياء بعض المجالس، مقابل 15 ألف جنيه مصري، مع التكفل بمصاريف الرحلة والإقامة؛ فلم يقبل.
كما عرف عنه العطف والرحمة ومجالسة الفقراء والبسطاء، والإنفاق بسخاء على فعل الخير وأعمال البرّ والتقوى، حتى إنه لم يدّخر شيئا لأيام الكبر والمرض.
وكان مرهف الحس ذا مشاعر فياضة، شديد التأثر بالمواقف الإنسانية، وقد ذهب مرة إلى صديق له في مرض موته، فوضع الصديق يده على كتف طفلة صغيرة، وقال “من سيتولى هذه الصغيرة التي ستصبح غدا يتيمة؟ بقي محمد رفعت صامتا، وفي اليوم التالي كان يقرأ سورة الضحى، حتى بلغ ” فأما اليتيم فلا تقهر”، فأجهش بالبكاء وقد تذكر وصية صديقه، فخصص مبلغا من المال للطفلة حتى كبرت وتزوجت.
الزواج
تزوج السيدةَ زينب من قرية “الفرعونية” التابعة لمحافظة “المنوفية” وأنجبا 5 أبناء، أكبرهم محمود الذي وُلد عام 1906، ولكن المنية وافته طفلا صغيرا، ثم وُلد محمد عام 1909، وكان بمثابة سكرتير والده ومدير أعماله.
ووُلد أحمد عام 1911، ثم أقبلت إلى الحياة الابنة الوحيدة ومدللة والدها بهية عام 1914، أما الأصغر حسين الذي وُلد عام 1919، فقد بذل جهدا كبيرا بعد وفاة والده في جمع تراثه وتسجيلاته وترميمها والمحافظة عليها.
الدراسة والتكوين العلمي
أرسله والده في سن الخامسة إلى كُتّاب “بشتاك” التابع لمسجد فاضل باشا في “درب الجماميز” في منطقة السيدة زينب، حيث تولى الشيخ محمد حميدة تعليمه، فأخذ يحفظ القرآن الكريم ويتعلم الحديث النبوي الشريف، وكان قد بدأ بحفظ ما تيسر من القرآن على يد والده.
وفي سن التاسعة أتم حفظ القرآن الكريم، وبدأ بتعلم التجويد مع الشيخ محمد البغدادي والشيخ السمالوطي، ثم تتلمذ على الشيخ عبد الفتاح هنيدي صاحب أعلى سند في وقته، ودرس القراءات السبع على يديه ونال إجازته، كما كانت له عناية واهتمام بدراسة التفسير، وإقبال على حفظ القصائد والموشحات وكذلك تعلَّم قرع الطبل والعزف على بعض الآلات الموسيقية.
ورغم عدم التحاقه بأي معهد موسيقي، فقد أبدى موهبة فذّة في أداء المقامات الموسيقية، حتى إنه كان يؤدي مقامات يحتار فيها كبار الموسيقيين والقراء في عصره كمحمد عبد الوهاب وخليل الحصري وغيرهما.
وقد صقل موهبته وارتقى بها، فأقبل على الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية بنهم، ودرس موسيقى بيتهوفن وموزارت وباخ وغيرهم من المشاهير، وكان يحتفظ بالعديد من الأوبرات والسيمفونيات العالمية.
كما كان على علاقة وثيقة بأعلام الموسيقى في عصره كسلامة حجازي وكامل الخلعي وعبده الحامولي وسيد درويش، فأخذ عنهم القواعد الموسيقية وأصول الترتيل وعلم الأصوات.
ثم ارتبط بالجيل الثاني بعدهم، مثل السنباطي وأبو العلا محمد وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وقد كان الأخير هو الأقرب منه على وجه الخصوص.
التجربة العملية
بدأ بتلاوة القرآن الكريم على مسامع الناس منذ حداثة سنه، فقد وجد شيخه فيه تميزا، وبدأ يرشحه لإحياء الليالي في الأماكن المجاورة القريبة.
وأخذ يجلس لترتيل القرآن الكريم كل خميس في المسجد المواجه لمكتب فاضل باشا، حتى عُين في سن الـ15 قارئا للسورة يوم الجمعة، فاشتُهر وذاع صيته، وأقبل إليه الناس متلهفين لسماع صوته الخاشع الشجي؛ حتى اكتظت بهم ساحة المسجد والطرقات المحيطة.
ورغم اشتهاره والإقبال الشديد عليه؛ فقد ظل يقرأ القرآن الكريم في مسجد فاضل باشا قرابة 30 عاما، وفاء منه للمسجد الذي نشأ فيه.
وقد حباه الله بصوت جميل ذي بصمة لا تتكرر، وأسلوب فريد ومميز، وكان يتلو القرآن بتدبر وخشوع؛ يجعل سامعه يعيش معاني القرآن الكريم ومواقفه بكل جوارحه لا بأذنه فقط، فكان يوصل رسالة القرآن لسامعها.
وفي هذا السياق يقول الكاتب والأديب أنيس منصور “وسرُّ جمال وجلال صوت الشيخ رفعت أنه فريد في معدنه، وأن هذا الصوت قادر على أن يرفعك إلى مستوى الآيات ومعانيها”.
وقد حاز محمد رفعت طاقات صوتية هائلة، مكنته من الانتقال بسلاسة شديدة بين المقامات، كما وظف درايته بالموسيقى والمقامات لخدمة آيات القرآن، وإخراجها في أداء راق مؤثّر يخلب الألباب، ويشعر المستمع أنه يحلق في سماوات روحية، وأجواء قدسية.
وكان صوته قويا يستطيع إسماع أكثر من 3 آلاف شخص في الأماكن المفتوحة، وكذلك امتلك إحساسا مرهفا أثناء تلاوته، فكان تأثيره في الناس مذهلا.
وأداؤه المتميز وتفرده دفع الملك فاروق والنحاس باشا للحرص على حضور حفلاته، كما اختاره الملك فاروق لقراءة القرآن والإنشاد في حفلات قصر عابدين.
كما أخذت تنهال عليه العروض، فجاب محافظات مصر، وسطع نجمه وأصبح القارئ الأول في مصر كلها، وكان يقرأ القرآن الكريم في السهرات والمناسبات الدينية والأفراح والمآتم، ولم يقتصر الاستماع إلى ترتيله على المسلمين؛ بل كان الأقباط واليهود يستمعون إليه بحب وشغف وإعجاب شديد.
واتسعت دائرة صداقاته وعلاقاته، وشملت الملوك والأمراء والرؤساء، ودعي رسميا إلى العديد من الدول العربية والإسلامية، لإحياء مئات الحفلات والمناسبات الدينية، وحظي بنصيب وافر من الأموال والهدايا.
ولم تقتصر موهبته على تلاوة القرآن، بل كذلك اقترن صوته بالأذان في شهر رمضان الكريم، فعُرف بـ”مؤذن رمضان”، كما دخل باب الإنشاد، وسجل بعض الأغاني المأخوذة من الشعر القديم في الإذاعة الأهلية، فغنى “أراك عصي الدمع”، و”حقك أنت المنى والطلب” ولكنه اشترط عدم ذكر اسمه.
وكان بيته يمثل منتدى ثقافيا وأدبيا وفنيا، يجتمع فيه أعلام الفن والموسيقى، ويغني لهم محمد رفعت عيون الشعر العربي بصوته الشجي.
بث تلاوته في الإذاعات
رشحه الأمير “محمد علي توفيق” لقراءة آيات القرآن الكريم عند افتتاح الإذاعة المصرية، فتردد كثيرا، خشية ألا تُعطى تلاوة القرآن حقها من الإنصات والإجلال، فأفتاه شيخ الأزهر الأحمدي الظواهري بجواز ذلك.
وبعد الجملة الشهيرة “هنا القاهرة” في 31 مايو/أيار 1934 صدح البث الإذاعي بتلاوة محمد رفعت لقوله تعالى “إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما” (سورة الفتح الآيات 1 و2)، فكان أول قارئ للقرآن الكريم في الإذاعة المصرية، ثم أصبح ذلك تقليدا لا يزال معمولا به؛ إذ يبدأ بث الإذاعات بآيات من القرآن الكريم.
وكان يقرأ بصوت خاشع ندي على الهواء في الإذاعة الاثنين والجمعة من كل أسبوع، لمدة 45 دقيقة في كل مرة، وكان الشعب المصري يلتف حول الراديو في المقاهي والمنازل والنوادي لسماع القرآن الكريم بصوته؛ حتى سُمي “مقرئ الشعب”.
وعرفت القاهرة للمرة الأولى ما يسمى “مقاهي الشيخ رفعت” والتي كانت تفرض على روادها نظاما صارما وقت بثّ التلاوة على الهواء، فلم يكن مسموحا فيها بألعاب الورق أو الطاولة، أو إحداث أية ضجة، كما كان عمّالها يتوقفون تماما عن تلبية رغبات الزبائن.
وكان صوته الخاشع العذب بالغ الأثر في النفوس، حتى وصل الأمر إلى تنافس كبرى الإذاعات العالمية مثل إذاعة لندن وباريس وبرلين، على تسجيل تلاوته، لجذب المستمعين خلال افتتاحية برامجها باللغة العربية.
ولكنه تردد مرة أخرى، وكان لا يحب التكسب بقراءة القرآن الكريم، وخشي من حرمة ذلك؛ لكونهم غير مسلمين، وبعد مراجعة الإمام المراغي شيخ الأزهر آنذاك، وافق محمد رفعت على تسجيل سورة مريم لإذاعة “بي بي سي” البريطانية.
واشتد به المرض عام 1948، حتى هاجمه مرة أثناء قراءته بالإذاعة؛ فتوقف عن الذهاب إلى الإذاعة مكتفيا بما قدم سابقا.
ألقابه
اشتُهر بلقب ” قيثارة السماء” ووصفه الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب بـ”الصوت الملائكي” كما سماه الشيخ أبو العينين شعيشع “الصوت الباكي”؛ إذ كان يقرأ القرآن بخشوع شديد، ودموعه تنهمر على وجنتيه، كما سمي “المعجزة” نظرا لعذوبة صوته.
وأُطلق عليه ألقاب كثيرة أخرى، منها “الصوت الذهبي” و”مؤذن رمضان” و”بلبل الفردوس”.
إنجازاته
كُشف عن بقايا تراثه المرتل بعد وفاته، وقد تمكن المهتمون من جمع 278 قرصا مضغوطا تحتوي على 19 سورة لمدة 21 ساعة، بالإضافة إلى نسختين من الأذان، إحداهما على مقام الراست، بينما الأخرى على مقام السيكاه.
ومعظم ما سُجل لمحمد رفعت بجهود فردية، وبشروط تقنية متواضعة على أقراص مضغوطة ذات نوعية رديئة، مما يظهر معه الصوت بجودة متدنية.
ولم يُسجَّل له في الإذاعة المصرية غير 3 تلاوات لسور الكهف ومريم ويونس، أما باقي تسجيلاته، فكانت من تسجيل وجمع صديقيه زكريا باشا مهران صاحب بنك مصر، والحاج محمد خميس التاجر الكبير المعروف.
وقد طالب أصدقاؤه وأبناؤه الأطراف المعنية بإجراء تحسينات على التسجيلات، وحثوا وزارة الثقافة على الحفاظ على تراث محمد رفعت، واستجابت الحكومة وأعربت عن دعمها لهذه الجهود.
مرضه ووفاته
في عام 1943م أصيب بمرض “الزغطة” أو “الفواق” وحار فيه الأطباء ولم يجدوا له علاجا، وفي البداية كانت تلازمه “الزغطة” لساعات، ولمّا اشتد مرضه كانت تهاجمه أغلب ساعات يومه بدون انقطاع، ما جعله غير قادر على التلاوة أو حتى الكلام.
وقد كان سبب الزغطة ورمٌ في حنجرته يُعتقد أنه سرطان الحنجرة، ثم توالت عليه الأمراض فأصيب بضغط الدم، والتهاب رئوي حاد.
وقد جمع له أصدقاؤه ومحبوه تبرعات مالية بلغت 50 ألف جنيه لينفقها على علاجه، كما ألح عليه الملك فاروق للتكفل بالعلاج؛ فرفض قبول أي مدد أو عون، وخصص له وزير الأوقاف راتبا شهريا، بناء على توصية الشيخ “أبو العينين شعيشع”.
وبعد 7 سنوات من معاناته مع المرض فارق الحياة في التاسع من مايو/أيار 1950، عن عمر ناهز 68 عاما، ودفن بجوار مسجد السيدة نفيسة.