السلطانة شجرة الدر.. من جارية في الحريم إلى ملكة على مصر | الموسوعة
السلطانة شجرة الدر إحدى أهم الشخصيات النسائية وأبرزها في تاريخ السياسة الإسلامية، كانت جارية لأحد ملوك الدولة الأيوبية فتزوجها وأصبحت أم أمير المؤمنين الخليل، وأول امرأة تحكم دولة إسلامية، فحكمت مصر في منتصف القرن السابع الهجري.
مهدت شجرة الدر بإدارتها وحكمها لظهور دولة المماليك في مصر، فيرى البعض أنها أول سلطانة للمماليك، بينما يرى آخرون أنها آخر سلاطين الدولة الأيوبية في مصر.
وكانت لها مواقف في مقاومة الغزو الصليبي، واستطاعت أن توقف زحفهم للاستيلاء على مصر، لكن حكمها لم يدم طويلا، وانتهت حياتها مقتولة بطريقة مأساوية.
المولد والنشأة
لم يعرف لشجرة الدر تاريخ ميلاد مؤكد في المصادر التاريخية، لكن يقدر المؤرخون أنها ولدت قبل عام 1230م بوقت قصير، واختلف المؤرخون في نسبها فقال بعضهم إنها من أصل تركي، وقيل شركسية أو أرمنية.
وتقول بعض المصادر التاريخية إنها من أرمينيا الحديثة، وتنحدر في الأصل من “الكيبتشاك” أو “القبجاق” ويعرفون أيضا بالقبيلة الذهبية، وهم جماعة من أصل تركي يقيمون في حوض نهر الفولغا وهو ما يعرف اليوم بجنوب روسيا، وقيل إنها استعبدت هناك.
وترجح هذه المصادر أن ولادتها كانت عند اجتياح المغول غرب آسيا، فضموا بعض أبناء قبائل “الكيبتشاك” إلى صفوفهم، وباعوا بعضهم عبيدا لأسر حاكمة، ومن تلك الأسر الأسرة الأيوبية بمصر.
وذكرت المصادر التاريخية أن شجرة الدر كانت جارية ذات حسن بالغ، كما كانت تكتب وتقرأ ولها صوت حسن في الغناء، وكانت مقيمة في حريم الخليفة ببغداد عام 1239م، وكان اسمها مقيدا بين أسماء الجواري في سجل الرقيق بجناح النساء.
ونقلت بعد ذلك من بغداد إلى القاهرة أو دمشق، وكانت آنذاك في الـ11 من عمرها، في عهد الملك الكامل ناصر الدين، فأُهديت إلى أكبر بنيه وولي عهده الأمير نجم الدين أيوب الذي عرف في ما بعد بالملك الصالح، وكان والده قد عينه واليا على “حصن كيفا”.
مع الملك الصالح
تطورت علاقة شجرة الدر بالملك الصالح، فكانت المحظية والمفضلة عنده من بين جواريه، وهو الذي سماها شجرة الدر، وأنجبت له ولدا اسمه الخليل، لكن الصبي مات صغيرا.
وضمن لها حب الصالح الشديد مكانة رفيعة، كما كانت رفيقته دائما، وفي عام 1247 أراد ابن عم الملك الصالح الاستيلاء على مصر، واستطاع تحقيق ذلك، ونفى الصالح إلى قلعة الكرك، ورافقته شجرة الدر في سجنه بقلعة الكرك وكانت متفانية في ولائها له، كما رافقه أيضا عبد تركي يدعى بيبرس.
وبعد مساندتها له في محنته وسجنه، تزوج الملك الصالح شجرة الدر مخالفا بذلك التقاليد السائدة، وحررها ومنحها لقب الملكة، لكنها لم تنجب أبدا بعد ابنها الخليل، وكان للملك الصالح وريث هو ابنه من زوجته الأولى.
وبمشورة شجرة الدر ومساندتها، جنّد الملك الصالح ذكور المماليك، واستعاد بهم السيطرة على مصر، وضمن ولاء سكانها. وبعد عودته إلى الملك، شرع في توسيع حدود إمبراطوريته، وكان شديد الثقة بشجرة الدر إلى حد أنه في رحلاته كان يعهد إليها بالمُلك والإدارة وتخْلفه في غيابه.
مواجهة الصليبيين
وصلت الأخبار إلى الملك الصالح الأيوبي أن ملك فرنسا لويس التاسع توجه إلى مصر، وكان يقترب بسرعة من شواطئها، قائدا الحملة الصليبية السابعة، ولم يكن الصالح آنذاك في القصر.
وأرسلت شجرة الدر في طلب القائد الأعلى لزوجها فخر الدين، لصدّ الغزاة الصليبيين حتى عودة الملك، واستطاعت مع الوزير إعاقة تقدم الصليبيين لحين عودة الملك الصالح من غيبته.
وتذكر مصادر أخرى أن الملك الصالح كان في قصره مريضا، وذلك ما منعه من إكمال تقدمه لتوسيع دولته، وشجع الملك الفرنسي لويس التاسع على غزو مصر.
والأكيد بين هاتين الروايتين أن الملك الصالح مات في خضم الصراع بين الأيوبيين والصليبيين، فكان لشجرة الدر موقف في هذه الحادثة ينمّ عن حنكة ومهارة سياسية، فقد كتمت النبأ عن الجميع إلا الوزير الأعلى فخر الدين وقلة ممن خصّتهم بثقتها.
وأرسلت جثمان الملك الصالح سرا في سفينة إلى قلعة الروضة بالقاهرة، وكانت توصي الخدم بالحرص على إحضار وجبات الملك في مواعيدها، كما كان يزوره طبيب يوميا.
ومنعت زيارته وكانت تتذرّع بتعبه الشديد وعدم قدرته على مقابلة أحد، كما كانت مصممة على تحقيق النصر على الصليبيين الذين كانوا بالفعل قد استولوا على مدن ساحلية مصرية.
وبعثت أثناء تلك الأحداث إلى ابن زوجها السلطان المعظم توران شاه الذي كان مقيما بكيفا، ليتولى الملك بعد والده، وكانت قد أبلغت الجند والأعيان أن الملك الصالح نجم الدين قد أوصى بالملك لابنه.
وكانت شجرة الدر تزوّر توقيع زوجها على المراسيم، حتى وصول توران شاه إلى المنصورة، كما كانت توجه الجيوش لمحاربة الصليبيين الذين استولوا على دمياط وكانوا يتقدمون باتجاه المنصورة.
وبعد وصول توران شاه، أعلن نبأ موت الملك الصالح، وأثمرت خطة شجرة الدر بانتهاء الحرب بهزيمة الصليبيين، وأسر المصريون الملك لويس التاسع.
السلطانة شجرة الدر
بعد انتهاء الحرب ثار السلطان المعظم توران شاه على زوجة أبيه شجرة الدر، وعلى الأعيان، وكان يسائلها عن مال أبيه فتجيبه بأنها أنفقته على حربهم ضد الصليبين وتدبير أمور الدولة.
وتفاقم تنكر المعظم لشجرة الدر وغيرها من أعيان أبيه، فخشيت أن يغدر بها وسافرت إلى القدس، وامتد كره توران شاه لها حتى شمل أمراء المماليك الذين كان لهم فضل كبير في صد الغزو الصليبي.
وبدأ السلطان الجديد يفكر في التخلص من المماليك، لكنهم سبقوه وتخلصوا منه، فهاجموه في خيمته، واستطاع الهرب جريحا إلى كوخ قرب النيل، فأحرق المماليك الكوخ وقفز توران شاه في النهر، فمات “جريحا حريقا غريقا”.
واقترح المماليك أن تتولى شجرة الدر حكم مصر، وعادت لتتولى الملك وكانت المراسيم تصدر باسمها، وأُصدر لها ختم ملكي باسم أم خليل، وخطب لها على المنابر، ودعي لها في خُطب الجمعة.
ونقش على العملة التي أصدرتها “السكة المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة الملك المنصور خليل”، وتمسكت بلقب “أم الملك المنصور خليل”، لتؤكد صلتها بالأيوبيين عبر ابنها وزوجها الراحل الملك الصالح، ومن شأن ذلك أن يضفي الشرعية على حكمها وصلتها بالخلافة العباسية في بغداد.
وأول ما بدأت به بعد تنصيبها ملكة هو تصفية الوجود الصليبي في مصر، وأدارت مفاوضات انتهت بالاتفاق مع الملكة مارغريت لإيقاف الحملة الصليبية السابعة.
واتفقتا على تسليم دمياط، وإعطاء فدية لإطلاق سراح لويس التاسع المأسور بالمنصورة ومن معه من الصليبيين، وفرضت عليهم دفع نصف الفدية قبل رحيلهم، والنصف الآخر حين عودتهم إلى بلادهم، وأخذت منهم تعهدا بعدم العودة إلى غزو سواحل بلاد الإسلام.
وبدأت شجر الدر إقامة مشاريع عمرانية، وملأت خزينة الدولة بفدية لويس التاسع، وتقربت من الرعية، وخفضت الضرائب، ونصبت المماليك في أعلى الرتب، لكن فكرة تولّي امرأة أمر المسلمين لم تكن مقبولة عند الجميع، وقد أثار ذلك بعض الرعية ضدها.
ومن أبرز من عارضوا ملكها الفقيه العز بن عبد السلام، كما عارضتها الخلافة العباسية بالعراق ورفضت الاعتراف بشجرة الدر سلطانة على مصر وغضبت لمقتل توران شاه الأيوبي، وكتب الخليفة المستعصم في بغداد إلى أمراء مصر “إن كانت الرجال قد عدمت عندكم، فأعلمونا حتى نسيّر إليكم رجلا”.
ولم تعارض شجرة الدر ذلك الرفض حين بلغها، رغم أنها لم تبق في الملك إلا 80 يوما، فخلعت نفسها وخططت للزواج بمن يكون واجهة للحكم، وتبقى بذلك الملكة وزوجة السلطان.
الزواج بعز الدين أيبك
بعد أن هددت الثورة حكم السلطانة شجرة الدر، تزوجت قائدا في الجيش يدعى عز الدين أيبك، وكان ممن عرفوا بالبسالة في القتال، فتزوجا على شرط أن يطلق زوجته الأولى التي له منها ابن اسمه علي.
ومثّل عز الدين أيبك السلطة الظاهرية لمصر، ولقّب بالملك العزيز، لكن السلطة الحقيقية والفعلية كانت لشجرة الدر، وكانت هي من يتخذ القرارات ويتولى المسائل الإدارية.
وبعد مدة ملّ أيبك دوره الثانوي في الحكم، وبدأت علاقتهما تتوتر بسبب تصاعد المشاكل وشجارهما حول ما تركه الملك الصالح من أموال، ويعتقد المؤرخون أن شجرة الدر أخفت ثروتها عن عز الدين مخافة أن يتآمر عليها.
وفي عام 1257 قرر أيبك الزواج بأخرى زواجا يحقق له مصالح سياسية، فتقدم لخطبة ابنة الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ في الموصل، فعدّت شجرة الدر ذلك خيانة وخافت على حكمها، وخشيت خروج العزيز عن سيطرتها وحجرها عليه.
النهاية
أرسلت شجرة الدر إلى الملك الناصر في دمشق سرا تعرض عليه التآمر معها لقتل أيبك وأن يتزوجها ويشركها معه في السلطة مقابل تسليمه مصر، لكن الناصر لم يتحمس لذلك وظن الأمر خدعة.
وعلم بدر الدين لؤلؤ بأخبار هذا الاتصال بين شجرة الدر والناصر فأبلغ عز الدين أيبك، فحاول الاحتياط لنفسه من غدر شجرة الدر، ونوى قتلها.
سبقت شجرة الدر الملك العزيز أيبك، وأرسلت في طلبه تسترضيه وتدعوه إلى القلعة بعد أن كان قد هجرها إلى مناطق اللوق، واتفقت مع خدمها على قتله في الحمام، وحاولت التظاهر بأنه مات ميتة طبيعية بعد أن عثر عليه مقتولا بالجناح.
لكن العامة لم يصدقوا ذلك، وغضبوا وثاروا عليها، وخططوا لقتلها، وتولى ابنه نور الدين علي ذو الـ15 عاما الحكم، ولقب بالمنصور وسانده المماليك، وصلب قتلة أيبك، وحبست شجرة الدر في البرج الأحمر.
وسلم المنصور شجرة الدر لأمه، زوجة أيبك السابقة، التي كانت تنوي الانتقام منها، لإبعادها عز الدين عنها وعن ابنها، فأمرت جواريها بجلبها إلى مسكنها جرا في موكب تسمع فيه شجرة الدر أفحش الألفاظ والسباب والدعاء بالويل، وجردت من ثيابها الملكية إلا قطعة على أسفل جسدها.
وساقتها جارية ضخمة من جواري أم علي إلى سيدتها، وأحاطت بها الجواري مشهرات القباقب (أحذية خشبية) ينتظرن أمر السيدة.
وفاتها
أذنت أم علي للجواري بضرب شجرة الدر، فضربنها حتى ماتت، ثم جرّت بقدميها إلى قمة القلعة، ورميت من هناك ولم تدفن.
وتقول بعض الروايات إن أم علي أمرت جواريها بهذه المناسبة بخلط الحليب والدقيق مع السكر والمكسرات، في طبق “أم علي”، وتقديمه للناس، فدخل هذا الطبق الشهير إلى المطبخ المصري، ومنه إلى المطبخ العربي.
وبعد العثور على جثتها، نقلت إلى ضريح كانت قد بنته بنفسها قرب مشهد السيدة نفيسة ودفنت هناك. وشيّد لها نصب تذكاري في شارع الخليفة بالقاهرة، وفي محوره محراب فسيفساء زجاجي مزخرف بزخارف أنيقة، وبه صورة شجرة مبطنة بقطرات من اللؤلؤ على خلفية من الذهب.