Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
خبر عاجل

تركيا على مفترق الطرق.. الحرية والاستقلال أو التبعية | آراء


تعد الانتخابات الراهنة في تركيا لحظة فارقة في تاريخها ومستقبلها، ذلك أن طبيعة الصراع في تركيا لا يقف عند الحدود السياسية، وإنما يتجاوز ذلك ليكون تعبيرا عن علائق ذات أبعاد حضارية، تحدد موقع تركيا في الصراع الدولي والإقليمي على مستوى المصالح المتشابكة والتوترات التي تنعكس على تموقع تركيا في سياقها الراهن وتطلعاتها المستقبلية، وكذلك إرادة الاستقلال وإعادة تصحيح اختلالات يستبطنها التاريخ القريب، بحيث تتصارح على أرضية الانتخابات رؤى وإستراتيجيات، سيكون الفوز للنموذج الذي أرسى معالمه حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة رجب طيب أردوغان، تعبيرا عن تحول كبير في المستقبل، بينما قد تحمل أجندة التحالف السداسي تراجعا للدور التركي إلى الحدود المرسومة سلفا من القوى الكبرى، هذا بعيدا عن السجال بشأن طبيعة النظام السياسي، الذي لا يخرج فيه التداول السياسي على منطق النظم الدستورية الحديثة.

كيف يمكن أن نقرأ أبعاد الانتخابات الراهنة على حاضر ومستقبل تركيا؟

الانتخابات وانعكاساتها على حاضر ومستقبل تركيا

تكمن أهمية الانتخابات التركية الراهنة، في استعادتها سرديات التأسيس من خلال منظورين اثنين، والبناء عليها من أجل مستقبل تركيا على المستوى الداخلي، وفي العلاقة بالمحيط الإقليمي والدولي، أي في تموقع تركيا إقليميا ودوليا في ظل التوترات الجيوسياسية الراهنة وما ينتج عنها من رسم خرائط جديدة للعالم في ظل تقسيم النفوذ بين القوة التقليدية والقوى الصاعدة، ونقصد الولايات المتحدة والصين، بحيث تسمح التشققات في بنية النظام العالمي والصراع الناعم والخشن بين القوى الكبرى، للقوى الإقليمية بالحركة والفعل وإمكانية التخلص من القيود التي يفرضها طابع الهيمنة الأحادي.

فالتوترات الحاصلة على مستوى النظام العالمي، وظهور قوى دولية جديدة تنازع القوة التقليدية في قيادة دفة العالم، يسمح بشكل طبيعي للقوى الإقليمية وفي مقدمتها تركيا، بتوسيع هامش الحرية والاستقلال واستعادة السيادة بتجلياتها المختلفة، ذلك أن جزءا من أوجه الصراع الداخلي الذي تزداد حدته في كل انتخابات، لا ينفك عن البعد الخارجي ومصالح القوى الكبرى، ومن ثم فإن كسب الرهان هو في حقيقته بين مشاريع سياسية تتباين رؤاها بخصوص استكمال مشروع الاستقلال الوطني، وتركيا في العقدين الأخيرين انزاحت بشكل واضح للتعبير عن إرادتها الوطنية المستقلة عن القيود والحواجز التي وضعت أمامها بالتتابع منذ نهاية القرن الـ19.

ذهاب أردوغان إلى آيا صوفيا في ختام حملته الانتخابية في الجولة الأولى، وذهاب زعيم حزب الشعب الجمهوري إلى قبر كمال أتاتورك، يمثل جانبا من صراع الرموز على أرضية انتخابية، مما جعلها انتخابات سياسية بأبعاد حضارية

يمكن قراءة انعكاسات ذلك في الموقف السلبي لعدد من الدول الكبرى، التي رسمت ملامح جغرافيا القرن العشرين ونظامه العالمي ومؤسساته -إلى حدود اللحظة الراهنة- إذ لم تخل صحيفة أو مجلة من التعبير السلبي المصحوب بجملة من الاتهامات في حق أردوغان باعتباره حاكما دكتاتوريا، وحزبه باعتباره معبرا عن نزعة الهيمنة والتسلط، بل تضمنت افتتاحيات مجلات وصحف صورا توحي من حيث بعدها السيميائي إلى وضع الرئيس التركي الحالي في خانة مستبدين آخرين، أو مواقف فيها دعوة لعدم انتخابه.

بغض النظر عما يمكن أن يوجه لتجربة أردوغان من نقد فيما له صلة بحرية التعبير وغير ذلك، لكن الإعلام الدولي كان أداة معبرة عن طابع الهيمنة الذي يوجه القوى الكبرى، وإرادة الإضعاف وإبقاء تركيا وغيرها من الدول الصاعدة في حالة من التبعية، وهذا لا يخرج عن الموقف العام من التحولات التي شهدتها تركيا، والتباين في عدد من المواقف والقضايا، ومن ثم يمثل حزب الشعب الجمهوري بالنسبة لمستقبل تركيا، في نظر تلك القوى تعبيرا عن امتداد طبيعي لها، وعودة تركيا إلى حضنها الغربي الذي اختارته منذ قرابة قرن من الزمن.

تحمل الانتخابات الراهنة من هذا المنظور صراع إرادات داخلية، لكنه في العمق يضع تركيا على مفترق طرق في سياق دولي آخذ بالتشكل، وهو سياق إما أن تبحث تركيا لنفسها عن موطئ قدم فيه، تبرز فيه كقوة صاعدة، وإما العودة إلى ما قبل عقدين، فصراع الإرادات الداخلي يستبطن بشكل أو بآخر بعدا في العلاقة بالمستوى الدولي وكذلك امتدادا إلى المستقبل، والأهم من ذلك طبيعة تركيا الجديدة بمحدداتها السياسية والثقافية وعلائقها المتعددة، لذلك فالانتخابات الراهنة عبارة عن صراع قوي بأدوات السياسة وفي مسرح الانتخابات، لكنه صراع يحمل معه محددات ذات صلة بالحرية والاستقلال والتقدم.

بين التحالف السداسي وتحالف أردوغان

يمكن الإشارة إلى منظوري الطرفين الرئيسيين المتنافسين في المشهد السياسي التركي، رغم عدم التجانس بين المكونات المنافسة للرئيس الحالي ومشروعه الذي ظل يبشر به طيلة العقدين الماضيين، بتحديد العناصر التي تشكل رؤية كل طرف للقضايا الشائكة التي ينظر لها كونها مؤثرة على المستوى التركي الداخلي وكذا على تموقع تركيا، وهي كالآتي:

منظور التحالف السداسي

يبني التحالف السداسي رؤيته لتركيا من خلال الاستثمار في الأزمات الداخلية والخارجية التي تمر بها البلاد منذ عقد تقريبا، يظهر ذلك فيما له علاقة بالاقتصاد وأزمة الليرة، وقضايا اللاجئين السوريين، ثم أخيرا الجدل بشأن طبيعة النظام السياسي الذي يعد التحالف أن يعود به إلى النظام البرلماني. ومن ينظر في هذه القضايا الشائكة، فهي ليست نتائج سياسات حكومية خالصة، وإنما بعضه، جزء من الضغط الذي مورس على تركيا من طرف القوى الكبرى على مراحل، بحيث كان الجانب الاقتصادي الهدف الأول من أجل التأثير في التحالفات الإقليمية التي نهجتها حكومة أردوغان لحفظ مصالح تركيا في المنطقة، وليس التأثير فقط، وإنما التراجع كما ظهر جليا مع تبعات شراء منظومة صواريخ “إس-400” (S-400) والتدخل في شمالي سوريا والعراق لحفظ أمنها القومي، ودعم أذربيجان في إقليم قره باغ، والتنقيب عن الغاز في المتوسط وما نجم عنه من توتر مع اليونان، التي وجدت في الاتحاد الأوروبي وأميركا دعما صريحا.

لقد نتج عن ذلك جملة من الأزمات مع المجتمع الدولي انعكست آثارها على الاقتصاد التركي، الذي أثر فيه كذلك خفض نسبة الفائدة، هذا الجانب يعد أحد الوعود من التحالف السداسي، في حل الأزمة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ثم سن علاقة جديدة مع المحيط الإقليمي. هذا بالإضافة إلى إعادة اللاجئين السوريين في أمد منظور، حيث ينزع بعض قادة التحالف إلى اعتبار السوريين الفارين من الحرب مصدر المشكلات المتولدة في تركيا، بل إن جولة الإعادة كشفت عن تطرف وبروباغاندا إعلامية وسياسية تنزع نزوعا غير إنساني في قضية اللاجئين.

حينما يمتد الخطاب السياسي إلى حالة من الشعبوية في تدبير مثل هذه الإشكاليات، فإن ذلك في واقع الأمر يعبر عن أزمة كامنة في تصور الفاعل السياسي الحامل لهذا الخطاب الذي يذكي الانقسام المجتمعي ويبتعد عن التفكير الواقعي في الأزمات التي تمر بها الدولة والمجتمع، وهذا قد يخص تركيا أو غيرها من الدول التي ينزاح فيها الخطاب السياسي إلى شعبوية تبسط الظواهر والإشكاليات، وترمي أسباب الأزمة على الآخرين، ونحن إذا نظرنا إلى التحالف السداسي من خلال المقارنة، فيمكننا القول إنه يحمل من التناقض أكثر مما يحمل من التوافق بين مكوناته، ذلك أن تحالفا حدد رؤيته بناء على إسقاط الخصم دون التفكير في بدائل لمشروعه السياسي، هو منته بالضرورة، حيث يحمل فشله في خطابه وداخل بنيته.

منظور التحالف الذي يقوده أردوغان

هو تحالف قائم على التعديل الناعم لوجهة الدولة والمجتمع معا، ولعل ذهاب أردوغان إلى آيا صوفيا في ختام حملته الانتخابية في الجولة الأولى، وذهاب زعيم حزب الشعب الجمهوري إلى قبر كمال أتاتورك، يمثل جانبا من صراع الرموز على أرضية انتخابية، مما جعلها انتخابات سياسية بأبعاد حضارية، حيث يشكل الذهاب إلى آيا صوفيا تعبيرا عن جزء من الامتداد التاريخي ومصالحة تركيا مع حقبة العثمانيين، وتجاوز حالة القطع والنهج الحاد الذي اعتمده كل من أتاتورك وحزب الشعب الجمهوري والجيش في حلته التقليدية في علاقة الدولة بالدين، وبصيغة أخرى جبر الكسور التي خلفتها تركيا الكمالية مع تاريخها القديم، هي عملية إعادة بناء هادئة على مستوى الذات ثقافيا وسياسيا واجتماعيا.

إن زيارة آيا صوفيا هي جزء من عملية ممتدة تشتغل فيها تركيا أردوغان على استعادة جانب من تموقعها، ليس في مسرح السياسة والعلاقات الدولية وحسب، وإنما استعادة للجوانب الثقافية والروحية والقيمية التي شكلت الهوية التركية كجزء من النسيج الحضاري الإسلامي، ولعل إلقاء نظرة سريعة على الاستثمار الضخم في السينما واستدعاء التاريخ بشخوصه ورموزه وأحداثه وإعادة صياغته وفق منظور جديد من خلال الفنون البصرية، واستحضار ما يتعلق بالنظام التعليمي والقوانين ذات الصلة بالفضاء العمومي ومؤسسات الدولة، وهي القوانين التي نزعت فتيل الإقصاء والرفض للرموز الدينية والثقافية التي كانت سائدة وكما أرختها الكاتبة والسياسية مروة قاوقجي في كتابها “ديمقراطية من دون حجاب”.

كل ذلك يوحي لنا بأهمية هذا المنحى في عملية تغيير وإعادة بناء هادئة بأدوات ناعمة، تحضر فيها السياسة والصراع على السلطة والحكم كتجل من تجليات مشروع بناء تركيا الجديدة، تركيا متحللة من الإرث الكمالي الذي جعلها تابعة وغير قادرة على الحركة أو الفعل، ومتصالحة مع ماضيها العثماني، لكنها منتسبة إلى روح العصر بخصوص النظام الديمقراطي، ولا أدل عليه نسبة المشاركة المكثفة والتعبير السياسي السلمي، وذلك في واقع الأمر انعكاس لحالة الوعي المجتمعي بأهمية السياسة في التغيير -بدلا من الدبابة والانقلابات- كيفما كانت مخرجات هذا التغيير، لكن هذا المدخل السياسي في النموذج الذي نحن بصدده، ليس وحده الأداة الفعالة، إنما هو تجل من الانتقالات المنظومية التي تعرفها الحالة التركية بين السياسي والثقافي والعلمي.

إن المتابع للحالة التركية يلمس تحولا منظوميا حصل خلال العقدين الماضيين، ونقصد بالتحول المنظومي، تلك الديناميكية المتعددة الأوجه التي يمر بها كل من المجتمع والدولة معا، للانتقال من وضعية التخلف والتبعية، إلى وضع قدم في مسار التقدم بتجلياته المختلفة، العلمية والسياسية والثقافية والعسكرية، ومهما تكن من ملاحظات نقدية على التجربة التركية في هذا المجال، فإنها مقارنة بمحيطها الإقليمي وبالإطلالة على جزء من تاريخها القريب ووضعية الجيش والقضاء داخل النسق السياسي برمته، فإن تركيا عرفت ذلك التحول الذي يجعلها تستقل فعليا في الأمد المنظور، وهو ما يقدم التحالف الذي يقوده العدالة والتنمية نفسه معبرا عن قيم ومبادئ تركيا الجديدة.

من هذا التحول الحادث بتركيا نفهم ما ينجم عنه بالضرورة، من صراع منهك على جبهات متعددة إقليمية ودولية، فالتقدم واستعادة السيادة وحفظ مصالح الدول لا يمر من طريق مفروش بالورود، إنما ذلك جملة تحديات واختبارات وهو ما تعيشه وتركيا، ولا ينبغي أن نفهم من هذا ذلك النزوع التبسيطي الذي يقف على أحلام ما يسمى بـ”الخلافة” أو الرئيس “السلطان” أو غيرها من الانفعالات العاطفية في سياقنا العربي والإسلامي، ذلك أن الحالة التركية تعبر عن نفسها في حفظ المصالح الوطنية التركية في سياق صراع إرادات، نجحت فيه النخبة السياسية والشعب التركي، بينما أخفق العرب مرحليا لأسباب يمكن معالجتها في سياق آخر، لكن دور القوى الكبرى كان في القديم ولا يزال في وقتنا الراهن عنصرا مؤثرا، ويظهر ذلك بشكل جيد مع انتخابات تركيا.

ختاما: إن نجاح تركيا في الانتخابات بشكل عام يعد تمرينا متميزا على ممارسة الديمقراطية والتخلي عن العهود السابقة التي كانت فيها تركيا مسرحا للانقلابات، وتزداد أهمية الانتخابات في سياقات تعرف معاداة صريحة للتداول السلمي على السلطة، كما تبرز معها عودة الشعبويات والاستثمار في الأزمات من أجل الحشد، لكن النجاح الفعلي الذي سيجعل من العملية الديمقراطية مدخلا للاستقلال والتقدم يكمن في إرساء دعائم التجربة السابقة، ولا يهم الموقف من النظام الرئاسي أو البرلماني، لكن المهم هو روح التحول برمته، والمشروع الوطني المعبر عنه، في علاقة تركيا بالداخل وعلاقتها بمحيطها الإقليمي والدولي، ونجاح التجربة التركية تحمل انعكاسات على السياق العربي وتطلعات شعوبه، وإن لم تكن بشكل مباشر، لكنها ذات أهمية على المستوى النفسي وعلى مستوى الوعي، وهو ما سنقاربه في المقالة المقبلة، مع دروس الانتخابات التركية للحالة العربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى