أقدم بؤرة توتر في فضائها الجيوسياسي.. ما الذي ستكسبه موسكو من حسم ملف ناغورني قره باغ؟ | سياسة
موسكو ـ باتت أذربيجان وأرمينيا على أعتاب حدث تاريخي بعد إعلان البلدين استعدادهما للاعتراف المتبادل بوحدة أراضي وسيادة كل طرف، والبدء في مناقشة اتفاقية سلام حول الصراع في إقليم ناغورني قره باغ.
ويشير الإعلان المشترك الذي جاء على هامش القمة الموسعة لزعماء دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، الذي عقد يوم 25 مايو/أيار الحالي في العاصمة الروسية موسكو، إلى أن توقيع معاهدة سلام بين البلدين بات أمرًا شبه حتمي، وقد يتم في المستقبل القريب.
وجاء ذلك رغم ما تخلل جلسة القمة من مناوشات لفظية بين الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرمني نيكول باشانيان حول ممرات النقل.
وخلال الجلسة، أعرب باشانيان عن استيائه من إقامة نقطة تفتيش أذربيجانية في ممر لاتشين على الحدود مع أرمينيا، وما قال إنها خطط باكو لإنشاء ممر يربط أذربيجان بجيب ناخيتشيفان المتاخم لتركيا ويفتح الطريق للتجارة مع أوروبا، الأمر الذي نفاه علييف بشدة.
وعلى ضوء النقاش الساخن، تدخّل الرئيس الروسي بوتين وطلب بحث الملفات العالقة في اجتماع ثلاثي خلف الأبواب المغلقة، توّج بتأكيد العزم على الاعتراف المتبادل ومعالجة ملف الممرات.
نزاع طويل
ومن شأن ذلك أن يضع حدًا لواحدة من أهم وأقدم بؤر التوتر في الفضاء السوفياتي السابق، وفي “الحديقة الخلفية لروسيا”، التي وضعت ثقلها لتكون “شرطي الإطفاء” وعراب الاتفاق التاريخي بين الجارين القوقازيين.
ولطالما كان يُنظر إلى النزاع على ناغورني قره باغ بأنه تصعيد حاد لنزاع “مجمّد” حول مناطق يعترف بها دوليًا بأنها أراض أذربيجانية، ولكن يشكّل الأرمن غالبية سكانها.
وتنازعت أذربيجان وأرمينيا ملكية الإقليم منذ فبراير/شباط 1988، عندما أعلنت المنطقة انفصالها عن جمهورية أذربيجان (الاشتراكية السوفياتية)، وفي سبتمبر/أيلول 1991 تم إعلان جمهورية ناغورني قره باغ (غير معترف بها من قبل أي دولة عضو في الأمم المتحدة) كجزء من الاتحاد السوفياتي، مما شكّل بداية مواجهة مسلحة بين أذربيجان وأرمينيا.
وخلال النزاع المسلح في 1992-1994، فقدت باكو سيطرتها على الإقليم، إضافة إلى 7 مناطق متاخمة له.
لكن أذربيجان، وفي ذروة الأزمة السياسية والمظاهرات داخل أرمينيا، شنت حربا خاطفة خريف العام 2020 وتمكنت من السيطرة على الإقليم، ووقع بعدها البلدان اتفاقا لوقف إطلاق النار بوساطة روسية، ومع ذلك بقيت المناطق الحدودية بين البلدين تشهد مناوشات متكررة.
موازين القوى
وبحسب الخبير في شؤون جنوب القوقاز أندريه زايتسيف، فقد أظهرت نتائج حرب قره باغ الثانية أن جيش أذربيجان أقوى بكثير من نظيره الأرميني، وإذا اندلعت حرب قره باغ الثالثة، فسيظهر ذلك بشكل أوضح.
ويوضح زايتسيف، في حديث للجزيرة نت، أن اتفاق سوتشي حول قوات حفظ السلام الروسية سينتهي في غضون عامين ونصف العام، وإذا لم يتم تمديده فإن أذربيجان “سوف تشكر قوات حفظ السلام الروسية” التي ستغادر بدورها المنطقة. وبعد بعض المعارك القصيرة، سيدخل الجيش الأذربيجاني هذه الأراضي ويطرد الجيش الأرميني ويسيطر عليها.
ويتابع أن هذا هو “السيناريو الأساسي” الذي يدور في أذهان الجميع والذي سينتهي إليه مصير الإقليم برمته، مؤكدا أنه في ظل هذه الظروف ستخبر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا الجانب الأرميني بقبول الأمر الواقع، لأن لا أحد سيقاتل من أجل يريفان، وأنه من الضروري الاعتراف بأن قره باغ أذربيجانية.
بدوره يعتبر الباحث في أكاديمية العلوم الروسية فلاديمير أولينشينكو أن استعداد باكو ويريفان للاعتراف بحدود بعضهما بعضا يعد خطوة مهمة في الحد من التوتر بين البلدين، لكنه لا يعني بالضرورة إنهاء فوريا للصراع.
ورغم أنه يشدد على أن ما حصل يعد انتصارا لموسكو لجهة تسوية أزمة إستراتيجية في فضائها الجيوسياسي، وإظهارا لقدرتها في التأثير على الأوضاع الإقليمية، فإنه يدعو إلى عدم المبالغة والبقاء في التفاؤل الحذر.
فحسب رأيه، سيعمل منافسو موسكو الغربيون على انتزاع المبادرة من روسيا، و”خلط” المسارات التفاوضية المحتملة في المستقبل وفق السياق الغربي، وإعادة بؤر التوتر إلى “الحديقة الخلفية” لموسكو.
مع وقف التنفيذ
ومع تأكيد أولينشينكو أن قرار رئيس الوزراء الأرميني الاعتراف بناغورني قره باغ أرضا لأذربيجان لن يؤثر على موقفه داخل البلاد نظرا لوجود عدد كبير من المؤيدين له بين سكان الريف في أرمينيا، إلا أنه يحذر من استئناف الصراع إذا خسر الانتخابات القادمة، ومجيء أشخاص جدد إلى السلطة قد يقررون مراجعة الاتفاق.
ويجد كلام الخبير الروسي ما يؤكده في المواقف التي صدرت مباشرة عن أقطاب المعارضة في أرمينيا، فقد وصفت نايرا كارابتيان النائبة السابقة في البرلمان الأرميني ورئيسة المنظمة الأرمينية للتكامل الأوروبي، قرار باشانيان بأنه “اعتراف فظيع لن يغلق قضية الإقليم فحسب، بل لن يفتحها في المستقبل”، معتبرة أنه “سيكون من المستحيل في المستقبل فتح القضية على المستوى الدبلوماسي والدولي”.
ويرجح أولينشينكو أن تلعب المعارضة على ورقة “استسلام” ناغورني قره باغ، مما قد يؤدي لاحتجاجات واسعة وإرباك للحياة السياسية في أرمينيا من جديد.
لكن الكاتب في الشؤون الدولية إيليا كوسا يرى أن ما حصل في واقع الحال سيؤدي إلى تقليص النفوذ الروسي في جنوب القوقاز ككل، بل قد يلغيه خلال السنوات المقبلة.
ووفقًا لكوسا، فإن ما حصل قد يساهم في تقوية موقف المعارضة الأرمينية إذا تمكنت من الوصول إلى السلطة، “عندها ستفقد موسكو السيطرة على يريفان، وبالتالي على دور أرمينيا في مساعدة روسيا، بالحد الأدنى، في التحايل على العقوبات الاقتصادية، انتقاما من دورها في عملية التطبيع بين أرمينيا وأذربيجان على حساب سكان ناغورني قره باغ”.