مخاوف من استغلالها لتسريح موظفي الحكومة.. تجربة جديدة للعمل من المنزل بمصر | سياسة
القاهرة- قبل أن يستجمع إبراهيم سالم -العائد حديثا من السودان الذي يشهد أزمة خانقة- بعضا من سلامته النفسية والبدنية، فوجئ قبل أيام بقرار نقله ضمن عدد كبير من موظفي وزارة التربية والتعليم إلى المقر الجديد للوزارة بالحي الحكومي في العاصمة الإدارية.
وحتى وقت قريب كان سالم مستقرا في عمله ضمن فريق البعثة التعليمية المصرية في السودان، لكن الأزمة في السودان قلبت كل شيء رأسا على عقب كما يقول للجزيرة نت، وبات مهموما بأخبار العاصمة الإدارية وطريقة الوصول إلى هناك قادما من مدينة “العياط” في جنوب الجيزة، في رحلة تستغرق نحو 4 ساعات ذهابا ومثلها إيابا بالمواصلات العامة.
لم يكن سالم متفائلا بالإعلان عن بدء تجربة “العمل عن بُعد” والتي تستمر 6 أشهر، قبل تعميمها على كل قطاعات الجهاز الإداري للدولة، في إطار معالجة حكومية للتغلب على بُعد المسافة بين سكن الموظفين ومقر العمل الجديد الذي يبعد عن قلب القاهرة بنحو 70 كيلومترا من اتجاه الشرق، فضلا عن مسافات سفر أخرى من الضواحي إليها.
وتهدف التجربة الحكومية إلى تخفيض عدد مرات حضور الموظف لمقر عمله في العاصمة الجديدة إلى مرتين أسبوعيا فقط، لكن ماهر عبد المحسن محاسب بديوان عام وزارة الصحة، يشكك في جدوى تطبيق ذلك، ويتوقع أن تستمر ما يسميها رحلة العذاب اليومية.
كما يتوقع عبد المحسن في حديثه للجزيرة نت ألا تنتهي التجربة إلى نتائج عملية، ويوضح قائلا إن “العمل عن بُعد لا يناسب مصر في ظروفها الحالية، بسبب مشاكل فنية في التواصل عبر الإنترنت”.
نجاح ومخاوف
في المقابل، تتوقع وزارة الاتصالات -المعنية بالإشراف على عملية التحول الرقمي للحي الحكومة في العاصمة الإدارية- نجاح التجربة وتؤكد كفاءة التجهيزات.
لكن أحد أعضاء الفريق الفني (رفض ذكر اسمه) يعترف بقصور في بعض الأمور التقنية، مشيرا إلى أن الموظف نفسه يحتاج إلى فترة إعداد طويلة، مع مساعدته بأجهزة اتصال وإنترنت مناسبة، قبل أن يتمكن من التواصل بالكفاءة المطلوبة مع جهة عمله داخل الحي الحكومي.
وقال عضو الفريق الفني بوزارة الاتصالات إن سرعة الإنترنت الثابت في مصر شهدت استقرارا خلال الربع الأول من العام الجاري، حيث بلغت سرعة الخدمة 47.6 ميغابايتا بنهاية مارس/آذار الماضي، بينما يبلغ المعدل العالمي 75 ميغابايتا، مشيرا إلى أن مصر هي الأعلى على مستوى أفريقيا.
كما ذكر أن الحكومة عينت مستشارا لشؤون التحول الرقمي لكل وزير لتسهيل عملية الانتقال، مضيفا أن نجاحا جزئيا لفكرة العمل عن بُعد ظهر خلال أزمة كورونا، مما شجّع الحكومة على المضي قدما في هذا الاتجاه.
ترشيد الإنفاق
أما الحكومة التي ستدفع 4 مليارات جنيه سنويا (130 مليون دولار) كقيمة إيجارية لمقراتها الجديدة لشركة العاصمة الإدارية وهي شركة مملوكة للجيش، فلا تتردد في القول إن الهدف من تعميم “العمل عن بُعد” هو ترشيد نفاقات التشغيل وتوفير المياه والكهرباء.
لكن أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة عماد ناصف يرى أن أي تجربة تتطلب تحديد الهدف أولا، موضحا للجزيرة نت أن هدف الحكومة في هذا الصدد متناقض إلى حد كبير “فكيف تتحدث عن ترشيد الإنفاق وفي نفس الوقت تدفع إيجارا لمقراتها 4 مليارات جنيه حسب ما أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخرا. ويضيف أن “مقرات الحكومة في القاهرة القديمة كانت مجانية”.
كما يعتبر أستاذ هندسة الاتصالات بجامعة الفيوم مجدي أبو المعاطي أن مصر لا تزال تفتقد للبنية التكنولوجية اللازمة لتحقيق منظومة “العمل عن بُعد” بالكفاءة اللازمة ويقول في حديثه للجزيرة نت إن الهدف ربما كان سياسيا لدعم ما يسميه المشروع الأهم للرئيس السيسي.
ويعتقد أبو المعاطي أن الحكومة تسعى للانتقال للعاصمة الإدارية وتحقيق نسبة تشغيل معقولة بها بأي ثمن ويوضح متسائلا في سخرية “أين موظف الأرشيف الذي سيتمكن عن بُعد من استعادة وتقديم وثائق وأوراق ثبوتية للمواطن وهي غير مخزنة أصلا” .
ويرى أن شعار المؤسسات والأجهزة الحكومية حاليا في عصر التحول الرقمي هو “السيستم واقع” في إشارة إلى تعثر إنجاز كثير من المعاملات حتى في البنوك بسبب ضعف شبكة الإنترنت وعدم كفاءة وتدريب قطاعات من الموظفين على رقمنة المعاملات.
مستقبل الموظفين ومضايقات
في سياق مختلف، يعتقد الناشط العمالي خليل الدهشان أن الهدف غير المعلن لنظام “العمل عن بُعد” يأتي ضمن خطة للتخلص من العمال والموظفين، مشيرا إلى أن الجهاز الإداري للدولة يضم أكثر من 6 ملايين موظف.
وفي حديثه للجزيرة نت، يعتبر الدهشان أن الحكومة بصدد تحرك عملي للتخلص من نصف هذه العمالة على الأقل تنفيذا لشروط صندوق النقد الدولي، قائلا “العمل عن بُعد ما هو إلا تجربة عملية للتحقق من العدد الفعلي المطلوب التخلص منه من الموظفين”.
ويعترف الناشط العمالي بأن الجهاز الحكومي يعاني من “تخمة” بسبب انتشار التوظيف طبقا لما يسميها المحسوبيات، لكنه يشدد على أن الحل لا يجب أن يكون أبدا على حساب من يصفهم بـ”الغلابة”.
في السياق ذاته، يتحدث مسؤول بقطاع مراكز الشباب بوزارة الرياضة عن “مضايقات” لدفع الموظفين إلى الاستقالة، ويرى أن رحلة الذهاب والعودة إلى العاصمة الإدارية كفيلة بتحقيق ذلك.
ويقول المسؤول الذي اشترط عدم ذكر اسمه للجزيرة نت، إنه قد لا يستطيع تطبيق مفهوم “العمل عن بُعد” كما تريده الحكومة، متوقعا أن ينتهي الأمر بخروج نصف العاملين بالوزارة على الأقل إلى “المعاش المبكر”.
كما يشير إلى أن أقرب مكان لسكن الموظفين حول العاصمة الإدارية يقع في مدينة “بدر” التي تبعد عن الحي الحكومي بنحو 20 كيلومترا وبأسعار تفوق قدرات هذه الطبقة، معتبرا أن ذلك يصب في خانة “المضايقات”.
تيسيرات حكومية
بدورها، تعلن الحكومة بصفة شبه مستمرة عن تيسيرات لتوصيل الموظفين إلى الحي الحكومي الجديد، بداية من تجهيز وحدات سكنية بمدينة بدر، وصولا إلى تجربة منظومة “العمل عن بُعد”.
كما قررت الحكومة -حسب بيان رسمي- صرف بدل انتقال لموظفي الحي الجديد بنسبة تعادل 300% من الراتب الأساسي. كما صنفت الحكومة هؤلاء الموظفين ضمن الفئات المستحقة للتخفيض في تعرفة ركوب المواصلات العامة.
وتدافع الحكومة عن خطط التحول للعمل عن بُعد، وتقول إن العاصمة الإدارية التي تبلغ مساحتها 714 كيلومترا مربعا بما يعادل تقريبا مساحة سنغافورة، تقدم مفهوما جديدا للحياة يتطلب طفرة تنموية استثنائية.
ويصف خبير التنمية المستدامة بمركز دراسات الشرق الأوسط علي داود، انتقال الموظفين للحي الحكومي والعمل وفقا لأحدث تكنولوجيا بأنه “حدث جلل”، مشيرا إلى أن المقر يحتوي على 10 مجمعات وزارية تخدم 34 وزارة مختلفة.
ويقول داود للجزيرة نت إن العاصمة الجديدة ستكون أول مدينة مصرية تعمل بأنظمة ذكية بالكامل، موضحا أن الحكومة تحركت على أرض الواقع بشكل مكثف لتأهيل العنصر البشري اللازم للتحول الجديد.
وأعلن رئيس مجلس إدارة شركة العاصمة الإدارية خالد عباس في تصريحات للصحف المحلية، الانتهاء بالكامل من نقل كامل الوزارات بنهاية الشهر الجاري.
وتصف الحكومة عاصمتها الجديدة بأنها واحدة من أهم المدن الذكية، وأن الهدف تخفيف الضغط عن القاهرة ونقل الموظفين إلى أماكن مجهزة بشكل مثالي تخدم الجميع.
كما تعتبر الحكومة أن تحقيق الانتقال إلى هناك والتحول الرقمي بالكفاءة اللازمة يبعث برسالة مهمة بأن “مصر قادرة على إتمام مشروعها الأكبر”.