بشغف موروث وتحف نادرة.. باحث مغربي يكشف عن فن العيش في “دار المخزن” | أسلوب حياة
مراكش- بعيون فاحصة واهتمام بالغ، يتابع الجمهور شروحا حول تحف نادرة معروضة في “قصر الباهية” بمدينة مراكش، وهو أحد القصور التاريخية التي تَعاقب عليها كثير من الحكام المحليين في المدينة، وتعد أحد رموز تاريخ السلطة في المدينة وفي المغرب عموما.
في 3 غرف بأحد أروقة القصر المترامي الأطراف، تتنوع المعروضات الفنية والثقافية بين لباس وأثاث ومنسوجات ومخطوطات قيّمة ومزخرفة بحرفية عالية، يجمع بينها الطابع المغربي المميز.
يجمع الباحث المغربي ربيع علواني منذ 3 عقود تحفا فنية وتراثية من اللباس والأثاث والنسيج، تنتمي إلى ما يعرف في الثقافة الشعبية المحلية بـ”دار المخزن”، وهي كناية عن مساكن وقصور ومكاتب رجال السلطة وأصحاب النفوذ.
ويقول ربيع للجزيرة نت، وهو يدقق النظر في إحدى هذه القطع الفريدة، إن “شغف تتبع تحف دار المخزن والتعمّق في تفاصيل صنعها لم يكن هواية بالنسبة إليّ بقدر ما هو بهجة روح، وأسلوب حياة كرّست فيه جزءا كبيرا من حياتي للتمعّن في فن العيش المغربي”.
تحف نادرة
تتنوع التحف التي يجمعها ربيع علواني بيبي بين اللباس والأثاث والنسيج، ويؤكد أن أقدم قطعة معروضة لديه في الرواق هي سلهام (لباس تقليدي مغربي فضفاض عبارة عن عباءة من الصوف تشبه البشت الخليجي) يعود إلى نهاية القرن الـ19، كما أن لديه قطعة أخرى تعود إلى بداية القرن الـ18.
ويذكر كيف كان يحضر، وهو طفل، جلسات نقاش بين جدّه وعمه وعدد من الباحثين حول الموروث الحضاري والثقافي المغربي الفريد، مثل المؤرخ حميد التريكي والأنثروبولوجي الهولندي بيرت فلينت، الذي عشق الثقافة الإسلامية واستقر في مراكش، التي تلقب بـ”المدنية الحمراء”.
ربيع علواني بيبي الذي نشأ وترعرع في حي “السبتيين”، وسط مجموعة من الأحياء العتيقة بالمنطقة الشرقية لمدينة مراكش، شغوف بالتراث ويتطلع إلى أن يصبح “رحّالة” يزور مناطق المغرب المختلفة، يدقق في هندسة الزخارف ويتعرّف على فن عيش أهل البلاد، ويطوف بين المزادات العلنية في أوروبا، باحثًا عن “كنوز مغربية” استرجع عددًا منها.
خيط ناظم
من يتفحص بعناية القطع المعروضة، يكتشف أن خيطًا ناظمًا يجمعها، وتظهر له جمالية فن العيش التقليدي عند الحكام والأعيان في القصور والدور المغربية، الذين استطاعوا بفضل ما يملكون من سلطة ومال أن ينتجوا هذه التحف بأيادي صنّاع مهرة، كما يشرح ربيع.
يقول بيبي، وهو يشير إلى زربية (سجادة تراثية) كبيرة معلقة على جدار بطول 5.70 أمتار وعرض 3.70 أمتار، إنها نُسجت في منسج فخم، فيما تظهر الزخارف ونوع القماش في “ألبسة مخزنية” أخرى مواد خاما من خيوط الذهب أو من شعر الماعز، أو الصوف الأسود المميز، والموجودة في منطقة وحيدة بالمغرب في جبال سيروا الواقعة بإقليم تارودانت جنوب البلاد، أو خيوط الكتان المزروعة بمنطقة بني وراين في الشمال.
ويقول الباحث في التراث هشام لحرش للجزيرة نت إن “دار المخزن”، أو الدائرة السلطانية، لعبت دورًا مهمًا، ليس فقط في الحفاظ على التقاليد التي كانت جزءًا أصيلًا من تدبير الحكم، بل وحافظت على وسائل وُظفت في إبراز هذه التقاليد لفن العيش المغربي، وهي اللباس والطعام والمعمار، وما يصاحب ذلك من أثاث.
مركز سياسي وثقافي
قبل الوصول إلى رواق المعرض في قصر الباهية الذي شيّده أبو عمران موسى بن أحمد بن مبارك الشرقي البخاري، حاجب السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن في منتصف القرن الـ19، يقطع الزائر مسافة طويلة داخل الأروقة عبر ممرات وصحون واسعة وحدائق فواحة توحي بفخامة المكان وعبق التاريخ.
وفي غرفة الاستقبال، ثمة كساء للجدران من البروكار (قماش من الحرير أو الجلد) يضفي رونقًا خاصًا على المكان ويحمي الأثاث من الرطوبة، فيما تبرز أواني تحضير الشاي المغربي (تسمى محليا “عمارة أتاي”) كانت تقدم هدية سلطانية ذات قيمة عالية إلى رؤساء القبائل وزعمائها.
ومن جهتها، تقول الباحثة في التراث حنان لبشير، محافِظة قصر الباهية، للجزيرة نت إن اختيار المكان لعرض هذه التحف كان مقصودًا، باعتبار أن “دار المخزن” شكلت طوال قرن من الزمن مركزًا سياسيًا وإداريًا وثقافيًا وفنيًا متميزًا، “ولإتاحة الفرصة للزوار من مختلف بلاد العالم للتعرف على هذا الموروث الخاص بفن العيش المغربي”، وفق تعبيرها.
دقة متناهية
ما يميز المعروضات المخزنية تلك الدقة المتناهية والمواد المستعملة، إذ تضم مجموعة من الزرابي (البُسُط أو الفُرُش) التقليدية والعتيقة والأصيلة من مختلف المناطق، وهي تختلف من حيث أبعادها وأحجامها ومناطقها وزخرفتها وتقنيات نسجها، كما توضح لبشير.
لكن الباحث لحرش يرى أن التقاليد المغربية في اللباس والعمارة والأثاث استمرت مع قدرة على التجدد، وهو تجدد أسهم فيه المخزن (رجال السلطة) وعلى رأسه السلطان، الأمر الذي يفسّر تطلع الجمهور إلى معرفة هذه التقاليد السلطانية.
ويشير إلى ضرورة العناية بالقطع المعروضة اليوم في “دار المخزن” من الباحثين والمهتمين، كونها ترتقي إلى مستوى التحف الفنية.