الصحة النفسية من منظور أخلاقي | آراء
بات الانشغال بالنفس اليوم يغلب على حقلين تخصصيين هما علم النفس (Psychology) والطب النفسي (Psychiatry)، ومن ثم نشأ مصطلح “الصحة النفسية” أو العقلية الذي يحيل إلى الحالة النفسية الجيدة للإنسان التي تخلو من أي اضطراب ويتحقق فيها التوازن العاطفي والسلوكي للإنسان، وهو ما أرسى مفهوما ضيقا للمرض النفسي والصحة النفسية، فعلى سبيل المثال، ساد تصنيف المثلية الجنسية بوصفها اضطرابا نفسيا حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي، ثم تحولت إلى خيار وشطبت من قائمة الاضطرابات النفسية. ولكن استعادة المفهوم الموسع للنفس والصحة النفسية المتجاوز للمنظور العيادي (clinical) من شأنه أن يقدم زوايا مختلفة للنظر إلى الموضوعات يسعفنا فيها فلسفة الأخلاق بوصفها حقلا متعدد التخصصات.
كان الانشغال القديم بالنفس الإنسانية جزءا من حقول وتخصصات متعددة أبرزها الفلسفة -وخاصة الفلسفة الخلقية- والتصوف، لأن كلا الحقلين يتمحوران حول تدبير النفس -باصطلاح الفلاسفة القدماء- أو تهذيب النفس وتزكيتها باصطلاح المتصوفة. وكان بعض من جمعوا بين الفلسفة والطب كأبي بكر الرازي (311هـ) قد صنف كتابا في طب الأجساد سماه “المنصوري في الطب”، ثم صنف كتابا آخر في طب النفوس سماه “الطب الروحاني” عالج فيه المسائل الخلقية التي فيها مداواة للنفس والبحث عن فضائلها ودفع رذائلها، ونحو ذلك فعل أبو زيد البلخي الذي جمع أيضا بين الفلسفة والطب فكتب كتابا سماه “مصالح الأنفس والأبدان”، جريا على تقسيم الإنسان إلى بدن ونفس، وهي القسمة التي سادت في الفلسفة اليونانية ثم الإسلامية.
ثم جاء ابن حزم الأندلسي (456هـ) فاستعمل تعبير “مداواة النفوس” للإحالة إلى علاج رذائل النفس، وهذا المنظور الذي يرى أن أخلاق النفس موضوع قابل للعلاج يرجع إلى جالينوس الذي جمع بين الطب والفلسفة أيضا وقد كانا متداخلين أصلا في التصورات القديمة للمعارف. ولهذا من يقرأ كتاب أبي بكر الرازي يجد أنه انطوى على مسائل تتصل بمبحثي الأخلاق وعلم النفس، وهو ما يؤكد فكرة أن النفس -عموما- موضوع يشترك فيه تخصصات عدة ولهذا هو جزء من مباحث الأخلاق التي هي حقل متعدد التخصصات.
وقبل أن يكون مبحث النفس موضوعا تخصصيا لحقلي علم النفس والطب النفسي، كان كذلك مبحثا مترامي الأطراف، ويمكن أن نميز فيه بين 3 مقاربات هي المقاربة القرآنية والفلسفية والصوفية.
ينبغي القول أيضا إن للإيمان أثرا كبيرا فيما سمي الصحة النفسية، لما يورثه في نفس المؤمن من فضائل تمكنه من تحقيق التوازن النفسي المطلوب، ففي القرآن “ألا بذكر الله تطمئن القلوب”
المقاربة القرآنية
فيما يخص المقاربة القرآنية، نجد أن النفس شغلت حيزا واسعا من الخطاب القرآني، وقد استعمل القرآن النفس بمعان عدة، منها الإشارة إلى ذات الإنسان ككل، والإشارة إلى جوهر الإنسان الداخلي وهو ما نعنيه هنا، وهو ما جرى عليه فلاسفة اليونان حين رأوا أن النفس جوهر وأنها الفاعل الحقيقي من خلال الجسد عبر مجموعة من القوى الكامنة فيها. والمتتبع للخطاب القرآني حول النفس بالمعنى الأخير يجد أننا يمكن أن نميز فيه بين 3 مسائل:
- الموضوعات المتصلة بالنفس التي عرض لها القرآن وتتناول أخلاق النفس وعللها.
- وأنماط السلوك الإنساني الذي يتصل باستجابات النفوس المختلفة عند المحن والمصائب وغيرها.
- أثر الكلمة القرآنية في النفس.
أما موضوعات النفس التي تناولها القرآن الكريم فتشمل -في رأيي- 4 موضوعات رئيسة هي:
- رذائل النفس وعللها، حيث نجد في القرآن آيات عديدة ومتفرقة تتحدث عن استكبار النفس، والإسراف على النفس، وتسويل النفس ووساوسها، وشح النفس، وشهوة النفس، وضيق النفس، وظلم النفس.
- وفضائل النفس، حيث نجد آيات عديدة تتحدث عن الإيثار على النفس، وإيمان النفس، وبذل النفس، وتقوى النفس، وصبرها، ونهي النفس عن الهوى، وهدى النفس، ويقين النفس.
- وآليات التعامل مع النفس حيث نجد آيات عدة تتحدث عن اتهام النفس ولومها، وهو ما يشير إلى فكرة الاعتراف، كما نجد جهاد النفس وتزكيتها من أجل ترقيتها لتكون فاضلة، وتغيير ما بالنفس، وجزاء النفس ومكافأتها، ومحاسبة النفس.
- ومراتب النفس حيث نجد القرآن يحدثنا عن أنواع من النفوس تعكس مراتب متفاوتة في الفضيلة، كالنفس اللوامة، والنفس الأمارة بالسوء، والنفس الراضية المرضية، والنفس المطمئنة.
وأما أنماط السلوك الإنساني التي يشير إليها القرآن فهي واسعة حتى بحث بعضهم “الإنسان في القرآن”، ولكنني أكتفي هنا بالإشارة إلى 3 أنماط سلوكية حدثنا القرآن عنها، وهي تتناول سلوك الإنسان في مواجهة الصعوبات أو المصائب.
- أولها: “وَأَمَا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِي أَهَانَنِ”
- وثانيها: “يَعْلَمُونَ ظَاهِرا مِنَ الْحَيَاةِ الدُنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ”
- وثالثها: “ومن الناس مَن يَعْبُدُ اللَهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُنْيَا وَالْآخِرَةَ”.
فهذه الأنماط الثلاثة تشير إلى وجود خلل في تصورات هؤلاء عن الإيمان من جهة، وفي العمل أو السلوك الواجب عند التعرض للمصائب والابتلاءات من جهة أخرى، الأمر الذي يُحدث لدى الإنسان الاضطراب داخله فينعكس على سلوكه الخارجي. بل إن القصص القرآني جديرٌ بالتأمل لجهة الأبعاد النفسية التي يرسمها القرآن للأنبياء أنفسهم، حيث يحدثنا أحيانا عن مكنونات أنفسهم، كما نجد في قصة موسى الذي خرج من المدينة خائفا يترقب بعد أن وكز رجلا فقتله خطأ، وقصة يوسف الذي راودته امرأة العزيز عن نفسه فطلب من الله أن يصرف عنه كيد النساء حتى لا يصبو إليهن في لحظة ضعف، وقصة يعقوب مع أولاده، وكما في قصة التبني التي قال فيها القرآن مخاطبا النبي محمدا صلى الله عليه وعلى جميع الأنبياء السابقين: “وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه”. هذا الجانب النفسي يستحق التأمل من جهات متعددة، فهو يؤكد -مجددا- إنسانيتهم، ويرسم لنا الاستجابة الأمثل في مثل تلك الوقائع المحددة.
أما أثر الكلمة القرآنية في الصحة النفسية بالمعنى الموسع، لا الطبي الضيق، فيتضح من خلال الرقية الشرعية التي تقوم على قراءة آيات من القرآن، وتأتي الكلمة القرآنية في المرتبة العليا وإن كان للكلمة الطيبة عموما أثرٌ في النفس وانفعالاتها، ولهذا ضرب القرآن المثل بالكلمة الطيبة وأنها كشجرة طيبة في الإثمار “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَهُ مَثَلا كَلِمَة طَيِبَة كَشَجَرَةٍ طَيِبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَمَاءِ”، وضرب في المقابل المثل بالكلمة الخبيثة وأنها لا تثمر فقال: “وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ”، وأمر الناس أن يقولوا حسنا فقال: “وَقُولُوا لِلنَاسِ حُسْنا”، ونهى عن الجهر بالسوء من القول فقال: “لَا يُحِبُ اللَهُ الْجَهْرَ بِالسُوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَا مَن ظُلِمَ”.
ولعل من المفيد أن نشير إلى قول يُنسب إلى الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه، ولكن بغض النظر عن صحة هذه النسبة، فإن القول الآتي مستنبط من القرآن ويوضح الأثر النفسي للكلمة القرآنية في الأحوال التي تصيب الإنسان كالخوف والغم والعجز والرجاء. يقول: “عجبْتُ لمن خافَ ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى: (حَسْبُنَا اللَهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، فإني سمعت الله عقِبَها يقول: (فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ). وعجِبْتُ لمن اغتمَ، ولم يفزعْ إلى قوله تبارك وتعالى: (لاَ إِلَهَ إِلاَ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِي كُنتُ مِنَ الظَالِمِينَ) فإني سمعتُ الله عقبها يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَيْنَاهُ مِنَ الْغَمِ وَكَذلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ). وعجبتُ لمن مُكِر به، ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى: (وَأُفَوِضُ أَمْرِي إِلَى اللَهِ إِنَ اللَهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ). فإني سمعت الله عقبها يقول: (فَوقَاهُ اللَهُ سَيِئَاتِ مَا مَكَرُواْ). وعجبت لمن طلب الدنيا ولم يَفْزَع إلى قوله تبارك وتعالى: (مَا شَآءَ اللَهُ لاَ قُوَةَ إِلاَ بِاللَهِ). فإني سمعت الله عقبها يقول: (فعسَى رَبِي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرا مِن جَنَتِكَ)”.
المقاربتان الفلسفية والصوفية
أما فيما يخص المقاربة الفلسفية للنفس، فقد كان الفيلسوف والطبيب أبو زيد البلخي من أوائل من أدرك الربط بين النفس والجسد، أو أن أحوال النفس واضطراباتها تؤثر على صحة الجسد. وقد انشغل الفلاسفة وعلماء التصوف -منذ زمن مبكر- بالبحث عن الصلة بين النفس والسلوك الإنساني، لأن النفس هي الفاعل الحقيقي من خلال الجسد، فالنفس هي مصدر الأفعال التي يقوم بها الجسد كما تقرر في الفلسفة اليونانية ثم في الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية. وقد انشغل فلاسفة اليونان وفلاسفة المسلمين بـ3 مسائل كبرى تتصل بالنفس هي:
- معرفة النفس وقواها وصلتها بالسلوك الإنساني.
- والبحث في فضائل النفس ورذائلها.
- والبحث في قابلية النفس للتغير وكيفية تغيير ما في النفس من رذائل عن طريق التعود.
توضح هذه المسائل الثلاث كيف أن البحث في النفس من صميم الفلسفة الخلقية كما نعرفها في الفلسفتين اليونانية والإسلامية الكلاسيكية. وقد كتب بعض فلاسفة المسلمين رسائل مفردة في علل النفس وأمراضها، وفي دفع الأحزان، وخاصة الخوف من الموت مثلا الذي صنف فيه مسكويه (421 هـ) وابن حزم. وكان الكندي (256هـ) أول فيلسوف عربي يكتب رسالة عن الحيلة لدفع الأحزان عن النفس، وهذه كلها مباحث فلسفية خلقية وفق التصورات الكلاسيكية لعلم الأخلاق، وقد يُدرس بعضها اليوم ضمن حقلي علم النفس والطب النفسي.
أما المقاربة الصوفية للنفس فقد تميزت بالثراء والتفصيل، نظرا لطبيعتها العملية، لأنها لم تقف عند حدود التنظير الفلسفي، فالتصوف -في أصله- ممارسة قبل أن يتم التنظير له فيما بعد لمواجهة التحديات التي واجهت شرعيته بوصفه علما.
وإذا كانت المقاربة الفلسفية متنوعة بين يونانية وما جرى مجراها من تفلسف بعض فلاسفة المسلمين، وبين إسلامية مؤطرة بالوحي كما نجد لدى الراغب الأصفهاني والغزالي، فإن المقاربة الصوفية للنفس شديدة الوضوح في البحث عن دخائل النفس وعللها بمنظور يتجاوز المنظور المادي الضيق لمفهومي المرض والصحة اللذين يسودان في مجال الطب النفسي الغربي ويغيب عنهما البعدان الخلقي والأخروي، في حين أن هذا كان محور انشغال الإمام الحارث المحاسبي (243هـ) مثلا في مصنفاته المبكرة والثرية التي حظيت باهتمام بحثي في اللغات الألمانية والإنجليزية والعربية، ويمكن أن يعد أكبر باحث قديم في مجال النفس.
يتضح مما سبق أن علل النفوس (أو أمراض النفس) مسألة تتصل بالنفس الإنسانية عموما بمعزل عن الجغرافيا أو الدين، ولكن ينبغي القول أيضا إن للإيمان أثرا كبيرا فيما سمي الصحة النفسية، لما يورثه في نفس المؤمن من:
- فضائل تمكنه من تحقيق التوازن النفسي المطلوب، ففي القرآن “ألا بذكر الله تطمئن القلوب”، وفي الحديث النبوي “وجعلت قرة عيني في الصلاة”.
- كما أن الإيمان الصحيح يؤثر في صلاح نفس الإنسان فيدفعه إلى السلوك الصالح الذي تقومه أحكام الشريعة والعرف الاجتماعي الصحيح والتربية الأسرية الصالحة.
ومن ثم فلا تقتصر الحاجة إلى الصحة النفسية (بالمعنين الطبي والخلقي) على المجتمعات غير المسلمة، فضلا عن أن من المسلمين من تَعْرض له أزمات أو يجزع عند المصائب فيفقد توازنه النفسي مما يؤثر على سلوكه فيتصرف بطريقة غير فاضلة.
يقودنا هذا النقاش كله إلى أمرين:
- الأول: أن مفهوم الصحة النفسية ينبغي أن يتسع لمدى أبعد من المنظور الضيق للمرض العيادي، وأن الإيمان والأبعاد الأخروية لها أثر كبير في الصحة النفسية كذلك، ولأجل هذا كان مبحث النفس مبحثا فلسفيا وأخلاقيا لا مبحثا طبيا قاصرا.
- الثاني: أن تعقيدات النفس الإنسانية وصلتها بمجالات الفلسفة والتصوف والطب وعلم النفس يجعل من الضروري التمييز بين مستوياتها، وعدم إطلاق التعميمات في أي جزئية من جزئياتها.
ومن ثم لا بد من الإقرار بأن بعض الحالات المرضية كالاكتئاب الحاد والوسواس القهري وغيرهما مما قد يؤدي إلى عواقب تهدد حياة الإنسان نفسه، تتطلب علاجا من متخصص.
وهنا نؤكد أهمية التمييز بين مفهومين للمرض: المرض بالمصطلح التقني العلاجي الذي صار جزءا من اختصاص الطب النفسي، والمرض بالمعنى الأخلاقي الذي عالجه فلاسفة الأخلاق والمتصوفة في أدبياتهم، وهو مفهوم أعم وأشمل من المفهوم الطبي العيادي، ومتجاوز لفكرة الصحة النفسية بالمفهوم المادي، لأنه يبحث عن اكتساب الفضيلة ويتضمن الأبعاد الأخروية وفق المنظور الإسلامي، كما يتناول تقويمات السلوك الإنساني في حالة ما كان ناشئا عن اضطراب نفسي يخل بفكرة المسؤولية عن الفعل، وهو ما يتصل بحقل الفقه الإسلامي وينشغل به الفقهاء أيضا.