عشرات المليارات من الدولارات.. كيف أطلقت حرب أوكرانيا حقبة جديدة من الأبحاث العسكرية حول العالم؟
غالبا ما تعيد الحروب تشكيل العالم الذي نعرفه بطرق لا نتوقعها، على سبيل المثال، أشعلت الحرب العالمية الثانية موجة من الأبحاث العلمية العسكرية، بهدف تطوير أسلحة قادرة على ردع المد النازي، ومن رحم “مشروع مانهاتن” الأميركي السري، خرجت القنبلة الذرية لتغير شكل العالم الذي عرفناه، وبالمثل، يتوقع الخبراء في وقتنا الحالي أن الغزو الروسي الأخير لأوكرانيا ربما يطلق شرارة البدء لحقبة جديدة في مجال البحوث العسكرية حول العالم، حقبة ستكون متمحورة بشكل رئيسي حول الميكنة والمعلومات واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين قدرات الجيوش.
يتزامن هذا التحول مع ارتفاع غير مسبوق في الإنفاق العسكري العالمي ليتجاوز تريليونَي دولار عام 2021 لأول مرة في التاريخ، تُعزى هذه الزيادة بشكل رئيسي إلى نمو ميزانية الدفاع لكل من روسيا والصين ودول آسيا مثل اليابان بشكل رئيسي، إضافة إلى أستراليا وبعض دول أوروبا. لكن الملاحظة الأبرز كانت ارتفاع الإنفاق على البحث والتطوير في العديد من دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي ارتفع إنفاقها على البحث والتطوير العسكري (R&D) بنسبة 24% بين عامي 2012 و2021، في حين انخفض تمويل مشتريات الأسلحة بنسبة 6.4% خلال الفترة نفسها.
الاتحاد الأوروبي.. العضو الجديد في سباق البحوث العسكرية
يمكننا أن نرصد التوجه ذاته في العديد من دول أوروبا وفي الاتحاد الأوروبي نفسه، الذي بدأ ينتبه لأهمية ضخ المزيد من الأموال في بحوث التطوير العسكري. ففي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، اجتمع قادة الاتحاد الأوروبي في قصر فرساي بفرنسا، وهو ما نتج عنه “إعلان فرساي” الذي تعهد بزيادة كبيرة في الإنفاق العسكري لدول الاتحاد لمواجهة التحديات القائمة. في الحقيقة، كانت العديد من دول أوروبا تتبنى هذا النهج في زيادة إنفاقها العسكري بالفعل حتى قبل الغزو الروسي.
ففي ديسمبر/كانون الأول عام 2022، نشرت وكالة الدفاع الأوروبية (EDA) تقريرها السنوي للفترة 2020-2021، الذي يوضح بالتفصيل الإنفاق الدفاعي من قبل 26 دولة عضوة في الوكالة. وفقا للتقرير، بلغ إجمالي الإنفاق الدفاعي الأوروبي مستوى جديدا عام 2021، وهو 214 مليار يورو، مسجلا زيادة بنسبة 6% مقارنة بعام 2020، وهي الزيادة السنوية السابعة على التوالي. الأهم أن التقرير وجد أن الدول الأعضاء تستثمر أكثر من أي وقت مضى ليس فقط في شراء المعدات العسكرية، ولكن في البحث والتطوير بزيادة قدرها 16% مقارنة بعام 2020، وبإجمالي 52 مليار يورو.
في إطار هذا التوجه، قدّم “صندوق الدفاع الأوروبي (European Defence Fund)” منحا بقيمة 1.24 مليار يورو في يوليو/تموز الماضي ضمن حملة كبرى لتمويل الأبحاث العسكرية المشتركة بين الدول الأعضاء، وذلك بعد عقود من سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على مجالات الابتكارات الحربية، وكان الصندوق قد بدأ نشاطاته بالفعل ببرنامجين تجريبيين وميزانية قدرها 7.9 مليارات يورو مقسمة على 7 سنوات عام 2021.
كان من بين المشروعات الفائزة بالمنحة الأوروبية مشروع “EuroHAPS” التجريبي، الذي يهدف إلى تطوير عدد من الأجهزة المصممة لتحسين المهام الاستخباراتية ومهام المراقبة والاستطلاع، وبموجبه وقَّعت المفوضية عقدا مع مؤسسة “تاليس ألينا سبيس (Thales Alenia Space)” بقيمة 43 مليون يورو، وهي مؤسسة مشتركة بين مجموعة تاليس الفرنسية ومجموعة ليوناردو الإيطالية للصناعات الدفاعية، وقد شملت تلك الأجهزة منطاد تجسس الستراتوسفير القادر على التحليق على ارتفاعات عالية في الغلاف الجوي، ما يمكنه من اختراق حدود الدول غير الصديقة.
هناك الكثير من بحوث التطوير الدفاعي الأخرى التي ينفق عليها الاتحاد الأوروبي بالفعل، نذكر منها على سبيل المثال مركبات جوية أوروبية تعمل بالطاقة الشمسية، و”أقمارا صناعية زائفة” لجمع المعلومات الاستخباراتية، وهما ابتكاران جديدان بين عشرات الابتكارات الحربية الجديدة المدعومة أوروبيا، التي شملت العديد من التقنيات الحديثة من الطائرات بدون طيار إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
الناتو يدخل السباق بـ”مشروع ديانا”
لم يتوقف الأمر على الاتحاد الأوروبي، إذ لم يتردد حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي يضم 31 عضوا في أميركا الشمالية وأوروبا، من التصريح بحقيقة أنه يراقب الحرب في أوكرانيا عن كثب لاستخلاص الدروس المستفادة. وفي ضوء ذلك، أطلق الحلف مبادرة جديدة خاصة لدعم التطوير العسكري والابتكار، أطلق عليها اسم “ديانا (DIANA)”، التي من المفترض أن تطلق أولى برامجها التجريبية في خريف 2023.
تهدف المبادرة إلى تسريع وتيرة الابتكارات العسكرية وتكييف الحلول التكنولوجية بما يتناسب مع احتياجات الدفاع والأمن، وبالفعل تبنت المبادرة عدة تطبيقات تقنية، مثل الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، وعلوم المواد في المجالات العسكرية والأمنية، وقد افتتح نائب الأمين العام لحلف الناتو بصحبة وزير الدفاع البريطاني أول مكتب إقليمي لـ”ديانا” في مركز الابتكار بـ”إمبريال كوليدج لندن” في 30 مارس/آذار الماضي.
ومن المقرر أن تُستكمل المبادرة عن طريق تأسيس صندوق تمويلي قيمته مليار دولار أميركي للمشروعات المشتركة بين الدول الأعضاء، ويهدف إلى تمويل الشركات الناشئة المعنية بابتكار التكنولوجيا مزدوجة الاستخدام (أي ذات الاستخدامات المدنية والعسكرية في الوقت نفسه).
أميركا لا تزال تتربع على العرش
تحافظ الولايات المتحدة الأميركية بلا شك على مكانتها بوصفها أكبر ممول للأبحاث العسكرية على مستوى العالم، ونتيجة للتوترات المتزايدة حاليا مع الصين، وتحت ضغوط الحرب الروسية الأوكرانية، ستشهد ميزانية الدفاع الأميركي ارتفاعا بنسبة 10% تقريبا لتصل إلى 813 مليار دولار، بحسب ما فُصِّل في طلب ميزانية الدفاع الوطني للعام المالي 2023.
تبرر إدارة الرئيس جو بايدن مطالبها بزيادة تاريخية للميزانية العسكرية بحاجتها لتمويل أكبر ميزانية للبحث والتطوير العسكري في تاريخ البلاد، بهدف الحفاظ على التفوق التكنولوجي للجيش الأميركي على المنافسين الإستراتيجيين. تشمل المجالات الرئيسية لهذا الإنفاق تطوير ودمج طائرات الجيل السادس ومنصات الدفاع الصاروخي، إضافة إلى تعزيز قدرات الأسطول البحري، كما تركز وكالة مشروعات البحوث المتطورة الدفاعية (داربا) على الاستثمار في تكنولوجيا المعلومات واستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي من وجهة نظر دفاعية.
العملاق الصيني يتقدم بسرعة وثبات
China on Thursday delivered the world’s first seaborne drone carrier, the Zhu Hai Yun, capable of operating on its own. The unmanned carrier can be controlled remotely and navigate autonomously in open water. It will undertake marine scientific research. pic.twitter.com/mqEXMX24SF
— Zhang Meifang张美芳 (@CGMeifangZhang) January 13, 2023
ومع تصاعد التوترات الجيوسياسية، وفي خضم سباق التسلح الإقليمي والعالمي، وسعت الصين هي الأخرى من ميزانيتها العسكرية لعام 2023 بنسبة 7.2%، لتبلغ 224 مليار دولار، رغم أن التقديرات الغربية تشير إلى أن الإنفاق الفعلي على القوات المسلحة الصينية غالبا ما يكون أعلى بكثير من البيانات الرسمية المنشورة.
تنافس الصين بقوة في مجالات التطوير والابتكارات العسكرية، إذ استعرض التنين الأحمر تطوير صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، وأعلن عن أول حاملة طائرات “ذكية” تدار بشكل ذاتي للطائرات المسيرة من دون طيار، والتي من المتوقع أن تطلق تغييرات ثورية في مجال مراقبة المحيطات، وتسعى الصين بهذه التكنولوجيا إلى تعزيز استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي في الابتكارات الحربية، لكفاءتها العالية وقلة تكاليفها.
كان شي جين بينغ، رئيس جمهورية الصين الشعبية، قد صرح في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن هدفه بناء جيش على مستوى عالمي بحلول منتصف القرن عن طريق إدخال التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي بشكل أكبر في صناعة الأسلحة المتطورة، وهو ما دعا العديد من المراقبين الغربيين إلى الاعتقاد بأن تحولا عميقا على وشك الحدوث في ميزان القوة العسكرية العالمي، خاصة أن بكين تعتمد اليوم أكثر من أي وقت مضى على ما يُعرف بـ”الحرب الذكية”، وهو مفهوم جديد للحرب القائمة على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والهجمات الإلكترونية، مع تقليل الاعتماد على أساليب الحرب التقليدية.
وروسيا أيضا
The first evidence Russia is using loitering munitions in Ukraine. This looks like a Kalashnikov ZALA Aero KUB-BLA loitering munition. https://t.co/O832OSUKSm pic.twitter.com/cXzuwgciut
— Rob Lee (@RALee85) March 12, 2022
بالطبع لا يمكن الحديث عن زيادة الإنفاق العسكري وموجة البحث والتطوير التي انبثقت من الحرب الأوكرانية دون الإشارة إلى روسيا، فقد رفعت موسكو هي الأخرى ميزانيتها الدفاعية لعام 2023 إلى 84 مليار دولار، بزيادة 40% على التقديرات الأولية للموازنة المُعلَنة في 2021.
في يناير/كانون الثاني الفائت، وعدت روسيا بإجراء تغييرات هيكلية على القوات المسلحة في الفترة بين 2023-2026، وإلى جانب الإصلاحات الإدارية صرحت وزارة الدفاع أنها على وشك تعزيز قدرات قواتها البحرية والجوية. وبخلاف القدرات الحربية التقليدية، تستثمر موسكو في التطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي منذ سنوات، وقد رُصدت الطائرة المسيرة الروسية “KUB-BLA” -من إنتاج شركة الأسلحة الروسية كلاشنكوف- بالفعل في حرب أوكرانيا، ما يشير إلى التطور السريع الذي شهدته روسيا في هذا المجال، رغم أنها ما تزال متأخرة بالمقارنة مع الولايات المتحدة أو حتى مع الصين.
وكانت وزارة الدفاع الروسية قد أعلنت في قمة الجيش لعام 2022 أنها شكلت إدارة عسكرية مخصصة لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، ليدخل العملاق الروسي رسميا سباق حروب المستقبل، التي تعتمد بشكل كبير على الميكنة والمعلوماتية والتعلم الآلي.