محاكم الجاكاكا قضت في 1.5 مليون قضية.. هل طوي ملف مجازر رواندا؟ | سياسة
على مدار 100 يوم بين أبريل/نيسان ويوليو/تموز 1994، جرت في رواندا واحدة من أسوأ الجرائم الإنسانية في أفريقيا وربما على مستوى العالم، حين جرت عمليات “التطهير العرقي” ضد أقلية التوتسي، وراح ضحيتها ما يقرب من مليون شخص على مرأى ومسمع المجتمع الدولي.
وقد زرع الاستعمار بين الروانديين كغيرهم من الشعوب المستعمرة فتنة التباين العرقي وصنع الفجوات وبناء الحواجز، فكانت الصدامات المبكرة أعوام 1959 و1961 و1964 بين الهوتو والتوتسي راح ضحيتها عشرات الآلاف، واستمر الحال عامي 1967 و1973 لتتصاعد إلى أعلى مستوى من التوتر بين الطرفين عام 1990 عندما غزت الجبهة الوطنية الرواندية “إف بي آر” (FPR) روندا قادمة من أوغندا، وبلغت ذروتها بمقتل جوفينال هابياريمانا الرئيس المنتمي للهوتو عام 1994.
هل تمت تسوية المشكلة وكيف؟
من الصعب تصور حل جذري ونهائي لمثل هذه المشكلة، بسبب عمق الخلافات وتجذرها وكثرة الثارات بين الطرفين منذ وقت بعيد، إلى جانب الأعداد الكبيرة التي اشتركت في عملية الإبادة، الأمر الذي صعب مهمة الجهات المعنية بالتحقيق والتقصي، ومن ثم الشروع في المحاكمات، وصولا للعدالة ومنعا لتكرارها في المستقبل، وبذلت المؤسسات الدولية المعنية بتحقيق العدالة ومؤسسات الدولة والمجتمع جهودا لمعالجة آثار الجريمة عبر عدد من المعالجات:
ما الدور الذي لعبته المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا؟
بعد توقف المجازر في رواندا، بادرت الأمم المتحدة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية لرواندا والمعروفة رسميا باسم “المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن الإبادة الجماعية وغيرها من الانتهاكات للقانون الدولي” ومقرها في أروشا بتنزانيا، وحصر اختصاصها في محاكمة القادة الكبار. وأكملت المحكمة الدولية أولى قضاياها عام 1998 وحكمت على رئيس الوزراء الرواندي السابق جان كابيندا حيث أقر بأنه مذنب في 6 تهم تتعلق بالإبادة الجماعية وحكم عليه بالسجن مدى الحياة عام 2004.
كما أنهت المحكمة محاكمة 4 من كبار الضباط العسكريين بمن فيهم العقيد باغوسورا الذي يعتبر المهندس الرئيسي للإبادة الجماعية، كما حكمت على وزيرة العدل ومحافظ كيغالي ورئيس البرلمان السابق الفريد موليرا، وحتى عام 2011 أكملت المحكمة محاكمة 80 مسؤولا من مجموع 92 متهما من كبار مسؤولي الحكومة الضالعين في الإبادة.
ما المحاكم الوطنية الرواندية وكيف عملت؟
هي المحاكم التي تولت توجيه التهم ضد أولئك الذين ثبتت إدانتهم وحكم على عدد منهم بالإعدام، ونفذت أول أحكام الإعدام في أبريل/نيسان 1998 عندما تم إعدام 22 شخصا مدانا بارتكاب الإبادة الجماعية علنا، واتُّهمتْ المحاكم الوطنية بمحاكمة المشتبه بهم من المستويات الأدنى، كما اتهمت بالقصور في بعض الإجراءات التي تميل إلى التحيز العرقي.
ما محاكم الجاكاكا التقليدية وهل أسهمت في لملمة الجراح؟
ولما كان عدد المشتبه بارتكابهم وارتباطهم بجرائم الإبادة كبيرا والإجراءات بطيئة تم إنشاء محاكم الجاكاكا، وهي كلمة تعني العشب، وتشير إلى جلوس الجميع على الأرض لمعالجة المشكلات على أسس تقليدية كانت تستخدمها المجتمعات لحل النزاعات بين العائلات، وعام 2001 كان هناك حوالي 115.000 قضية تنتظر النظر فيها.
وعملت المحاكم في الهواء الطلق وتحت الأشجار، وعمل أرباب الأسر كقضاة عبر آلاف المحاكم المحلية ومحاولة النظر والتعامل مع القضايا الصغيرة. وبالجملة استطاعت محاكم الجاكاكا أن تُنهي 1.5 مليون قضية بين عامي 2001 و2010 بسبب كثرة القضايا والمتهمين وتكرار التأجيل وتعرض المحاكم للإغلاق أحيانا.
ما جهود السلطات الرواندية لمعالجة آثار المجازر؟
إلى جانب محاكمات مرتكبي جرائم الإبادة في مختلف المستويات، بادرت الحكومة الرواندية مستفيدة من اتفاقية أروشا للمصالحة بإنشاء اللجنة الوطنية للمصالحة “سي إن يو آر” (CNUR) عام 1999، ووضعت لها عددا من الأهداف وفقا للمادة 178 من الدستور:
- صياغة وترتيب البرنامج الوطني للوحدة والمصالحة.
- إعداد الوسائل الخاصة بتكريس وتعزيز المصالحة الوطنية والوحدة.
- تقديم المقترحات حول أفضل الطرق لإزالة وإنهاء الانقسامات.
- تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية وتنظيم مؤتمرات وطنية كل سنتين ابتداءً من 2000 لعرض نجاحات اللجنة.
- تقديم مبادرات جديدة تدعم المبادرات الموجهة لمكافحة الفقر، ودعم مبادرات الأندية والجمعيات التي تخدم المصالحة.
هل تم تعويض ذوي الضحايا والناجين من المجازر؟
على مستوى المحكمة الدولية، لم تهتم بالتعويضات المالية رغم اهتمامها بالإجراءات الجنائية، بل تجاهلت التعويض المالي، بالرغم من مبادرات دعت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا لإجراء تعديلات تشمل إنشاء صندوق تعويضات على غرار السوابق المماثلة عالميا، إلا أن المحاولات في حالة رواندا لم تكلل بالنجاح.
على المستوى المحلي وعام 2001، تمت صياغة مشروع قانون يدعو إلى إنشاء صندوق تعويضات، وفي بعض الحالات تم تفويض الحكومة الرواندية بدفع التعويضات للضحايا، ولكن لم تجد طريقها للتنفيذ، بل اكتفت الحكومة بإنشاء صندوق لتوفير الرعاية الصحية والتعليم للناجين دون الخوض في التعويض المالي.
هل تمت معاقبة كل المتهمين بارتكاب الإبادة الجماعية؟
بعد 100 يوم من الإبادة الجماعية و”التطهير العرقي” فر مليوني شخص من الضالعين في الجرائم إلى الكونغو الديمقراطية، وأنشؤوا جماعات متمردة لإسقاط الحكومة التي تأسست بعد المذابح، وعملت المحاكم على تسوية بعض القضايا ولكن مما لا شك فيه أن أعدادا كبيرة من المطلوبين للعدالة ما زالوا هاربين ومختفين.
ولعل أبرز الأسباب هي كثرة المتهمين وضعف الأجهزة التي يمكن أن تساعد في تحقيق العدالة وقلة الإمكانات والوسائل، والملاحظ هو لجوء الحكومة للتصالح أكثر من السعي لمعاقبة المدانين، خاصة من ذوي الاتهامات الأدنى.
كيف نجحت إستراتيجية الاعتراف والصفح؟
في ظل اكتظاظ السجون بالمتهمين وبروز عوائق حقيقية في تحديد حجم ومستوى الاتهام ضد غالبية المتهمين، لجأت الحكومة إلى إستراتيجية الاعتراف والصفح من أجل بث روح المسامحة عبر عدد من المشاريع التقليدية:
- مشروع أومو قومو وتعني شجرة الجميز، والمعنى هنا هو تقديم اعتراف عملي حيث يقوم السجناء ببناء منازل للمعوزين من الناجين من المجازر، والمقصد هو جمع الجناة والناجين وأسرهم معا من أجل تحقيق المصالحة بمستوى أعمق.
- مشروع إنشاء قرى مصالحة بدعم من المنظمات، حيث حاولت جمع الجناة والناجين والعيش معا في مكان واحد وإقامة علاقات جديدة، خاصة وأن الغالبية العظمى ليس لها مكان تعود إليه ولا أقرباء تحتمي بهم.
وقد أدى هذا إلى مزيد من الاعتراف من قبل السجناء، وأعطى حوافز لمزيد من السعي نحو المصالحة مما خفف من أعداد السجناء.
ماذا بقي من مأساة التطهير العرقي في رواندا؟
انتقل جزء من الصراع إلى الكونغو الديمقراطية حيث يحتمي عدد كبير من الفارين بل وشكلوا جبهة معارضة ضد الحكومة الرواندية، تحت مسمى القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، مع وجود جماعات من التوتسي تتمرد على حكومة الكونغو الديمقراطية بدعم غير معلن من رواندا وفقا لمراقبين.
أما على المستوى الداخلي، فقد تغيرت البلاد تماما حيث اختفت الهُويات الفرعية “فلا هوتو ولا توتسي” بل الجميع “رواندي” يذهبون سنويا لإحياء ذكرى مجازر الاستئصال والتطهير العرقي في النصب التذكاري الذي أقيم كشاهد على أبشع عمليات إبادة شهدها القرن العشرين.