هل آن الأوان كي يبكي الرجال بلا خجل؟!
حسنا، من المؤكد أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت أشبه بساحة لصراعات اجتماعية وثقافية مشتعلة بين فئات عديدة، على وجه التحديد، يمكننا أن نرصد تلك المعارك الكلامية التي تشتعل ثم تخبو في خضم “حرب كبرى” بين الرجال والنساء، تحديدا من الفئات العمرية الشابة، الواقعة قبل سن الزواج أو حديثي الزواج على الأغلب.
مؤخرا أثير الجدل مرة أخرى بين الفريقين على إثر مشاهد متفرقة لبكاء واحد من الأبطال (رجل) في مسلسل مصري (يسمى الهرشة السابعة) على إثر فشل حصل في زواجه، وتسبب ذلك في موجة من التساؤلات حول موضوع بكاء الرجل، اتهم البعض الحركات النسوية بمحاولة “تليين الرجال” إلى حد جعلهم يبكون مثل النساء في كل شاردة وواردة، وقال التيار الآخر إنه من حق الرجل أن ينكسر إذا كان الحمل ثقيلا.
مَن يبكي أكثر؟
في الواقع، فإن حديثنا هنا ليس عن المسلسل بالطبع، لكن دعونا نتأمل الأمر بدرجة من العمق، فنحن نعرف أن الاختلافات بين الجنسين تبدو بالفعل واضحة في موضوع البكاء، أشارت معظم الدراسات(1) في هذا النطاق إلى النتيجة نفسها التي تقول إن النساء يبكين أكثر من الرجال في المتوسط، وكانت إحدى أشهر الدراسات في الثمانينيات وجدت أن النساء يبكين بمعدل 5.3 مرات في الشهر مقابل 1.3 مرة بالنسبة إلى الرجال.
ربما يكون هناك سبب بيولوجي لبكاء النساء أكثر من الرجال، وهو أن التستوستيرون (هرمون الذكورة) قد يمنع البكاء، في حين أن هرمون البرولاكتين (الذي يظهر بمستويات أعلى عند النساء) قد يعززه. يعدُّ هذا أحد نتائج الاختلافات التشريحية والهرمونية والسلوكية بين الرجال والنساء، فالنساء يصنفن أنفسهن باستمرار في الاختبارات على أنهن أكثر تعاونا، ودفئا، وأكثر صدقا وأكثر قلقا وحساسية في مشاعرهن من الرجال، بينما يصنف الرجال أنفسهم على أنهم أكثر حزما وترحيبا بالأفكار الجديدة، كذلك فإن النتائج نفسها نحصل عليها حينما نحاول أن نتقصى رأي نساء في الرجال من حولهم أو العكس.
لكن هذا وحده ليس دليلا كافيا، لأن الرغبة في البكاء ليست كلها بيولوجية، بل تتأثر بعوامل ثقافية كذلك. على سبيل المثال، وجدت دراسة(2) أجريت عام 2011 على أشخاص في 37 دولة أن الرجال والنساء يميلون بشكل أكبر للبكاء في البلدان الغنية مقابل الفقيرة، وأن الفارق بين الرجال والنساء في البكاء قد يكون أكثر وضوحا في البلدان الغنية، لكن في دول مثل نيبال وغانا ونيجيريا كانت الفروق بين الرجال والنساء طفيفة. أعاد ذلك النظر في نقطة الفروق بين الرجال والنساء من ناحية البكاء، مرة أخرى.
لكن بشكل عام، يبكي الرجال والنساء على الأشياء نفسها(3)، مثل وفاة أحد أفراد الأسرة والانفصال بعد علاقة طويلة ومهمة للشخص والحنين إلى الوطن، لكن حتى في هذا السياق تظهر بعض الفروق التي تحتاج إلى مزيد من الأبحاث قبل تأكيدها، مثل أن النساء تميل للبكاء أكثر من الرجال على الأحداث الصغيرة، بينما يميل الرجال للبكاء بشكل أكبر كرد فعل على الأحداث الإيجابية.
أزمة الرجال الكبرى
إلا أن ما سبق مجرد جزء من مشكلة أكبر مع الأسف، فالبكاء ليس إلا إحدى علامات الصحة النفسية، وهنا تحديدا يمكن القول بشكل مؤكد إن رجال هذا العالم يواجهون مشكلة كبرى تستحق مناقشة هادئة، فقد وجدت الدراسات الاستقصائية من جميع أنحاء العالم أن الذكور في كل مكان يترددون في التحدث عن صحتهم العقلية، مقارنة بالنساء.
على سبيل المثال، يقوم أخصائيو الصحة العقلية بتشخيص(4) الاكتئاب لدى النساء بمعدلات أكثر من الرجال، لكننا نعرف أنه لا توجد فروق بيولوجية تجعل المرأة أميل للإصابة بالاكتئاب من الرجل بهذا الوضوح، لكن السبب لا علاقة له بالبيولوجيا هنا، فالرجال يتعاملون بحساسية شديدة تجاه وصمة العار المتعلقة بالمرض النفسي على خلاف النساء.
هذا مفهوم بالطبع، فثقافة الرجل -على مستوى العالم- تتضمن رسائل خارجية وداخلية على شاكلة: “يجب أن يكون الرجل قادرا على التحكم في مشاعره”، و”الرجال الحقيقيون لا يطلبون المساعدة”، و”الرجل لا يبكي، ولا يخاف، ولا يُعبّر عن عواطفه”، ويصل ذلك بالرجال إلى نتائج تقول إن “الاكتئاب أو التوتر أو القلق سيجعلك عبئا على الآخرين، وأنت من المفترض أن تكون مسؤولا عنهم”، و”أزمات الصحة العقلية هي علامة نقص في الثبات الشخصي”.
في أحد الاستقصاءات(5) في بريطانيا، أجاب 40% من المشاركين من الرجال أنهم لا يشاركون مشكلاتهم النفسية مع أي أحد، أشهر الأسباب التي طرحها المشاركون كانت: “تعلمت التعامل معها وحدي”، تلاها استجابات مثل: “لا أرغب في أن أكون عبئا على أحد”، “لا أريد أن أعترف أنني بحاجة إلى الدعم”، و”لا أريد أن أبدو ضعيفا”، و”ليس لدي أحد للتحدث معه”.
في تلك النقطة قد يجادل البعض بالقول إن ثبات الرجل في مواجهة ضغوط الحياة بهذا الشكل قد يساعده على ضبط صحته النفسية، إلا أن ذلك مع الأسف غير صحيح، فالنتائج تكون عادة كارثية، لأن الرجال حول العالم أكثر عرضة للجوء إلى أساليب التأقلم الضارة مقارنة بالنساء، وبفارق كبير. في الولايات المتحدة مثلا، يقدّر(6) أن العدد السنوي للرجال الذين يموتون لأسباب مرتبطة بإدمان الكحول يبلغ 62,000 رجل مقارنة بـ26,000 امرأة، وهم كذلك أكثر عرضة لإدمان المخدرات من النساء بفارق يقدر بـ2-3 أضعاف.
أما بالنسبة إلى الانتحار، تقول المعدلات العالمية إن الرجال يميلون للانتحار بمعدلات تصل إلى ضعف النساء، في الولايات المتحدة الأميركية تفوق معدلات انتحار الرجال مثيلتها لدى النساء بنسبة 80%، وفي بريطانيا فإن عدد المُقدِمِين على الانتحار من الرجال يساوي 3 أضعاف النساء، وفي البلد نفسه، يبلغ الرجال عن مستويات أقل من الرضا عن الحياة مقارنة بالنساء، وفقا لمسح الرفاه الوطني الذي أجرته الحكومة(7،8).
رجال في الخرافة
يصل الأمر إلى أعمق مما نتصور، في دراسة نُشرت بدورية “بوليتكس آند جندر”(9) قبل عامين، أجرى فريق بحثي استبيانا على 3000 شخص في أبريل/ نيسان 2020 حول 11 نظرية مؤامرة خرافية شائعة في الولايات المتحدة، فوجدوا من ضمن النتائج أن الرجال أكثر عرضة من النساء لتأييد نظريات المؤامرة المتعلقة بفيروس كورونا.
يعتقد الباحثون أن هناك عاملا رئيسيا مرتبطا بهذه الفجوة بين الجنسين في تصديق الخرافات، وهو العجز المكتسب، الشعور بأن كل شيء خارج عن إرادتك، وأي أفعال تحاول القيام بها لا طائل من ورائها. عندما يواجه بعض الناس إخفاقات متكررة بينما يحاولون إحداث تغيير إيجابي في حياتهم، فإنهم يعتقدون أنهم عاجزون عن السيطرة على حياتهم.
بحسب الدراسة، فالرجال هم أكثر عرضة لتحقيق درجة أعلى في العجز المكتسب، خاصة في حالة الوباء، لسبب بسيط وهو أنهم عادة المسؤولون عن الأسرة، ومع أزمة كوفيد-19 وتوقف العديد من الأعمال واهتزاز الغالبية العظمى من الوظائف حول العالم، فإن نسبة التوتر والقلق والشعور بالعجز عادة تكون أعلى لدى الرجال، وهو أمر يسهل الطريق إلى الإيمان بالخرافات المؤامراتية.
وقود الأزمة الاقتصادية
في الواقع، هناك دلائل بحثية على أن الاضطرابات الاقتصادية وانخفاض الدخل المفاجئ، وهو أمر تعاني منه بعض الدول العربية بشكل قاس حاليا، يمكن أن تزيد الطين بلة. على سبيل المثال، أشارت دراسة تابعة لجمعية القلب الأميركية(10) إلى أن انخفاض الدخل المفاجئ، في الفئة العمرية بين 23-35 سنة، يعرض الشخص بنسبة أكبر من الضعف للإصابة بالسكتات الدماغية أو الذبحة الصدرية أو الفشل القلبي أو الموت، خلال 15 سنة فقط بعد أول ضربة قاسية للدخل الشخصي.
تتأكد تلك النتائج بعدد من الدراسات الشبيهة، فمثلا كانت دراسة أخرى(11) قد صدرت من جمعية القلب الأميركية 2016، هي الأكبر من نوعها، قد أشارت إلى أنه مع فحص بيانات عينةٍ مقدارها حوالي مليون شخص من 90 دولة، تبين أن ثلث العينة كان مصابا بارتفاع في ضغط الدم، لكن النتائج الأكثر لفتا للانتباه كانت أن 75% من المصابين كان يعيشون في دول متوسطة إلى منخفضة الدخل.
كل هذا ولم نتحدث بعدُ عن أثر الاضطراب الاقتصادي على الصحة النفسية والحياة الاجتماعية (استقرار الزواج بشكل خاص). في هذا السياق، يكون الرجل تحديدا -كونه المسؤول غالبا عن اقتصاد المنزل- في مواجهة مدفع الاضطراب الاقتصادي، وفي جعبته مشاعر عميقة بالتوتر والقلق والاهتزاز الشديد في كل أركان حياته، ومن ثم فإن محاولاته للثبات قد تبوء بالفشل، خاصة حينما يميل لتحقيق تصورات المجتمع عنه: لا يجب أن تشكو، المشكلة تقع على عاتقك فقط، لا تَبُحْ بما يجول في صدرك من الألم، فذلك يظهرك ضعيفا لا أكثر.
لذلك، إذا كانت هناك مشكلة يجب أن نتحدث عنها ونطالب بالتدخل لحلها، فهي لا تتعلق تحديدا بمَن يبكي أكثر، بقدر ما تتعلق بصحة الرجال العقلية في العموم، خاصة في سياق أزمة عالمية ومحلية، اقتصادية وسياسية بل واجتماعية، يمكن لها أن تهز الجبال هزا، يقف في مواجهتها رجل الشارع العادي عاجزا وحائرا، بشكل غير مسبوق.
___________________________________________
مصادر: