Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
خبر عاجل

مأزق الفكر الإيكولوجي.. بين الأيديولوجيا وسؤال الأخلاق | آراء


|

يُضمر الحديث المستفيض عن البيئة، على عكس ما يُظهر، صراعا أيديولوجيا مريرا ومصالح جيوستراتيجية واقتصادية متضاربة. صحيح أن أنماط التعامل مع الأرض وطرائق استنزاف مواردها أمر يهدد بنسف أسباب المتاع والاستقرار كما ينذر بنفاد الحياة، غير أن الجدل الدائر حول ما يحدث يذكرنا بقول من قال: “أعطانا كلاما فأعطيناه كلاما”. فما أكثر التوصيات والقرارات التي تصدر عن الملتقيات الكبرى المخصصة لموضوع البيئة ما هي إلا انعكاس لموازين القوى القائمة في العالم.

يتحدث “ستيفن بول” (Stevene Poole) في كتابه عن الكلام بوصفه سلاحا (Unspeak: Words are Weapons) عن مذكرة سُرِّبت سنة 2003 تتحدث عن اللغة الواجب اتباعها خدمة للأهداف التي يسطرها الجمهوريون في الولايات المتحدة الأميركية بخصوص سياسة البيئة. يقول مستطلع الآراء “فرانك لونتز” في هذه المذكرة، وتحديدا في جزء معنون بـ”تحقيق الانتصار في الجدل القائم حول الاحتباس الحراري”: “نحن في حاجة إلى تنقيح المصطلحات للدخول في النقاش القادم حول البيئة.. لقد حان الوقت كي نشرع في التحدث عن تغير المناخ (climate change) عوض الحديث عن الاحترار العالمي (global warming)”. والمقصود من وراء التسمية المقترحة هو تفادي السقوط في التهويل الذي قد يدفع الناس إلى الاهتمام بسؤال البيئة اهتماما يكون على حساب أولويات الحزب الأخرى.

يجلي لنا ستيفن بول بهذا المثل كيف تكون تسمية الأشياء جزءًا لا يتجزأ من المعاني أو المواقف التي يَحْتَجُّ لها السياسي. كما يجلي لنا أن الوعي بالظواهر وتمثل حقيقتها يمرّ بالأساس عبر اللغة المنتقاة بعناية من طرف ذوي المصلحة السياسية، يصدق هذا الأمر على الوعي بسؤال البيئة وتمثل حقيقتها. فإذا صح أن الخبرة العلمية ترصد لنا بعض الظواهر المقلقة المتعلقة بالبيئة، فلا يقل صحة أن تمثلنا لخطورة هذه الظواهر من عدم خطورتها مرهون بالبلاغة المعتمدة في وصفها وتقديمها، أهي بلاغة تهويل أم بلاغة تهوين؟

لقد نجحت المؤسسات الأوروبية في التمكين لفكرة “الدفاع عن الأرض” وغرسها في نفوس اليافعين والمراهقين. وفحوى هذه الفكرة يفيد بوجود خصوم يهاجمون الأرض، أطراف وجهات يجب إدانتها وتوجيه اللوم لها

الإيكولوجيا والأيديولوجيا

إذا كان أصل لفظة “إيكولوجيا” (Ökologie) يحيل كما تحدد مدلولها مع العالم الألماني “إرنست هيكل” (Ernst Haeckel) إلى العلم الذي يعنى بدراسة الوسط الطبيعي حيث تتفاعل الكائنات الحية، وعلاقة هذه الكائنات بهذا الوسط، فقد أصبح مدلول اللفظة مع مرور الأيام يتجاوز هذا الوصف ليحيل على منظومة فكرية فلسفية أو عقدية تُعيِّن سبل الحفاظ على الطبيعة، أو سبل تحقيق التوازن بين الإنسان ووسطه البيئي. وبهذا أصبحت الإيكولوجيا شأنا أيديولوجيا بامتياز، تتجاذبه قوى متصارعة حول مصالح متعارضة. يظهر لنا ذلك في الصراع المحتدم داخل البيت الأوروبي، خصوصا بين ألمانيا وفرنسا، حول سبل بلوغ الانتقال الأخضر (Green transition) مثلا.

تحاول المؤسسات الأوروبية، عبر استعمال كلمات وعبارات برّاقة، أن تصور لنا المرحلة التاريخية بأنها مرحلة الدفاع عن البيئة في المقام الأول؛ والحاصل أن هذه الكلمات والعبارات لا تعدو أن تكون شعارات وظيفتها هي شغل الرأي العام عن التفكك الأيديولوجي الرهيب الذي أصبح يهدد الاتحاد الأوروبي، حيث إن فكرة أوروبا لم تعد فكرة جامعة، خصوصا بعد انسحاب بريطانيا. هناك شعور قوي بأن الروح التي حاول الآباء المؤسسون لهذا الاتحاد نفخها فيه هي اليوم إلى الاحتضار أقرب منها إلى الحياة، وفي هذا السياق يتم الاستنجاد بالبيئة كقضية يتداعى لها القوم من كل صوب، وكفكرة تملأ الفراغ الأيديولوجي القائم في نفوس الشباب الأوروبي الذي لم يعد يتماهى مع أفكار القارة العجوز.

من يتأمل في مظاهرات تلامذة المدارس من أجل البيئة قبل جائحة كورونا يستشعر أن في الأمر خبيئة. هذه المظاهرات وغيرها من الأنشطة تأتي في إطار سعي الدول الأوروبية، أحزابا ومؤسسات وهيئات كبرى، إلى تعبئة الثقافة من أجل فكرة الدفاع عن الأرض. ولعل ما يزكي هذا القول هو الدعم الذي تتلقاه الكتابات الأدبية والفكرية والدراسات العلمية والأعمال الفنية التي تصب في هذه التعبئة.

لقد نجحت المؤسسات الأوروبية في التمكين لفكرة “الدفاع عن الأرض” وغرسها في نفوس اليافعين والمراهقين. وفحوى هذه الفكرة يفيد بوجود خصوم يهاجمون الأرض، أطراف وجهات يجب إدانتها وتوجيه اللوم لها. هذا ما يرشح من جملة الكتابات التي تتناول موضوع البيئة بالدراسة والتحليل والتخييل، حيث نلمس فيها التحيز للذات في مقابل الآخر الذي يكون تارة معلوما وتارة مجهولا.

ويرجح عندنا أن الدفاع عن الأرض أصبح يأخذ منحى أيديولوجيا واضحا في السياق الأوروبي، بحيث أصبح يتخذ شكل هجوم وإدانة لمنظومات قيمية لا تسوغ استغلال الأرض واستنزاف ثرواتها فحسب، بل تسوغ استغلال المرأة واستعباد الآخر، كما تجهض حقوق الأقليات في التمتع بخصوصياتهم. وبهذا جعلت قضية الدفاع عن الأرض تؤشر على اتفاق الغايات بين تيارات نشأت من رحم ثورة 1964 ضد الثقافة السائدة آنذاك.

لقد سبق أن أشرنا في مقالة سابقة عن رواية أليف شافاق “جزيرة الأشجار المفقودة” إلى أن الروائية تصدر في دفاعها عن البيئة عن منظومة قيمية أوروبية. فالواقع أن كثيرا من الكتابات والأبحاث الغربية تصدر في دفاعها عن البيئة عن منظومة قيمية متحيزة، تُنصِّب ذاتها في موقع الحاكم على المنظومات القيمية الأخرى. يخيل إلينا وكأننا نخرج من مرحلة كان الغرب يمتطي قضية حقوق الإنسان لتبرير تدخله في أحياز ثقافية أخرى، نحو مرحلة جديدة أصبح فيها يمتطي قضية البيئة بوصفها المجسد لمنظومة قيمية محررة.

هذا التوجه الجديد أخذ يبرز بوضوح أكثر مع وصول ممثلي الأحزاب الإيكولوجية الخضراء إلى مؤسسات البرلمان الأوروبي بأعداد كبيرة. حين نقلب أمر هذا الوصول، بطنَه وظهرَه، نجده يؤشر على منعطف ذي دلالات كبرى متعلقة بسؤال البيئة. مع ممارسة أصحاب البيئة للسياسة باسم البيئة، صاروا يخرجون بسؤال الإيكولوجيا من دائرة الأخلاق إلى دائرة الأيديولوجيا، وصار سؤال الحفاظ على الأرض والدفاع عنها شأنا فئويا يخص هذه المجموعة دون تلك، عوض أن يظل شأنا عاما يخص الإنسان.

حين نتأمل مسار تطور الفكر الإيكولوجي نجده ينطلق من منطلق التذكير، التذكير بدور الإنسان في الحفاظ أو الهدم لأسس الحياة، ليصل بعدها إلى طلب السيطرة على هذا الإنسان. ولعل هذا يذكرنا بسياقنا الإسلامي وما عرفه من أشكال الانتقال من منطق الدعوة إلى منطق الدولة. إن سيطرة أحزاب الخضر على المؤسسات الأوروبية يرسي دعائم خطاب إيكولوجي لا يستوعب التحديات الكبرى التي تطرحها البيئة على الإنسان. فالخطاب الإيكولوجي، بدخوله مرحلة التسويات السياسية، أصبح عاجزا عن التنبيه إلى جوهر المشكلة: ألا وهو نموذج الغرب الحضاري ونمطه في الحياة.

يكمن مأزق التيار الإيكولوجي في الغرب في كونه، من ناحية، يريد أن يقوم على أنقاض الدين في السياق المسيحي؛ وكونه، من ناحية أخرى، يتوخى النفاذ إلى دخائل النفوس لمعالجة أخلاق الناس وتغيير ما بهذه النفوس. لقد تحوّل الخطاب الإيكولوجي إلى مجرد خطاب علمي يغرق في التفاصيل العلمية ويقطع مع الإرث الحكمي الذي يرى في مسألة البيئة مسألة أخلاقية في المقام الأول، وبهذا قَصُر باعُه عن الوصول إلى الثقافات الأخرى، وإذا وصلها فإنه لا يُعلّمها شيئا، لأنها ثقافات أكثر إيكولوجية من الغرب، لأنها أقل ترفا من ثقافته.

إن جوهر مشكلة البيئة هو الترف. والتيار الإيكولوجي دخل مرحلة أصبح عندها ينادي بابتكار وسائل وطاقات جديدة، أكثر صداقة للبيئة، من أجل تمتيع الناس بالمتع نفسها التي يتمتعون بها، بمستوى الترف نفسه، لا من أجل صرفهم إلى أنماط أخرى في الحياة. والحقيقة أن المشكلة تكمن في أن الترف أصبح الركن الأساس الذي تنبني عليه المنظومة الاقتصادية الكونية. يكفي أن نتأمل في حياتنا اليومية لندرك أن الإنسان أصبح يكاد لا يأكل فاكهة، ولا يلبس لباسا، ولا يستعمل آلة، إلا مما يأتيه من بعيد. فلا أظن أن الحضارات الإنسانية السابقة شهدت ما تشهده حضارتنا اليوم من مبالغة في إحضار الأشياء إلى مكان حضور الإنسان.

ونستجمع كلامنا هنا لنقول بأن سؤال الإيكولوجيا لن يكون مُنتِجا إذا ظل سؤالا يطلب له أجوبة من داخل المنظومة العلمية والقيمية الحضارية القائمة؛ بل لا بد من وصله بالإرث الحكمي المبثوث في الثقافات الأخرى. وسنفصل القول في هذا السؤال انطلاقا من قراءة في نظرية العمران لابن خلدون، ثم في كتاب “والدن” (Walden) للكاتب الأميركي “هنري ديفيد ثورو” (Henry David Thoreau).

يُتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى