“الدكتور نازل” للكويتي طالب الرفاعي.. طريقة مبتكرة لنقد المجتمع | ثقافة
هل تحتاج الفكرة الجديدة إلى شكل سردي خاص لتقديمها؟
هذا واحد من الأسئلة العديدة التي تنتاب القارئ وهو يتصفح المجموعة القصصية الجديدة “الدكتور نازل” للقاص الكويتي طالب الرفاعي، الصادرة مؤخرا عن دار “ذات السلاسل” الكويتية، والتي رغم وصفها بالمجموعة القصصية، فإن الكاتب أضاف عبارة “متتالية قصصية” على غلافها، غلقا لباب الأسئلة التي قد يطرح في مسألة تجنيس هذا العمل، والتي تجد مبررها الأهم في القالب السردي الذي اختاره الرفاعي له، والذي يتماهى إلى حدّ التطابق مع القالب الروائي سيما ما يدخل في نطاق الرواية الجديدة، فمن الناحية الشكلية لا يوجد ما يمنع من اعتبار هذه المجموعة رواية، أو اعتبارها مجموعة قصصية، وكأنه عمل يقف بين بين، لا هو رواية ولا مجموعة قصصية.
محاولة كتابة الفوضى
من وجهة نظر أدبية صرفة، فإن ابتكار أشكال جديدة في الكتابة من أجل التعبير عن فكرة ما، أو تقديم فكرة ثورية صادمة، يمثل ذروة ما قد يستطيع الكاتب تقديمه خلال مسيرته الإبداعية، فالعقل يسعى دائما إلى إضاءة الواقع من خلال ملاحظته للفوضى، ليسعى لاحقا لتقديم شرحه لهذه الفوضى في قوالب يعرفها سلفا، فإذا استحال عليه ذلك ابتكر لها قوالب جديدة لا يدرك لحظة ابتكارها ماهيتها الحقيقية، وهو السبب الوحيد يجعل العقل حينها يتصور أنه لم يبتكر شيئا، وأن القالب الذي قدمه ليس إلا صورة لقوالب معروفة.
وتبريرا لخياره التجنيسيّ لعمله “الدكتور نازل” يقول الكاتب في حديث للجزيرة نت “لقد بدأت حياتي الأدبية قاصا في منتصف السبعينيات، ولم يكن ذلك مصادفة بل نتيجة عشقي لفن القصة القصيرة الذي ما انفك يسكن خاطري. بقيت طوال السنوات العشر الماضية، كلما كتبتُ ونشرت رواية أعاود راكضا لحضن القصة القصيرة. وربما هذا ما أخذني لتأسيس جائزة الملتقى للقصة العربية القصيرة عام 2015″.
وأضاف “أنا أحبّذ تجنيس الكتابة الإبداعية، فالاختلاف كبير بين القصة والرواية، وبينهما والشعر، لذا جنّست المجموعة بعبارة (متتاليات قصصية) وبما يعني التتالي المتصل والموحي، وهذا ما قد يأخذ القارئ إلى تصورها وكأنها رواية. ولو قدّر لي وجنّستها بالرواية فربما سيصادف ذلك شيئاً من الاستغراب لدى البعض، وكأني استعين بالرواية كرافعة لقصصي، وهذا ما لا أحتاجه ولا أريده”.
رواية أم قصص قصيرة؟
غير أن تجنيس هذا العمل لم يخضع فقط إلى قناعة الكاتب أو إلى القالب المتبع فحسب، إنما تقرر أيضا بماهية “الدكتور نازل” كشخصية زئبقية ترفض الانصياع لإملاءات الكاتب رغم ما يظهر عليها من مواصفات البطل التقليدي.
إنها لم تكن إلا وعاء يتشكل وفقه البطل الحقيقي لمجموع قصص الكتاب، هذا البطل هو “اللاأخلاقي” بصوره المتعددة من مكر وكذب وخسة وإفساد، رسمها الرفاعي باحترافية تدعو إلى التساؤل “هل نحن بصد شخصيات حقيقية عرفها الكاتب عن قرب؟”.
سؤال لا يبدو أن صاحب “النجدي” راغب في الإجابة عنه خارج النص، إذ يجيب قائلا “إن جميع شخصيات الدكتور نازل وفي مختلف القصص تجمعها خصال مشتركة، كالمكر والكذب والخسة والإفساد. وبقدر ما تختلف شخصية الدكتور نازل فهي تبقى واحدة”.
وإقرار وحدانية شخصية “الدكتور نازل” في متتالية الرفاعي قد يبرر القناعة النقدية التي أبداها القاص محمد خضير في مقاله المنشور عن هذه المجموعة القصصية التي قاربت أسلوبها من عالم الرواية، لكنه إقرار مختلف عن واقع السرد الذي أولجتنا إليه عوالم “نازل” اللاأخلاقية والتي تجعل القارئ يقف عند إقرار آخر تماما، يتمثل في تعدد هذه الشخصية على نحو يستحيل فيه القول إنها مظاهر لشخص واحد.
صحيح أن هذا التعدد نحت وجها واحدا لرجل واحد يعيش في ذات المجتمع، لكنه في النهاية خلف عوالم متعددة يصلح كل واحد منها أن يصاغ في عمل أدبي مختلف، ولعلّ هذا السبب ولوحده يرجّح وجهة نظر الرفاعي في تجنيسه لعمله القصصي على أنه متوالية.
شخصية خسيسة تثير الإعجاب
براعة الكاتب في العمل لا تظهر فقط في قدرته على إبقائنا في حالة شكّ واضح وصريح بخصوص ما نحن بصدد قراءته، إن كان قصصا أم رواية، بل أيضا في قدرته على جعلنا نرتاب من مشاعرنا الحقيقية تجاه شخصية نازل على اختلاف تمظهراتها، فكثير من قصص المكر والخسة، التي قرأناها للدكتور نازل، تجعلنا نشعر بشيء من الإعجاب والتعاطف معه رغم يقيننا بلا أخلاقية سلوكياته.
مشاعر ملتبسة وغريبة وبلا شك غير متجانسة تنتاب القارئ، في إشارة إلى حالة اللايقين التي تشترك فيها المجتمعات العربية، والذي لم يسع الرفاعي إلى تبرئته من أي سلوك وارد في النص، فلم يأت خطاب الكاتب مثاليا ولا اتهاميا، بل جاء ليمنح صوتا مسموعا لحوار داخلي، يحتاج إلى الكثير من الجرأة والشجاعة ليتم الإصغاء إليه في العلن.
مخاوف مشروعة
قد يشعر القارئ أيضا وهو يتصفح “الدكتور نازل” بأن كاتبها وهو يتناول ظاهرة الفساد في المجتمع، وكأنه يبرئ مجتمعه من هذه الظاهرة، أو يعتبرها دخيلة عليه وليست بالضرورة نتيجة تفاعلات اجتماعية لا يخلو من حدوثها أي مجتمع آخر، شعور سرعان ما ينفيه الكاتب قائلا “مجموعة الدكتور نازل تتناول بوضوح شيئا من أوجه الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية في دولة الكويت، وهي أبدا لا تبرّئ المواطن الكويتي، كونه يتشارك في العيش مع الآخر العربي والأجنبي. فآخر تعداد للسكن في الكويت يشير إلى أن نسبة الكويتيين تصل إلى 34% بينما يشغل الآخر ما نسبته 66%، ولك أن تتصور أن كل بيت كويتي يسكن فيه ما بين واحد إلى 3 وافدين عرب وأجانب، يتقاسمون معك لحظة العيش بمرها وحلوها، ويطّلعون على خفايا حياتك، أردت ذلك أو لم ترد! فكيف بهذا المجتمع ألا يتأثر بالآخر؟ وبالنظر إلى تشابه ظروف أوطاننا العربية، فالمجموعة وشخصية الدكتور نازل تحديدًا، تكاد (توجد) في جميع الأقطار العربية، وهذا ما يجعل الألم مشتركا ويلبس العيش العربي عباءة سوداء تكاد تشملنا من الخليج إلى المحيط”.
ويضيف الرفاعي مؤكدا على المخاوف التي تضمنتها متتاليته القصصية “الدكتور نازل” والمنتشرة في المجتمع، المبنية على بعض سلبيات العمالة الأجنبية، وتأثيرها العميق في الشباب الكويتي “هذه مخاوف حقيقية تماما، والمجتمع الكويتي يعيشها وينكوي بها ليل نهار، بدءا من تأثير المربيات المدمّر على جيل من أطفال الكويت، والتأثير المختلف للمدارس الأجنبية، مرورا بتأثّر الشباب الكويتي بالآخر المجاور له طوال يومه، بحسنه وسيّئه”.
مغامرة سردية
يأتي صوت المؤلف نهاية كل واحدة من قصص “الدكتور نازل” مؤكدا حضوره في العمل ليس كشاهد على الأحداث أو صاحب رأي فيها فحسب، بل رغبة في التأكيد على علاقته بالعمل وفي الجزم بطابعها الحميمي بالنسبة إليه، فالأحداث التي نسجها الرفاعي في عمله هذا من فرط واقعيتها تبدو متخيّلة تماما، وقد تستقر قناعة القارئ بأنها جاءت للتشويق فحسب، وهنا يظهر صوت الكاتب نهاية كل قصة ليقول دون استعمال هذه الكلمات “هذه حقيقتنا.. لا خيال هناك” مغامرا كما يقول بجنون، على غرار قلة قليلة من الكتاب العرب، لكتابة سيرهم الذاتية الحقيقية بعلاقاتهم وأفراد عوائلهم وأصدقائهم وتفاصيل وظائفهم، بتجرد وموضوعية، متحملين الثمن الباهظ المترتب على ذلك. وبما يجعل من النص وثيقة سيرة ذاتية تخصّ المؤلف، بقدر من تلقي بظلالها الموحية على حال المجتمع.