هل ينجح التشيليون في استبدال دستور النظام السابق بآخر أكثر عدالة؟ | سياسة
من المقرر أن يتوجه التشيليون الشهر القادم لانتخاب لجنة تأسيسية جديدة مهمتها صياغة دستور جديد آخر للبلاد بعد مخاض طويل، بدأت ملامحه في الانتفاضة الشعبية عام 2019 للمطالبة بالعدالة الاجتماعية.
وكان إلغاء دستور عام 1980، الذي وضعه حاكم تشيلي العسكري السابق أوغوستو بينوشيه (1915-2006)، من أبرز مطالب الانتفاضة. وتحت ضغط احتجاجاتها، انتُخبت جمعية تأسيسية مهمتها صياغة دستور جديد طرح في سبتمبر/أيلول 2022 على الشعب للتصويت، لكنه رُفض بنسبة 62%.
إثر هذا الرفض اتفق الرئيس اليساري الجديد غابرييل بوريتش مع البرلمان في ديسمبر/كانون الأول الماضي على صياغة دستور جديد، ضمن آلية عُرفت باسم “الاتفاق من أجل تشيلي”.
نص الاتفاق على تشكيل مجموعة مكونة من 24 خبيرا لصياغة مسودة الدستور، اختار مجلس الشيوخ نصفهم، والنصف الآخر اختاره مجلس النواب. وباشرت المجموعة العمل منذ بداية مارس/آذار الماضي.
إلى جانب ذلك، نص الاتفاق على انتخاب 50 عضوا من قبل الشعب مباشرة في 7 مايو/أيار القادم، مهمتهم التصويت على مسودة الدستور بعد الانتهاء من صياغتها، بالإضافة إلى مجموعة ثالثة تتألّف من 14 خبيرا قانونيا يختارهم مجلس الشيوخ، لتحديد مدى قانونية الدستور الجديد. ومن المقرر أن يعرض الدستور الجديد في صيغته النهائية على الاستفاء الشعبي في نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
لماذا لم ينجح التشيليون في تغيير دستور بينوشيه طوال السنوات الماضية؟
تقول ماريا ريفيرا عضوة اللجنة الدستورية التي عملت على الدستور المرفوض شعبيا عام 2022 إن الدستور لم يتغير لأن القوى السياسية التي قادت الانتقال إلى الديمقراطية -ما يُعرف بالائتلاف الحاكم (كونسيرتاسيون)- قبلت الشروط التي فرضها الجيش، وهي: الحفاظ على دستور 1980، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، بما كرّس جميع الانتكاسات التي حدثت أثناء الدكتاتورية.
وفي حديثها للجزيرة نت، لفتت ريفيرا إلى التوافق الذي حدث بين حزب الديمقراطية المسيحية والحزب الاشتراكي ولاحقا الحزب الشيوعي على الإبقاء على إرث بينوشيه كإرث خاص بهم، “وأدخلوا تغييرات تجميلية على دستور 1980 مع الحفاظ على جوهر النظام الرأسمالي النيوليبرالي في تشيلي”.
بينما يقول رودريغو كرمي أستاذ الفلسفة السياسية في مركز الدراسات العربية بجامعة تشيلي إن عدم تغيير الدستور كان “بسبب البنية السياسية اللاهوتية لإرث بينوشيه”.
وفي حديثه للجزيرة نت، يقول كرمي “لقد مات بينوشيه بجسده المادي، لكن نظام الأوليغارشية الذي خلفه (الأقلية المتحكمة بالسلطة) تم اعتماده في الدستور بأشكال متعددة لإخضاع التشيليين”.
من ناحيته، يقول لويس أسيفيدو إسبينولا الباحث في القانون الدستوري بجامعة سانتياغو “من منظور العلوم السياسية، غالبًا ما يُرى أنه بعد سقوط نظام دكتاتوري بالوسائل السلمية، يجب أن يكون الانتقال إلى الديمقراطية متفقًا عليه وبالتدريج”، مضيفا أنه في حالة تشيلي فإن التغيير الدستوري الجذري كان سيقود إلى انهيار في الديمقراطية، وفسح المجال لاستعادة النظام القديم نفسه.
ويستطرد إسبينولا في حديث للجزيرة نت، قائلا إن “دستور بينوشيه الذي صيغ في 1980 غير مناسب لدولة مثل تشيلي بعد عودة الديمقراطية؛ حيث يرى الشعب أن النموذج الاقتصادي للدستور القديم هو المشكلة الأساسية التي تؤثر في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية”.
ما أوجه الاختلاف بين دستور بينوشيه والدستور الجديد؟
يوضح رودريغو كرمي أن أبرز سمات دستور بينوشيه كانت تكريسه لحكم سياسي سلطوي واقتصاد ليبرالي، معتبرا أن الدستور الجديد لن يكون مختلفًا كثيرًا عن الدساتير الأخرى.
وأضاف “سيكون إطارا من شأنه أن يقضي على مصالح الأوليغارشيين ويعزّز المصالح الشعبية المحتملة، ولكن مبدأ السلطة وأشكال الخضوع للنيوليبرالية ستبقى مع بعض الاختلافات في النواحي الاجتماعية..”.
من جهتها، تقول ماريا ريفيرا “من الضروري تغيير الدستور بأكمله والنموذج الاقتصادي الذي خلفه بينوشيه بإنهاء هيمنة الشركات وأغنى 10 عائلات تشيلية على البلد بأكمله، وتأميم النحاس من أجل وضع الموارد المتولدة من هذه الثروة الهائلة في خدمة الشعب العامل”.
وطالبت بضرورة تغيير النظام الموجود اليوم تغييرا عميقا يسمح بإنشاء دولة أكثر ديمقراطية تنحاز للطبقة العاملة، مع إمكانية التغيير والتعديل في مواقع المسؤولية على نحو دائم، من دون تأثير القوى الاقتصادية.
ويقول الخبير الدستوري إسبينولا “كانت هناك اختلافات مهمة مع مشروع الدستور الذي رُفض في العام السابق، وعكست تقدما كبيرا في القانون الدستوري التشيلي. ومن الصعب الحكم على الآلية المقرة لإعداد دستور جديد منذ الآن، لأن انتخاب الأعضاء سيكون في مايو/أيار المقبل وسيُراقب مدى ارتباط وانضباط القوى السياسية بهذه الآلية”.
لكنه أضاف أن “من المحتمل جدا، بعدما حدث في الاستفتاء السابق، أن يتقدم مشروع دستور جديد أكثر اعتدالًا ولكن بدرجة قليلة. وهذا لا يعدّ انتكاسة”.
ما التقييم للآلية المقترحة لصياغة دستور جديد؟
يعتقد رودريغو كرمي أنها آلية ضعيفة ديمقراطيا للغاية، “لأن الدستور الجديد ستضعه أحزاب سياسية وخبراء كانت هنالك شكوك عميقة بهم قبل الثورة الشعبية عام 2019، ولذلك لن تكون لهم شرعية كاملة، وهذا شيء شائع في التاريخ التشيلي، وفي البلدان التي لم تستطع الإطاحة بالآليات المختلفة للإمبريالية التي لا تزال قائمة ومعتمدة”.
وينتقد لويس إسبينولا الآلية أيضا، إذ قال إن “تعيين الخبراء فيها جاء دون إشراك الجامعات مثلا. وعلى الرغم من قبول مشاركة المواطنين في انتخاب مراقبين على وضع الدستور، أعتقد أنه قد تم تجاهل مصالح المواطنين بشكل كبير” في التعيين ورؤية الخبراء للنظام السياسي الذي يريده الشعب.
من جانبها، ترى ماريا ريفيرا أن الآلية التي عرفت باسم “الاتفاق من أجل تشيلي” لن تأتي بأي حل، وسيُحتفظ بملامح النظام السابق، “وإن حدث أي تغيير فبشكل تجميلي سطحي”، بل قد يبقى الأسوأ كالقمع الذي يمارس ضد شعب المابوتشي (السكان الأصليين) وكذلك خصخصة ثروات البلاد من معادن النحاس والليثيوم.
لماذا صوّت التشيليون ضد دستور 2022؟
يقول رودريغو كرمي إنه سؤال معقد للغاية، لكنه يعتقد أن الدستور رُفض لأنه لا يعالج المشاكل الاجتماعية للتشيليين بصورة حقيقية.
ويقول الخبير لويس إسبينولا إن التصويت ضد الدستور بنهاية العام الماضي كان لأسباب، أهمها: كيفية وضع هذا الدستور، والقوى التي وضعته، والتدخلات من جهات حزبية ومستقلة وشعبية أثارت رد فعل دفاعيا من اليمين السياسي، وأدت إلى ضعف النسخة المطروحة للتصويت، ورافق كل ذلك “حملة تضليل وتخويف قوية” من التغيير.
ماذا لو رُفض الدستور القادم أيضًا؟
تقول ماريا ريفيرا إنه بغض النظر عن الرفض أو الموافقة، ستبقى تشيلي في أيدي البرجوازية الوطنية والأجنبية، حيث لم يعد الناس يثقون بآليات التغيير الجديدة، ومن الصعب للغاية تغيير أي شيء يتعلق بأغلب السكان.
وتعتقد ريفيرا أن الطريقة الوحيدة لحل مشاكل الناس هي “التنظيم والنضال الاجتماعي”، وتقول “يجب أن يعود الناس إلى الشوارع للمطالبة بكل حقوقهم، لكن هذه المرة سيحتاجون إلى برامج خاصة وإلى بناء أحزاب شعبية وعمالية تعمل على إنهاء نظام الاستغلال والقمع، كما أن العودة إلى الشارع من دون قيادة لن تفضي إلى حل وسينتهي الوضع إلى طريق مسدود”.
وهو ما يؤكده رودريغو كرمي أيضا، قائلا إن “التغيير الدستوري لن يحل مشاكل تشيلي، لأن صياغة الدستور الجديد والآلية التي تضعه تتم باختيار طبقة سياسية هي في الواقع المشكلة الحقيقية”.