البحرية الأميركية تفقد هيمنتها.. هل انتهى زمان المحيطات المفتوحة؟
مقدمة الترجمة:
لم يحدث في التاريخ القريب أن أقدمت قوات بحرية تابعة لأي دولة على إغلاق جزء من المياه الدولية، ومنع مرور السفن التجارية فيها. لكن ماذا لو حدث ذلك في عالمنا المضطرب؟ ما الذي يمكن أن تقدمه قوة عظمى كالولايات المتحدة في هذه الحالة؟ وهل لديها من الاستعدادات اللوجستية ما يكفي للتصدي؟ هذه الفرضية يناقشها جيري هندرِكس، قبطان البحرية الأميركية المتقاعد، في مقاله المنشور بمجلة “الأتلانتيك”، حيث يقدم وجهة نظر أميركية تكشف أفول عصر الهيمنة البحرية لبلاده، وما يعتقد أنه ضروري كي تنقذ الولايات المتحدة حضورها ونظام “البحار الحرة” الكائن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
نص الترجمة:
قليل من الناس في عالمنا يتذكرون ذلك العصر الذي كانت فيه حرية الملاحة في البحار مُهدَّدة. بيد أنه خلال معظم التاريخ الإنساني، لم توجد ضمانة لحرية الملاحة تلك، وكان القراصنة والدول المُعتدية وأساطيل القوى العظمى يتصرفون كما يحلو لهم. إن الواقع الحالي للبحار الحرة، الذي يعود إلى نهاية الحرب العالمية الثانية ليس إلا، هو الذي يسمح بالشحن التجاري المسؤول عن 80% من إجمالي حجم التجارة العالمية، بما في ذلك البترول والغاز الطبيعي، والحبوب والخامات الأولية، والسلع المُصنَّعة على اختلافها. ونتيجة لذلك، فإن حرية الملاحة في البحار في حاضرنا تبدو وكأنها طبيعة الأمور، ويسهُل التفكير فيها على أنها أشبه بدوران الأرض أو قوة الجاذبية؛ وليست شيئا من صُنع الإنسان يحتاج إلى الصيانة والتعزيز. لكن ماذا لو لم يعد بالإمكان التعامل مع الانتقال الآمن للسفن بوصفه أمرا طبيعيا؟ ماذا لو انتفت حرية المحيطات؟
بين الفينة والأخرى، يتذكر الكثير من الناس فجأة مدى اعتمادهم على حركة السفن المستمرة بلا انقطاع حول العالم لخدمة نمط حياتهم، أو كسب عيشهم، أو حتى استمرار حياتهم نفسها. ففي عام 2021، سدَّت سفينة الحاويات “إيفر جيفن” الجانحة قناة السويس، ما أجبر السفن على التنقل بين آسيا وأوروبا لتحويل مسارها بعيدا عن أفريقيا، وتسبب في تأخير عبورها، وتحمل المزيد من التكاليف. وبعد ذلك بعدة أشهر، وبسبب الاضطرابات التي سببتها جائحة كورونا بصورة كبيرة، تكدست أكثر من مئة سفينة حاويات عند موانئ كاليفورنيا في “لونغ بيتش” و”لوس أنجلوس”، وسبَّبت اضطرابات في سلاسل الإمداد في أنحاء البلاد.
كانت تلك الظروف مؤقتة وإن كانت مُكلِّفة. ولكن لك أن تتصور تعَطُّلا دائما أكثر من ذلك. لربما تُعلن روسيا الواقعة تحت ضغط الحرب والعقوبات تبعية جزء كبير من المحيط المتجمد الشمالي لمياهها الإقليمية، في تحايل على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. وحينئذ، ستسمح موسكو لحلفائها بالوصول إلى هذا الطريق، فيما ستمنع أولئك الذين وقفوا أمام تحقيق رغباتها. إن البحرية الأميركية لم تَبنِ سفينة حربية سطحية مناسبة للمحيط المتجمد منذ خمسينيات القرن الماضي، ولا تُعَدُّ أي دولة من دول الناتو الأخرى مسلحة حاليا بما يجعلها تقاوم مثل هذه المناورة من جانب روسيا إن حَصَلت.
ولعل المبادرة الأولى في هذا الصدد تأتي من الرئيس الصيني “شي جينبينغ”، الذي قد يسعى لتعزيز موقفه محليا بمحاولة الاستحواذ على تايوان، واستخدام صواريخ بلاده الباليستية المضادة للسفن وغيرها من الأسلحة للإبقاء على القوات البحرية الغربية بعيدا عن المعركة. وقد تسعى الصين مدفوعة بمكتسباتها حينئذ إلى تعزيز ادعاءاتها على أجزاء كبيرة من بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي كاملا، باعتبارها جزءا من مياهها الإقليمية.
حالما تقرر دولة واحدة اتخاذ خطوة على هذا المنوال، فستتبعها دول أخرى مُطالِبة بأحقيتها في مياه إقليمية واسعة، وانتزاع كل ما يُمكِنها انتزاعه من حركة التجارة المارة عبر مياهها. وستفتح هذه الادعاءات المتضاربة الباب أمام القرصنة وغياب القانون، وستختفي سفن وناقلات الحاويات الضخمة الموجودة حاليا، لتحِل مَحلَّها سفن شحن أصغر وأسرع تستطيع نقل البضائع النادرة القيِّمة بعيدا عن أعين القراصنة والمسؤولين الفاسدين. وسيتداعى قطاع عمل السفن السياحية، التي تُحرك العديد من اقتصادات السياحة، أمام عمليات الاختطاف المُحتملة. وربما ينتج عن حادثة واحدة من هذا النوع سلسلة من الفشل تجتاح الصناعة بأكملها. وستهدأ الحركة في الممرات البحرية، التي كانت يوما ما مكتظة بالملاحة. وقد يتجمع الطمي في ممرات ملاحية مثل قناة بنما وقناة السويس بسبب قلة النشاط والصيانة بما يجعلها مسدودة. فيما ستعود مضائق طبيعية مثل جبل طارق وهُرمُز ومَلقَا وسوندا إلى ما كانت عليه في الماضي وإلى دورها التاريخي بوصفها ملاذا للقراصنة. أما البحار الحُرة التي تحاوطنا، ولا تقل أهميتها عن الهواء الذي نتنفسه، فلن تكون حرة كما اعتدنا حينئذ.
في حال تدهورت التجارة عبر المحيطات، ستتجه الأسواق نحو الداخل، ما قد يتسبب في “كساد كبير” ثانٍ. وستتحول الدول للعيش على مواردها الطبيعية، أو تلك التي يمكن أن تشتريها -أو تأخذها- من جيرانها الأقرب. وستصبح محيطات العالم، التي اعتُبِرت مشاعا عالميا طيلة سبعين عاما، نطاقا مهجورا. أينما وجَّهنا ناظرينا، نلاحظ تجلي الهيمنة البحرية، فحينما نمر بسياراتنا بجانب المتاجر الضخمة، تستحضر مخيلتنا سفن حاويات نقل البضائع من مكان إنتاجها بسعر منخفض بالجملة إلى الأسواق حيث تباع بسعر أعلى للمستهلكين. إن اقتصادنا وأمننا يعتمد على البحر، وهي الحقيقة الجوهرية التي يجب أن ترتكز عليها نظرتنا للعالم.
إمبراطوريات البحر
بحسب شرح المؤرخ البحري “أندرو لامبِرت”، فإن الدولة ذات القوة البحرية تفهم أن ثروتها وقوتها مستمدة أساسا من التجارة البحرية، كما أنها تستخدم أدوات القوة البحرية لتعزيز وحماية مصالحها. وتسعى الدولة ذات القوة البحرية، قدر الإمكان، لتجنب الانخراط المباشر في الحروب البرية. ولم يكن هناك سوى دول بحرية قليلة عن حق في التاريخ، أبرزها بريطانيا العظمى، وجمهورية هولندا، والبندقية، وقرطاج. أما اليوم، فيصعب تقدير مدى التحول الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية أو سرعته، حيث دمرت الحرب جميع القوى العالمية التي عارضت مفهوم “حرية البحار”، أو تركتها في حالة عوز وحرمان. وقد برزت كلٌّ من الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، المناصرتين التقليديتين لحرية البحار، ليس فقط بوصفهما قوى منتصرة، بل أيضا باعتبارهما تمتلكان هيمنة بحرية طاغية، إذ كانت قواتهما البحرية معا أضخم من كل القوات البحرية الأخرى في العالم مجتمعة بنهاية الحرب العالمية الثانية، وحينها لم تصبح حرية البحار مجرد فكرة، بل صارت واقعا ملموسا.
ازدهرت التجارة في مثل هذه البيئة الآمنة. وبلغ نمو الاقتصاد المُعَولَم، الذي سمح بالوصول الأسهل والأرخص للغذاء والطاقة والعمالة والسلع على اختلاف أنواعها، من نحو ثمانية تريليونات دولار عام 1940 إلى أكثر من 100 تريليون دولار بعد 75 عاما تالية (الأرقام مُعدَّلة حسب فرق التضخُّم). ومع هذا الازدهار، توالت التحسُّنات، ففي الفترة ذاتها تقريبا، انخفضت نسبة سكان العالم الذين يعيشون في فقر مدقع، أي الذين يحصلون على أقل من 1.90 دولار يوميا، من أكثر من 60% إلى نحو 10% فقط. كما تضاعفت نسبة مَن يعرفون القراءة والكتابة عالميا إلى أكثر من 85%. وبينما بلغ متوسط العمر المتوقع للإنسان عام 1950 عالميا 46 عاما، فقد ارتفع بحلول عام 2019 إلى 73 عاما. اعتمد ذلك كله على حرية البحار، التي بدورها اعتمدت على القوة البحرية لدى بعض البلدان التي تؤمن بمثل هذه الحرية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
بيد أن نجاح هذا المشروع هو تماما ما يهدد مستقبله حاليا، إذ لم تعُد الولايات المتحدة تستثمر في أدوات النفوذ البحري كما فعلت يوما ما. فقد بدأت صناعة السفن التجارية الأميركية تفقد حصتها من السوق العالمية في ستينيات القرن الماضي لصالح بلدان ذات عمالة أرخص، ولصالح تلك البلدان التي أعادت بناء قدراتها الصناعية بعد الحرب. وتسارع تراجع بناء السفن الأميركية بعد تولي الرئيس رونالد ريغان الرئاسة عام 1981، ففي إشارة إلى دعم مبادئ السوق الحرة، بدأت إدارة ريغان في تقليص الدعم الحكومي الذي لطالما دعم الصناعة الأميركية. وفي عام 1977، صنع بناة السفن الأميركيون أكثر من مليون طن من السفن التجارية، ولكن بحلول عام 2005، انخفض هذا العدد ليصل إلى 300 ألف طن. أما اليوم، فتُبنَى معظم السفن التجارية في الولايات المتحدة لصالح عملاء حكوميين مثل الإدارة البحرية، أو لصالح جهات خاصة يجب عليها شحن بضائعها بين موانئ الولايات المتحدة في سفن تحمل العلم الأميركي.
إن القوات البحرية الأميركية آخذة في الانكماش هي الأخرى. فبعد الحرب العالمية الثانية، تخلصت البحرية من الكثير من سفنها، وأرسلت غيرها الكثير إلى أسطول “احتياط الاستعداد” فيما عُدَّ فعليا نوعا من التخزين النهائي. وعلى مدار العقدين التاليين، تأرجح قوام الأسطول البحري النشط حول ألف سفينة تقريبا. لكن بداية من عام 1969، بدأ العدد الكلي في الانخفاض، وبحلول عام 1971، جرى تخفيض الأسطول ليصل إلى 750 سفينة. وبعد ذلك بعشر سنوات، انخفض العدد مرة أخرى إلى 521 سفينة. وأثناء إدارة ريغان، الذي وعد في حملته الرئاسية عام 1980 بإعادة بناء القوات البحرية لتصل إلى 600 سفينة، ارتفع قوام الأسطول البحري ليصل إلى 590 سفينة. ثم انتهت الحرب الباردة، وقلَّصت إدارتا الرئيسين جورج بوش الأب وبيل كلينتون قوات الجيش والسفن والطائرات والبنية التحتية المتمركزة على السواحل. وخلال إدارة الرئيس أوباما، وصلت القوات المقاتلة البحرية إلى أدنى مستوياتها بقوام سفن بلغ 271 سفينة. وفي غضون ذلك، بدأت كلٌّ من الصين وروسيا، بطرق مختلفة، في تطوير أنظمة من شأنها الوقوف في وجه نظام التجارة العالمية الحرة في أعالي البحار الذي تقوده الولايات المتحدة.
بدأت روسيا الاستثمار في غواصات شديدة التطور تعمل بالطاقة النووية، مدفوعة بنِيَّة امتلاك القدرة على عرقلة الارتباط البحري بين دول الناتو في أوروبا وبين أميركا الشمالية. وقد وسَّعت الصين كلًّا من قدراتها التجارية وبناء السفن البحرية، وضاعفت حجم القوات البحرية لجيش التحرير الشعبي ثلاثة أضعاف، واستثمرت في صواريخ وأجهزة استشعار طويلة المدى قد تسمح لها بتحريم اقتراب السفن التجارية والعسكرية من شواطئها لأكثر من 1600 كيلومتر. لقد سَعَت كلٌّ من روسيا والصين إلى مد ادعاءاتهما الإقليمية لتشمل المياه الدولية، وأصبح الهدف هو السيطرة على ممرات الشحن الحر بالقرب من شواطئهما ومن مناطق النفوذ المهمة في نظرهما.
القوة الأميركية في أعالي البحار
إن الولايات المتحدة مُكبَّلة اليوم ماليا بالديون، ومُثقلة نفسيا بنزاعاتها العسكرية الأخيرة التي تحولت إلى ورطات مُكلِّفة. ولم تعد واشنطن قادرة على تحمُّل عبء أن تكون قوة قارِّيَّة وقوة في المحيط في الوقت ذاته. بيد أنها ما زال بإمكانها ممارسة النفوذ، وفي الوقت نفسه تجنُّب التورط في شؤون الدول الأخرى. يكمُن مستقبل الولايات المتحدة الإستراتيجي في البحر، ولطالما عرف الأميركيون ذلك. فقد قامت الولايات المتحدة من البداية على أساس كونها قوة بحرية، إذ يتولى الكونغرس بحسب النص الصريح للدستور “تشكيل البحرية وصيانتها”. وفي المقابل، تكلف المادة الدستورية ذاتها السلطة التشريعية بـ”حشد الجيوش ودعمها”، لكنها اشترطت عدم “استمرار مخصصات الجيش لأكثر من فترة مدتها عامين”. لقد نفر الآباء المؤسسون للولايات المتحدة من الجيوش الكبيرة الدائمة.
نجح جورج واشنطن في تمرير قانون البحرية لعام 1794، ما نتج عنه تمويل الفرقاطات الست الأساسية للبحرية. وفي خطابه الأخير للشعب الأميركي، دعا واشنطن إلى سياسة خارجية ذات اتجاه بحري، مُحذرا من “الانخراط والارتباط” بقوى أجنبية قد تجر الأمة الفتية حينئذ إلى حروب قارية أوروبية. وكانت الإستراتيجية التي نصح بها بدلا من ذلك هي حماية التجارة الأميركية في أعالي البحار، وإعلاء المصالح الأميركية من خلال اتفاقيات مؤقتة وليس تحالفات دائمة. وقد أصبح نهج القوة البحرية تجاه العالم شرطا لا غنى عنه في السياسة الخارجية المبكرة للولايات المتحدة. ولكن بمرور الوقت، تغيرت الظروف، إذ انشغلت الولايات المتحدة بالنزاع الداخلي وبغزو القارة الأميركية الشمالية، ثم اتجهت نحو الداخل، لتصبح قوة قارية، لكن تلك الحقبة اقتربت من نهايتها بنهاية القرن التاسع عشر.
في عام 1890، نشر قبطان البحرية الأميركية “ألفرِد ماهان” مقالا في “الأتلانتيك” بعنوان “الولايات المتحدة تتطلع إلى الخارج”، قائلا إن الولايات المتحدة أصبحت مع إغلاق الحدود دولة على هيئة جزيرة تتطلع شرقا وغربا إلى المحيطات. ومن ثمّ فإنه يجب توجيه طاقات الأمة الأميركية نحو الخارج لتُركِّز على البحار والتجارة البحرية والاضطلاع بدور أكبر في العالم. وقد سعى ماهان إلى إنهاء سياسة الحِمائية طويلة المدى المتعلقة بالصناعات الأميركية، إذ إن بلاده في نظره باتت قوية بما يكفي حينئذ للمنافسة في السوق العالمية. وأراد ماهان بالتبعية تشكيل أسطول تجاري أكبر لنقل البضائع من المصانع الأميركية إلى الأراضي الأجنبية، بالإضافة إلى قوات بحرية أكبر لحماية هذا الأسطول التجاري.
أثَّرت رؤية ماهان تأثيرا عميقا آنذاك، إذ دعا سياسيون مثل “ثيودور روزفلت” إلى أساطيل تجارية وبحرية أكبر (وإلى إنشاء قناة تشق أميركا الوسطى). لقد اعتقدوا أن القوة البحرية حافز للقوة الوطنية، ورغبوا في أن تصبح الولايات المتحدة الدولة الأبرز في القرن العشرين. وتزامن التوسع السريع للبحرية، لا سيما في السفن والطوافات القتالية، مع تنامي أساطيل القوى العالمية الأخرى. وقد قرأ قادة بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا ما كتبه ماهان، وأرادوا حماية الوصول التجاري لإمبراطورياتهم البعيدة. وساعد سباق التسلح البحري الناتج عن ذلك في زعزعة توازن القوى في سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى.
ليس هذا هو الموضع المناسب لذكر كل حدث في مسيرة تطور القدرات البحرية الأميركية، ناهيك بتطورات القوات البحرية للدول الأخرى. ويكفي القول إنه بحلول ثلاثينيات القرن الماضي، كانت البحار تمر بتحولات بفعل التكنولوجيا الجديدة، فقد جرى تطوير الطائرات وحاملات الطائرات والمركبات الهجومية البرمائية والغواصات كي تكون أسلحة أكثر كفاءة. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، أصبحت المحيطات ساحات للمعارك مرة أخرى، واستمر القتال بينما وقفت الأساطيل في مواجهة سفن لم تستطع حتى رؤيتها، مُطلِقة أسرابا من الطائرات ضد بعضها بعضا.
في النهاية، لم يَحسِم الرصاص والطوربيدات الحرب، بل حسمتها قاعدة الصناعات البحرية الأميركية. فقد دخلت الولايات المتحدة الحرب بـ790 سفينة في قوتها القتالية، وبنهاية الحرب، كان لديها أكثر من 6700 سفينة. لم تكن هناك دولة يمكنها الوقوف أمام الأسطول الأميركي، سواء التجاري أو البحري، وما من أحد حاول حتى مضاهاته. بالتنسيق مع حلفائها، دشنت الولايات المتحدة نظاما عالميا يقوم على التجارة الحرة دون أي عراقيل. لقد كانت تلك ذروة “العصر الماهاني”.
للمرة الأولى في التاريخ، فُرِض الوصول الحر إلى البحار، وبطبيعة الحال، لم يفكر الناس مليا في أهمية ذلك وتحدياته. وتنطوي أي إستراتيجية جديدة للقوة البحرية على ما هو أكثر من إضافة المزيد من السفن، إذ يلزم أن تبدأ أي إستراتيجية جديدة بالاقتصاد. لقد شهدنا طيلة 40 عاما مغادرة الصناعات المحلية الأميركية ووظائف ذوي الياقات الزرقاء إلى خارج الولايات المتحدة. والآن، تجد الولايات المتحدة نفسها محصورة في منافسة جديدة للقوى العظمى مع الصين الصاعدة، في المقام الأول، وأيضا مع روسيا غير المستقرة وصاحبة القوة المتضائلة. وستحتاج الولايات المتحدة إلى الصناعات الثقيلة كي تنتصر في تحدياتها مع الصين وروسيا، فلا يمكنها ببساطة الاعتماد على قاعدة صناعية لدول أخرى، حتى الدول الصديقة، لتوفير احتياجاتها الضرورية للأمن القومي.
في عام 1993، دعا نائب وزير الدفاع “ويليام بيري” المديرين التنفيذيين لكبار مقاولي الدفاع إلى عشاء في واشنطن، دعوة عُرِفَت فيما بعد في دوائر صناعة القرار باسم “العشاء الأخير”. وقد أعلن بيري حينها عن تقليص متوقع في إنفاق الدفاع، وكانت رسالته واضحة: لو كُتب لقاعدة التصنيع الدفاعي الأميركية النجاة، فسيكون اندماج الشركات مطلوبا. في أعقاب ذلك، استحوذت شركة “نورثروب” على شركة “غرومان” وشكلت “نورثروب غرومان”، كما أصبحت شركتا “لوكهيد” و”مارتن ماريتا” شركة “لوكهيد مارتن”. وبعد ذلك بسنوات قليلة، دُمجت “بوينغ” مع “ماكدونِل دوغلاس”، التي كانت هي نفسها نتاج دمج سابق. وبين بناة السفن، استطاعت “جنرال داينامكس”، التي تُصنِّع غواصات من خلال شركة “إلكترك بوت” التابعة لها، شراء شركة “باث أيرون ووركس”، وهي حوض لبناء السفن، بالإضافة إلى شرائها “الشركة الوطنية للصلب وبناء السفن”.
حافظت عمليات الدمج تلك على الصناعات الدفاعية، لكن ثمة تقليص كبير حدث في القدرات الصناعية الأميركية الكلية. في أثناء الحرب العالمية الثانية، امتلكت الولايات المتحدة 50 من أحواض السفن التي بلغ طولها أكثر من 150 مترا، واستطاعت كلٌّ منها بناء سفن تجارية وأخرى مقاتلة. واليوم، تمتلك الولايات المتحدة 23 حوضا للسفن، منها 12 فقط مخول لها بالعمل على سفن تابعة للقوات البحرية.
هل تعود أميركا للهيمنة البحرية؟
ستحتاج الولايات المتحدة إلى تطبيق سياسة صناعية خاصة بالقوة البحرية لتلبية حاجات أمنها القومي: أي بناء مصانع للصلب ومسابك للرقاقات الإلكترونية، وتطوير أسلحة فرط صوتية ومركبات ذاتية القيادة غير مأهولة تحت سطح البحر. كما أنها تحتاج إلى أن تقول للشركات التي شجعتها يوما ما على الاندماج إنه حان وقت انفصالها من جديد تشجيعا للمنافسة والقدرة على التكيُّف. مثلا، فصل عملاق صناعة الطيران “نورثروب غرومان” في عام 2011 ممتلكاته المخصصة لبناء السفن لتشكيل شركة “هنتينغتون إنغلز”. ونتيجة هذه الانفصالات؛ لن يزيد عمق الصناعة في البلاد فحسب، بل وسيتشجَّع كذلك نمو موردي قطع الغيار للصناعات الثقيلة، تلك الشركات التي عانت خلال ثلاثة عقود من الدمج أو الفَناء.
إن معظم السفن التجارية المدنية، وسفن الحاويات، وناقلات المواد الخام، والناقلات العملاقة التي ترسو في الموانئ الأميركية، بُنيَت في الخارج وترفع أعلام دول أجنبية. لقد تجاهلت الولايات المتحدة الرابط بين القدرة على بناء سفن تجارية وبين القدرة على بناء سفن للقوات البحرية، أحد أسباب ذلك هو أن الأخيرة تُكلِّف حاليا ضِعْف تكلفتها عام 1989. يُعَدُّ افتقار الولايات المتحدة إلى السفن المدنية التي ترفع أعلامها نقطة ضعف. ويتذكر الأميركيون اليوم التكدُّس الذي حدث مؤخرا لسفن الحاويات في موانئ لوس أنجلوس ولونغ بيتش، لكنهم ربما يواجهون غدا صدمة اختفاء سفن الحاويات تماما في حال حظرت الصين أسطولها الضخم من الوصول إلى الموانئ الأميركية. يفخر الأميركيون اليوم بإمكانية شحن الغاز الطبيعي المُسال إلى الحلفاء في أوروبا، بيد أنهم ربما يعجزون غدا عن تصدير هذه الطاقة لحلفائهم لأنهم لا يملكون السفن التي تستطيع نقلها.
من أجل إحياء قاعدة بناء السفن التجارية الأميركية، ستحتاج البلاد إلى تقديم دعم حكومي على غرار ذلك المتوفر لبناة السفن الأوروبيين والآسيويين. فقد تسرب الدعم إلى الطيران التجاري منذ تأسيس خطوط الطيران التجارية في عشرينيات القرن الماضي؛ ولم تكن شركة “سبيس إكس” (المملوكة لإيلون ماسك) لتتمتع بنجاحها الحالي لولا الدعم الأولي القوي من الحكومة الأميركية. ولا يُعَدُّ بناء السفن أقل أهمية، لكن يجب ألا تشبه القوات البحرية الجديدة الأخرى القديمة. فإذا حدث ذلك، فستكون الولايات المتحدة بذلك ارتكبت خطأ إستراتيجيا. فبينما تعمل القوى المُنافِسة على تطوير سفن صواريخ تستهدف حاملات طائرات الولايات المتحدة وغيرها من سفن سطح البحر الكبيرة، يجب على الأميركيين بذل استثمارات أضخم في الغواصات المتطورة المجهزة بأحدث صواريخ مناورة فرط صوتية بعيدة المدى. يحتاج الأميركيون إلى السعي نحو مستقبل لا يمكن فيه العثور على غواصاتهم، ولا يمكن هزيمة صواريخهم الفرط صوتية.
دعا قائد العمليات البحرية الأميركي مؤخرا إلى تشكيل أسطول قوامه 500 سفينة تقريبا. وسرعان ما أوضح أنها ستتضمن نحو 50 فرقاطة جديدة للصواريخ الموجهة بالإضافة إلى 150 من المنصات السطحية وتحت السطحية غير المأهولة التي ستُحدِث ثورة في طريقة تنفيذ العمليات البحرية في أوقات الحرب. ويجري تجميع الفرقاطات على شواطئ بحيرة “ميشيغن” الأميركية. ويبدو أن التحدي العسكري الكبير المقبل للولايات المتحدة سيكون في الأغلب مواجهة بحرية. إن القوى العظمى، لا سيما المُسلَّحة نوويا، لا تجرؤ على مهاجمة بعضها بعضا مباشرة. وبدلا من ذلك، فإنها تواجه بعضها بعضا في المساحات العالمية المشتركة، مثل الفضاء السيبراني والفضاء الخارجي، والأهم من ذلك في البحر. إن المحيطات على موعد لكي تكون ساحات للمعارك من جديد، وببساطة فإن الولايات المتحدة والعالم ليسا مستعدين لذلك. لقد عرف الأميركيون ذلك كله في عصر ألفرِد ماهان، وبدورهم يُبَرهِن لنا الصينيون اليوم أنهم يعرفون تلك الحقيقة.
————————————————————————————————————————–
هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
ترجمة: هدير عبد العظيم.