Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
خبر عاجل

الثقافة والموسيقى (2) | الاتصال والانفصال بين العاطفة الفنية والدينية | آراء


لست أدري لماذا حين نسمع بعض الألحان تنخلع لها قلوبُنا وتتلذذ بها أسماعنا، حتى وإن كانت معانيها تَسْتَعجم على أفهامنا. فالموسيقى لغة تستطيع أن تُسكِّن هائجا وتُهيِّج ساكنا، دون أن تُفصح عن معان واضحة الدلالة. فلا يخفى أن الطبول تُقرع لتهييج العواطف وتحريب المشاعر، كما لا يخفى أن بعض آلات السَّحب والنفخ تُعزَف لتسكين العواطف وتليينها. ولذلك نجد الفيلسوف اليوناني أفلاطون يوصي السلطان بأن يكون على بينة بما يعزفه الشعب من موسيقى حتى يستطيع أن يعرف طبيعة ما يختضم داخل المجتمع من عواطف، وبالتالي يسهل عليه أن يحكمه. فبعض المقامات الموسيقية تتصل بالحزن اتصالا وثيقا، بينما بعض المقامات الأخرى هي أكثر التصاقا بالفرح، وهكذا دواليك.

ذهب الموسيقار “رتشارد فاغنر” إلى القول إنه لا شيء يجسد عبقرية الشعب الألماني وروحه أكثر من فن الأوبرا، ذلك أنه فن يؤلف بين الكلمة والنغمة في أرقى تجلياتهما

لقد أصبح الوعي بأشكال الموسيقى وما تدل عليه من عواطف مستترة يكتسي أهمية بالغة ليس من وجهة نظر علم الاجتماع والسياسة فحسب، بل من وجهة نظر جيوسياسية بحتة. فقد ذهب “دومينيك موازي”(Dominique Moïsi) في كتابه عن الجيوسياسة والعاطفة (La géopolitique de l’émotion) إلى حد القول إن موازين القوى القائمة في عالمنا اليوم هي انعكاس لثقافات ذات خصائص عاطفية متباينة، فمن هذه الثقافات ما يخضع لعاطفة الخوف، ومنها ما يحركه الشعور بالإهانة، أو ما يحدوه الأمل نحو الغد الأفضل. وبهذا الاعتبار يكتسي الوعي بالإبداعات الموسيقية، بوصفها أكثر أنواع الإبداع تعبيرا عن العاطفة، أهمية كبرى في نظرنا.

النغمة وسيلة لتحرير التعبير العاطفي من قيود الكلمة

الأصل في الموسيقى أنها لغة للتواصل، فضلا عن كونها لغة للتعبير. ويَرْجح عندنا أنها بهذا الوصف امتداد للأصوات التي تحدثها الألفاظ والكلمات، أي أنها مسبوقة بلغة التواصل الطبيعية. فقبل أن ترتبط لغة الموسيقى بآلات تُعزف عليها، ترتبط بالغناء، أي بفن يُعنى بتمطيط الكلام والخروج به من مرتبة النطق الطبيعي إلى مرتبة التصويت الجميل، هذا التصويت الذي قد يكون ضربا من الترديد أو الترجيع أو التنغيم أو التحنين أو ما شابه ذلك.

لا يخفى أن أبسط عمليات التواصل اليومي تقوم في جزء كبير منها ليس على اللغة فحسب، بل على نبرة الصوت أساسا. فعبارة “صباح الخير” مثلا، قد تفيد معاني كثيرة يدركها عقل المتلقي بعد تحليل النبرة الصوتية التي تحملها. فقد يريد المتحدث التهكم بقوله صباح الخير لشخص استيقظ متأخرا، أو قد يريد التساؤل الذي يفيد العتاب. فعقل المتلقي يقفز على الدلالة الأولى المقررة للكلمات، ليقف عند النبرة التي تحملها حتى يفهم القصد من وراء الكلام.

فقد يقول المدير للموظف صباح الخير، بينما يجيب الموظف معذرة كان هناك زحمة شديدة في الطريق بسبب حادثة سير. فالموظف في هذا السياق لا يَردّ على المعاني المودعة في الكلمات، لكنه يرد على الاستفسار أو الاستنكار الذي تحمله النبرة الصوتية. فصباح الخير على لسان المدير هنا تفيد: “كيف تبيح لنفسك كل هذا التأخر؟”.

إذا كانت نبرة المتحدث الصوتية قادرة، في سياق التخاطب اليومي الطبيعي، على أن تحمّل الكلمات دلالات غير الدلالة المقررة لها في المعجم أو بحسب التراكيب اللغوية المقبولة، فما بالك بالغناء؟ فالغناء، بوصفه فنا يتوسّع في التصويت والترنيم والتطريب لا محالة ينتهي بالمُغني إلى تمزيق العلاقة بين الكلمة وما تدل عليه. فإذا كانت “صباح الخير” تُحمل على معان كثيرة مثل معاني الاستنكار والاستفسار في لغة التخاطب اليومي، وذلك بواسطة تغير بسيط في النبرة الصوتية، فإن معنى هذه العبارة وهي مُغنّاة قد يتبدد ليصبح معنى غامضا ليس بالنسبة للمتلقي فحسب، بل في نفس المُلقي كذلك. فأقصى ما يمكن أن يُفهم من “صباح الخير” هو أنها ترمز إلى الحزن، هذا إن كانت تأتي مغناة على مقام موسيقي حزين، مثلا، أو تشير إلى الفرح إن كان المقام الموسيقي مقاما مرحا.

بمعنى آخر، فالموسيقى، في الأصل، تروم توسيع مجال الدلالة اللغوي لفسح المجال أمام معان عاطفية لا تفي الكلمات بتبليغ قوتها أو حدتها. وبهذا يكون الخطاب الموسيقي خطابا عاطفيا صرفا لا ينضبط بضوابط التواصل اللغوي الطبيعي. صحيح أن مصدر هذا الخطاب هو الإنسان المُتكلِّم، أي الإنسان الذي يروم استعمال الكلمات لتبيين معان أو لتعيين أشياء في الواقع. إلا أن هذه الكلمات لا تلبث أن تتلاشى لتصبح مجرد صوت أو نغم، لا يملك أن يُبيِّن أو أن يُعيِّن.

ظلت العلاقة بين التعبيرين، أي التعبير بالموسيقى والتعبير بالكلمة، مثار جدل قوي في السياق الغربي الحديث، وعندما نتأمل مليا في طبيعة هذا الجدل، لا نلبث أن نتبين أن وراءه صراعا قويا حول مفهوم الثقافة وسبل الحفاظ على تماسكها. خصوصا بعد أن بلغ الاشتغال بالموسيقى المنتهى في إسكات الكلمة وتهميشها مع تطور النمط “البوليفوني” (Polyphony)، أو تعدد الأصوات، الذي أصبح معه التعبير الموسيقي يكتفي بالإحالة على تراكيب صوتية من أجل خلق المعنى، مستغنيا بذلك عن الكلمة ومدلولاتها.

لقد دخلت الموسيقى الكلاسيكية مرحلة أصبحت عندها “موسيقى صامتة” كما نصطلح عليها في سياقنا العربي. والصمت في هذا الاصطلاح يشير إلى صمت الكلمة وذوبانها في أصوات الآلات، وليس إلى الصمت بوصفه الفضاء الذي ينبسط فيه النغم الموسيقي، أو تكتب فيه لغة الموسيقى. ولا عجب أن تختلف المواقف وتتباين الآراء بخصوص هذا التحول، لأنه تحول يؤشر على منعطف ثقافي خطير لا يدرك خطورته إلا الراسخون في عالم المعاني.

يقول الموسيقار “ريتشارد فاغنر” إنه لا شيء يجسد عبقرية الشعب الألماني وروحه أكثر من فن الأوبرا، ذلك أنه فن يؤلف بين الكلمة والنغمة في أرقى تجلياتهما. أما الفيلسوف “فريدريش نيتشه، فقد ظل في المقابل ميّالا إلى ترجيح كفة الكلمة على حساب النغمة في تحقيق التماسك الثقافي، ويعتقد أن فن الموسيقى هو فن ملازم لمرحلة الشباب، لا يلبث الإنسان أن يتجاوزه مجرد أن يبلغ مرحلة النضج. كما يرى أن “الإنسان كلما زاد تعمقا في الموسيقى زاد حزنا”.

هناك شذرات كثيرة من التراث الأدبي والفكري تصب كلها في تأكيد الحقيقة الدقيقة التي ينبه إليها نيتشه والتي مفادها وجود اقتران وثيق بين الموسيقى في أعمق تجلياتها والحزن. فشكسبير مثلا، يقول على لسان أحد شخوص مسرحيته “كما تشاء” (As You Like it): “كما يمتص ابن عرس البيض، كذلك أستل الحزن من الأغاني” (I can suck melancholy out of a song as a weasel sucks eggs).

فلعل ما يجعل الموسيقى تُقرن بالحزن هو كونها لغة أقرب إلى استبطان الذات الإنسانية رغبة في التعبير عن مواجيدها الدفينة، منها إلى لغة التواصل والتوصيل التي تقتضي قدرا من الوضوح والاتفاق بين الملقي والمتلقي بخصوص العلاقة بين الدال والمدلول. فأنت إن نطقت بكلمة “كأس” إنما تحيل المستمع إلى شيء متعين يعرفه، أما إن عزفت نغمة “دا دا دا…دا” مثلا، فالأمر متروك لك لتحدد معناها، كما أن المتلقي يحدد لها المعنى الذي يريد. وبهذا يمكن القول إن ما يزيد التعمق في لغة الموسيقى حزنا هو أنه تعمق يذهب باتجاه الانطواء على الذات عوض الانفتاح على الآخر.

نستنتج من هذا الكلام أن أنماط التعبير البوليفوني كما هي مجسدة في الموسيقى الكلاسيكية الغربية ما كانت لتخرج إلى الوجود إلا في فضاء ثقافي تسود فيه النزعة الفردانية، فضاء يتحرر فيه الفرد من ربقة التواصل اللغوي الذي يكبل العاطفة بوجه أو بآخر، ليبسط ميولاته العاطفية على الآخرين، ويفرض تمثلاته في الوجود. من ينظر مليا في الثورة البوليفونية الغربية يجدها في العمق تجسد انتصار العاطفة الفنية الفردية الجموحة في بيئة كانت تسود فيها العاطفة الدينية المسيحية الجماعية.

خلاصة على سبيل الاستفتاح

نحن نعي صعوبة الكتابة حول الموسيقى دون وسائل الإيضاح اللازمة، نأمل أن تكون الإشارات التي وردت في حديثنا العام كافية لتحمل القارئ على التفكير في موضوع الموسيقى وعلاقتها بالعاطفة الدينية والعاطفة الفنية في سياقنا العربي والإسلامي.

لا بأس أن أبوح لك عزيزي القارئ هنا بأن تأملي في الموضوع ينحصر بين خطابين: خطاب ينطلق من حس فني يجد التعبير عنه في قول الرحابنة على لسان السيدة فيروز “نغمة على الحق شو أحلى من الحكي”، وفيه تشوف لتخليص العاطفة من عوالق الكلمة، انصياعا لحنين غامض يأخذ الإنسان من بين الجماعة ليذهب به بعيدا على حد قول إحدى أغنيات فيروز “أنا عندي حنين ما بَعْرف لِمين …”، وبين خطاب ينطلق من حس فقهي يرى في الكلام المنظوم، أي في إرهاصات اللغة الموسيقية الأولى، ما قد يدخل العقل في الخمرة التي تجعل الإنسان يقول ما لا يعلم. فالإمام الشافعي يذهب إلى القول: “اختلط كلامه المنظوم، وأفشى سره المكتوم”.

وبين هذا وذاك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى