مسلسل “سره الباتع”.. طموح سينمائي ورواية أخرى لتاريخ مصر | فن
من الفلاح الذي الذي أصابه مسّ فحمل روحه على كفه وقاد الرجال وساس قومه لطرد المستعمر وبناء دولة اسمها مصر؟ سؤال شغل بال عشرات المبدعين المصريين سواء في الكتابة الروائية أو السينمائية، أو في الدراما التلفزيونية.
حاول أسامة أنور عكاشة في مسلسله الشهير”المصراوية” أن يتخيل البداية من منزل العمدة فتح الله الحسيني (قام بدوره الفنان الراحل هشام سليم) لتشكيل دولة في مواجهة السلطة العثمانية، كما أن يوسف إدريس في قصته القصيرة “سره الباتع” (نشرت ضمن مجموعة تحت اسم “حادثة شرف” عام 1958) لامس بدوره ذلك الخيال وتلك الأسئلة، وترجمها المخرج والمؤلف خالد يوسف في مسلسل بالعنوان نفسه (سره الباتع) يعرض ضمن دراما رمضان 2023.
تدور قصة مسلسل “سره الباتع” خلال زمنين، الأول في عصرنا الحالي حول شاب يبحث عن سر تبرّك أهل منطقته بضريح “السلطان حامد”، وتعيده رحلة البحث إلى زمن الحملة الفرنسية بدءا من عام 1798ميلادية.
زمن شهد بطولات الشعب المصري في مواجهة الاحتلال الفرنسي من خلال حامد الذي حوّله الخيال الشعبي إلى السلطان حامد، وبعد رحيله بسنوات طوال يأتي الطفل حامد ليبحث عنه.
يحكي العمل قصة تشكل الهوية المصرية التي رحل قائدها، فتحول بموته إلى قيمة خلفت ملايين المقاومين والقيادات التي وقفت ضد المحتل، وجمعت أناسا من مختلف أنحاء مصر ليصبحوا شعبا واحدا يمكن تمييز ملامحه الشكلية والثقافية فور التعامل معه.
أسئلة قديمة ودراما جديدة
لم يكتف صانع العمل بقراءة ونقل روح المبدع الكبير يوسف إدريس، ولكنه دفع إليها بأسئلته الخاصة وظلال من طفولته وصباه، وقدم نصا روائيا موازيا جاء نسجه مع القصة الإدريسية ليصنع عملا دراميا يشعر المتلقي بأنه شاهد مثله من قبل، ولكنه يشعر أيضا بحيوية خاصة وجرأة غير مسبوقة تلقي به إلى عالم اليقين الكامل تارة وإلى الشك تارة أخرى.
وفي كل الأحوال، لا يبرح المشاهد مكانه مبهورا بالصورة المميزة والدراما التي مارس صاحبها قوته الشخصية وسطوته، فلم يمنح شخوص عمله الحرية الكاملة لقول ما يريدون، بل وضع على ألسنتهم ما يريد قوله من آرائه الخاصة وقناعاته، وأهمل بعض التفاصيل التاريخية لمصلحة الرؤية الإجمالية.
يشهد العمل تمثيلا باهرا، وخاصة من شباب الممثلين مثل أحمد السعدني وأحمد فهمي، وفي إدارة محكمة لمجموعات بلغ عددها في بعض المشاهد آلاف الأشخاص.
يشبه المسلسل مؤتمرا عاما للممثلين والممثلات في مصر، بدءا من النجوم حسين فهمي و أحمد فهمي وأحمد السعدني، وانتهاء بممثلي المشهد الواحد أو المشهدين (الكومبارس) في كل مسلسل، وهي صيغة نجاح خاصة استدعى بها المسلسل جمهور كل هؤلاء الممثلين لمتابعته واستبقه بحملة إعلامية غير معتادة.
الدين والوطن
يلامس المسلسل قضايا شائكة تتعلق بالهوية المصرية وطريقة التدين لدى المصريين، فالبعض ينسب الشعب المصري إلى قدماء المصريين ويطالب بالعودة لتلك الهوية، وآخرون يرون أن تشكل الدولة المصرية الحديثة جاء في لحظة تولّي محمد علي باشا الكبير حكم مصر، وغيرهم يرونها “لحظة يوليو/تموز الثورية”، وهكذا يحاول كل طرف أن يصنع أساطيره المؤسسة لانحيازاته تجاه هوية الشعب المصري.
وإذا كان يوسف إدريس قد انشغل في قصته بعلاقة الشعب المصري بزعمائه المقاومين للاحتلال وكيف يضعهم المصريون في مرتبة الأولياء، فإن المسلسل صنع من هذه العلاقة حالة خاصة من التدين ومن علاقات الشعوب بزعمائها.
وطبقا للمسلسل، أصبح السلطان حامد رجلا صالحا ومحبوبا بسبب قيادته للمقاومة ضد المستعمر وصار وليا وصاحب مقام لقتاله أعداء الوطن، وهو ما يطرح رؤية مغايرة تجعل من الرمز الديني في حقيقته رمزا وطنيا خالصا محاطا بهالة من القداسة.
لغة بصرية
ثمة طموح للغة بصرية مختلفة، وصناعة عمل ملحمي في الحلقات الأولى للعمل، ظهرت بوادرها في معركة الجيش الفرنسي ضد المماليك، حيث استطاع فريق العمل حشد عدد هائل من المجموعات كجنود فرنسيين ومماليك بالإضافة إلى المصريين، وجاءت “الكادرات” واسعة في تصوير الجيش الفرنسي بتنظيمه الواضح وتسليحه مقارنة بلقطات لمحاربي المماليك الذين دخلوا إلى ساحة المعركة بلا نظام حاملين سيوفهم فقط في مواجهة المدافع.
إنها المفارقة التي صنعت النصر الفرنسي والهزيمة المملوكية بين جيش حديث منظم وآخر أسير الحرب بالسيف والهجوم الفوضوي الأقرب إلى فكرة المشاجرة لا الحرب وآلتها العسكرية.
وجاءت المشاهد الداخلية لتقدم لغة بصرية أنيقة، حيث تلاعب المخرج بالمساحات المتاحة والإكسسوار، خاصة بيوت شيخ البلد والتاجر شهاب، وفاضت المنازل بالتفاصيل التي تنتمي لمرحلة نهاية القرن الـ17 إبان الهجوم الفرنسي، تلك الأدوات المنزلية المصنوعة من الطين والحجارة وخوص النخيل والأخشاب قبل مرحلة التحديث التي تلت الحملة الفرنسية.
وجاء مشهد المظاهرات التالية لمقتل الشاب المصري الأزهري صابر (جسّد دوره الشاعر هشام الجخ) لتكشف عن الحس الملحمي نفسه، ولكن المظاهرة جاءت منظمة تنظيما مبالغا فيه، حتى إنها تؤكد أنها من صنع مخرج وليست من صنع غضب الأهالي على ابنهم المقتول.
ونقلت الشعارات التي أطلقها المتظاهرون ذلك الحس التحريضي الذي عرفته ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، في لفتة جميلة تؤكد امتداد الطغيان والقتل وسيل الضحايا المصريين الذي لا ينتهي.
تؤكد حركة الشخوص على الشاشة بلغة بصرية واضحة بسيطة ذلك الانفصال الواضح بين أجيال الكبار باستسلامهم وتفضيلهم العيش في سلام ومهادنة، مقابل الشباب الذين يحملون لواء الثورة على قبح الاحتلالين المملوكي والفرنسي.