نحن والغرب.. أكذوبة التحضر والشعور بالدونية | آراء
“اكذب، اكذب، اكذب حتى يصدقك الناس”، هذا ما قاله غوبلز الوزير النازي، ونرى ثماره في تصديق عدد غير قليل من العرب لما يردده البعض “لأكذوبة” تحضر الغرب وتميزهم الإنساني عنا، فيزرعون من دون قصد بعقولهم الشعور بالدونية ويسهل انقيادهم بلا وعي لأي شيء يقوله الغرب.
قام شابان من هولندا بتجربة ذكية، أحضرا نسخ من الإنجيل ووضعا عليها أغلفة لتبدو كأنها نسخ من القرآن الكريم، وراحا يقرآن عدة مقاطع منها على أناس كثيرين من الجنسين ومن مختلف الأعمار، وجاءت الردود قاسية وحادة وتتهم المسلمين والقرآن بكل السوء، لكن كانت المفاجأة عندما “نزع” الشابان الأغلفة، وأثبتا للمشاركين في التجربة أن ما سمعاه كان من “كتابهم” المقدس، وكانت المفاجأة “كالصاعقة” على وجوههم توضح تحيزهم الواضح وعنصريتهم الفجة.
رفض الاختلاف
كانت هذه العينة نموذجا لغالبية الغرب وتحضرهم الكاذب، فالتحضر حالة عقلية وقلبية أيضا تدفع الإنسان للرقي الحقيقي في مشاعره وأفكاره وسلوكه، ولا ينحصر في التحضر الشكلي من المظهر والمسكن واتباع آداب الطعام، بينما القلب والعقل يعيشان ببدائية الكهوف والخوف من الغرباء والمسارعة بقتلهم والانقضاض عليهم ورفض الحوار بينهما على أساس من الندية الإنسانية في الحقوق والاحترام المتبادل للاختلافات الحتمية بين البشر.
التحضر يعني الرقي واحترام معتقدات الغير وحريتهم في اعتناق ما يحبون وفعل ما يرغبون وعدم النيل منهم، لأنهم فقط لا يشبهوننا، ومن يبحث عمن يشبهه ويهاجم من يختلف معه -ولو لم يفعل له ما يضره- يعاني شعورا داخليا بالنقص، ويفتش دوما عما يجعله يشعر أنه أفضل من غيره وأن الآخر ليس أحسن منه.
الإنسان السوي لا يفكر أبدا كذلك، ويتقبل الاختلاف كسنة كونية ولا ينشغل بإثبات أفضليته ولا يحتاج لذلك أبدا والعكس صحيح. لا يعتدي المتحضر حقا على “حقوق الغير” المعنوية بإهانته وتحقير ماضيه أو حاضره، ولا على حقوقه المادية بسرقته.
سرقة الأمان
تبدأ بسرقة حاضره بإغراقه في حروب مع من “يشبهونه”، تطبيقا لنظرية “فرق تسد” البغيضة، ومرورا بإنهاكه في معارك مع من ينتمون له ظاهريا، وهم يأكلون لحم أوطانهم؛ وذلك وفقا للنظرية الاستعمارية الجديدة، لن نرسل جنودا للاحتلال وسنختار من بينهم من يفعل ذلك، وسرقة أمان البيوت بإشاعة أسباب مختلقة لزرع المعارك بين الزوجين، وبين الأبناء والبنات والأهل.
فمن يصحو وينام على مشاكل كيف له أن ينفذ خططه للتطور والتقدم؟ ولعل هذا من أخبث الاستعمارات على مدى القرون، ويجعلنا نتحسر على أيام كانت المبارزة فيها وجها لوجه؛ فلا يستطيع عملاء الداخل العمل لمصلحة الأعداء علانية، ووصولا لسرقة الأموال والقدرات البشرية المتميزة لأخذها للغرب لتسخيرها في خدمتهم أو اغتيال من يرفض ذلك والقائمة الطويلة تشهد بذلك.
من الكذب وقبح العنصرية قيام الثورة الفرنسية بالحرية للفرنسين واستعمار الآخرين، فأي تحضر هذا؟! وفعلت مثلها أميركا وغيرها وتاريخهم الاستعماري البغيض وحاضرهم الأسوأ الحريص على تمزيق العرب واستنزافهم.
نهمس بكل الود والاحترام لأي منبهر بالغرب “أعز نفسك”، فالعزة إن لم تأت من الداخل فلن تحصل عليها أبدا، ومن العزة الحقيقية العمل ليكون يومك أفضل من أمسك، وغدك أفضل من يومك، أليس كذلك؟ ارفع رأسك واعتز بماضيك وتخلص من شوائبه، فلا يوجد ماضٍ بلا شوائب، وافعل بحاضرك الأجمل.
أعز نفسك واسع لتكون أفضل؛ ليس للحاق بالغرب، ولكن لتصنع مجدا يليق بك وبأمتك ولتشجع غيرك ليفعلوا مثلك. تنبَّه، فهم ينظرون إليك، فلو لمحوا ذرة من الشعور بالدونية لسارعوا إلى التهامك فورا، كما فعل الأسد مع مدرب الأسود الذي أخضعه له طويلا وقدم عروضا كثيرة جدا في السيرك المصري، وعندما خاف منه ليلة واحدة أكله.
لا تنس أبدا أن الشعور بالدونية والتقليل من تقدير الذات “مدمر” للإنسان ويستنزفه نفسيا وعقليا، فعندما ينظر لأحد ويراه أعلى ينظر له وكأنك بجوار قدمه! أما تربية الأبناء على الانبهار بالغرب وتقليد الغربيين، فهي خيانة لهم وتدمير لبصيرتهم ووعيهم وقتل لفرصهم التي يستحقونها للانطلاق في الحياة والطيران عاليا، وقص أجنحتهم وتحويلهم لزواحف يتابعون بحسرة ما يرونه من تفوق الغرب.
لماذا لا نتعلم من تجارب الآخرين من غير الغرب واعتزازهم بأنفسهم كالهند والصين وغيرهما؟ ما نراه في أنفسنا يراه الآخرون، وإن تظاهرنا وأقسمنا على غيره، لا ننكر ضعف الواقع العربي “ونرفض الانسحاق أمامه، فلنكن مصدر قوة لأنفسنا ولمن يرغب، ونحرضهم بلطف، ولا نبالغ ولا نحاصر، فنحصد نتائج عكسية.
إن معرفة سوء الوضع الحالي تجب ألا تدفعنا إلى الشعور بالدونية، بل إلى أهمية المسارعة بالنهوض بالنفس وبالغير بجدية ومثابرة، ومن دون نظر للغير إلا للتعلم فقط، لنتوقف عن تصديق أكذوبة “الكل في الغرب يقرأ، ولا يكذبون، ولا يختارون النميمة، والترقية بالكفاءة فقط”؛ فماذا عن الرشاوى الجنسية وبيع الأسلحة للدول الصغيرة لإذكاء الحروب!
تثبت الدراسات الأميركية تدني القراءة بين الشباب وانتشار التحرش والاغتصاب، ولكنهم يجيدون تقديم أنفسهم في الأفلام، ومعظم السينما العربية تتفنن في تقديم العناصر المشوهة لنرفض بجدية سوء الأدب والتعالي غير المبرر على العرب حتى عند تكريمهم بعض الأجانب، مثل ما قاله الممثل الأميركي ميل غيبسون، عند تكريمه، “لم أجد وقتا بالطائرة لتعلم العربية”.
لا ننكر التقدم العلمي والمعلوماتي، فما يجب أن يحدث هو الاستفادة منه وليس الركوع أمامه، وللتفرقة بينه وبين التحضر، فأي حضارة تلك التي قامت على سلب خيرات الشعوب واستعباد الأفارقة وجلبهم عنوة من بلادهم وسرقة أراضي الهنود الحمر! الحاضر البراق لا يجب أن يعمي أعيننا عن الماضي المشين، فبداخله تتكرر عنصرية الغرب واستعلاؤه غير المبرر علينا. أي تحضر في الكيل بمكيالين، والسماح بالهجوم على نبينا وعلى معتقداتنا وحرق المصحف بدعوى الحرية، وتحريم وتجريم الكلام عن المحارق المزعومة لليهود، وصراخ ماكرون عندما هاجمه الروس برسم كاريكاتير؟! التحضر يكمن في احترام عقائد الأخرين وعدم النيل منها أبدا مهما اختلفنا معها.
يهاجموننا ليضعونا بموقف الدفاع، ولنتذكر أن الفرقة الرياضية التي تدافع يسهل هزيمتها، ولسنا في موقف الاتهام، ومن يقبل بذلك يصنع هزيمته بيديه، ويغتال فرصه التي تليق به لتنفس العزة التي هي أكسجين الصحة العقلية.
من الخطيئة التركيز على نقاط القوة عند الغرب والتغني بها ليلا ونهارا، والتعامي الإرادي عن عيوبها ونقاط ضعفها، والأسوأ الدفاع عنها وتبريرها. من الخيانة للنفس التركيز على عيوبنا وتضخيمها وكأننا نلقي بأنفسنا للقاع بأيدينا، والتهوين من مزايانا وتسفيهها، ولا يوجد نهوض بالكون بلا اعتزاز سوي بالنفس، وكما نعتقد نكون.
لنتدبر قول ابن خلدون “المغلوب مولع بمحاكاة الغالب، فالهزيمة توحي إليه أن مشابهة الغالب قوة يدفع بها مهانة ضعفه بعد الهزيمة”، والمؤكد أن المقلد سيبقى دوما نسخة باهتة تلهث وراء ما تقلده، ومن يعتز بإنسانيته يرفض ذلك بكل قوة، ومن لا تنهزم روحه لا ينهزم، وسيتنفس الانتصار ولو بعد حين.