رائد التجديد في سرد القصة والرواية العراقية.. رحيل الأديب والفنان عبد الرحمن مجيد الربيعي | ثقافة
توفي أمس الاثنين في بغداد القاص والروائي والفنان التشكيلي العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي عن عمر ناهز الـ83 عاما بعد معاناة مع المرض.
منذ أن خط أول حرف له يوم كان معلما في مدينة الناصرية (450 كلم جنوب بغداد) -والتي تعد عاصمة الإبداع العراقي- واصل الأديب الراحل صعوده سلم الإبداع متخطيا الكثير من العقبات المكانية والاجتماعية، ليكون واحدا من أكثر الكتاب العراقيين شهرة في السرد بعد شهرة الشعراء.
الربيعي -الذي كانت بدايته الأولى في الرسم- أصبح واحدا من المجددين في السرديات العراقية والعربية، وواحدا من أكثر ممن تم تناول تجاربهم كرسائل وأطروحات جامعية، ليس في العراق فحسب، بل في الجامعات العالمية.
عمل الربيعي مديرا للمركز الثقافي العراقي في كل من بيروت وتونس، وروى رحلته الصعبة من بغداد إلى بلده الثاني تونس في لقاء مع برنامج الجزيرة “أوراق ثقافية”، وكان عضو هيئة تحرير مجلة “الحياة الثقافية” التي تصدرها وزارة الثقافة التونسية.
حياته
ولد الربيعي في مدينة الناصرية في 12 أغسطس/آب 1939، أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة في هذه المدينة ليكمل بعدها دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وألحقها بشهادة البكالوريوس من أكاديمية الفنون الجميلة، كما حصل على إجازة جامعية في الفنون التشكيلية.
وعمل الربيعي في البداية معلم رسم في إحدى مدارس مدينته الناصرية، لكنه انتقل إلى بغداد ليعمل في صحفها بعد أن بدأ النشر مبكرا في الصحف، سواء العراقية أو العربية ليكون بعد سنوات قليلة مشرفا على الصفحة الثقافية في صحف، منها الأنبار والفجر الجديد.
أصدر العديد من النتاجات الأدبية، منها في القصص “السيف والسفينة” (1966)، و”الظل في الرأس” (1968)، و”وجوه من رحلة التعب” (1969)، وكذلك “المواسم الأخرى” (1970)، وغيرها الكثير.
التجديد والمغامرة
يقول الروائي أحمد خلف -وهو صديق الأديب الراحل- “كان تعارفي وإياه لحظة صعبة، إذ كنت قد كتبت عن مجموعته القصصية “الظل في الرأس”، لكنه رغم ذلك تلقاني بنوع من عتاب مليء بالحياء”.
وأضاف “نبهني إلى حالة تسود في الأوساط العراقية والعربية أيضا، ألا وهي خطورة الثقافة الشفاهية أو القراءات السريعة والمغرضة التي تستند إلى نوع من الضغينة”، ولفت إلى أنه من تلك اللحظات جعلني “أخجل من أخلاقه الدمثة وأسلوبه الذي يحمل بين طياته المزيد من ثقة الفنان المبدع الذي يعرف ماذا يريد من الكتابة”.
وذكر خلف أن التجديد لدى الراحل يعد واحدا من أهدافه ومشاريعه الذاتية التي تنطوي على مغامرة التحديث القصصي.
وأضاف “لا يمكن للسردية العراقية أن تتجاوز اسمه من منطلق أساسي كونه سجل هذا الاسم في زمن المغامرة وخلو الساحة من رفاق يتحملون مغامرة التجديد”.
واعتبر تجربته مغامرة لأنه صمم على تجاوز الصيغة التقليدية في كتابة الرواية، وبصورة أدق التخلص من القواعد الأرسطية في صياغة النص السردي.
ولفت خلف إلى أن الراحل تمكن من إلغاء الخط التتابعي في الرواية، مؤكدا أن اسمه سيبقى مشعا وخالدا دائما.
معطف الأجيال
أصدر الربيعي عددا كبيرا من الروايات، منها “الوشم” (1972)، و”الأنهار” (1974)، و”القمر والأسوار” (1974)، وأيضا “الوكر” (1980)، و”خطوط الطول- خطوط العرض” (1983)، وغيرها.
بدوره، نوه الروائي العراقي شوقي كريم بجرأة التحديات التي لازمت تجربة الراحل في شبابه، حيث “انتقل من الألوان وسطوح التخيل إلى القص الصاخب في مرحلة الانتقال من الواقعية المؤدلجة في مرحلة الخمسينيات ثم إلى الوجودية المؤدلجة”.
ويشير إلى أن هذا الانتقال تم “عبر موقفين اقتسما المشهد الثقافي العراقي، وهما الماركسي المستغل لأوجاع الفقراء، والقومي الطموح المداعب لأحلامهم بالعودة إلى الأمة”.
ويعتقد كريم أن سبب هذا الصخب كونه جاء “من مدينة الأفكار المضطربة والمتصارعة الناصرية إلى مركز الصراعات”، ولهذا يرى أن هذه المرجعية جعلته يتأمل إيمانه بقوميته المؤدلجة وسعيه وراء الخلاص من القص الرتيب التقليدي.
وحسب كريم، فإن الربيعي “ظاهرة لن تتكرر في الثقافة العراقية، وكم حاولنا التعلم منها لكننا لم نلحق بها”.
وأضاف أنه كان علّامة لأنه يتابع ذاته الإبداعية في جميع الأمكنة التي استقر بين ظهرانيها ويحصي ما قيل عنه وما كتب، ويخاطب الجامعات العربية والعلمية بوصفه السارد العراقي الأمهر والأكثر شهرة.
ويجزم كريم أن الأجيال التي جاءت بعده “خرجت من معطفه كونه الكاشف عن أسرار القص وهيبته وعنفوانه”، مضيفا أن “الربيعي سرب حمام سردي خارج التجييل، بل هو جيل سردي لوحده قائم وسط ضجيج الأجيال”.
رمل أور وبحر تونس
كتب الربيعي أيضا الشعر وأصدر دواوين عدة، منها “للحب والمستحيل”، و”امرأة لكل الأعوام”، و”شهريار يبحر”، وكذلك “علامات على خارطة القلب”، و”ملامح من الوجه المسافر”، و”أسئلة العاشق”.
يقول عنه الروائي ابن مدينته نعيم عبد مهلهل إنه “رحل عن الناصرية مبكرا، لكنه أبقى في ثياب المدينة شيئا من تطريز نبض قلبه”.
وذكر أنه تمكن من خلال كتاباته أن يجعل “الروائي المغربي محمد شكري يتحدث عن الناصرية ومحلاتها وشوارعها بفضل حبه لرواية صديقه عبد الرحمن الربيعي (القمر والأسوار)”.
وبيّن مهلهل أن “الناصرية تفتخر بدوره الريادي في ظهور الوعي المتجدد في ثقافة ستينيات القرن الماضي وسبعينياته”.
وعن رحيله إلى خارج العراق، قال مهلهل إنها جاءت “بسبب مزاج روحه المتحررة، فحمل حقائب الهجرة وغاب عن وطنه عشرات السنين وصار سندبادا سومريا”.
وأضاف أنه “رمى شيئا من رمل أور على بحر تونس، فنمت معه هواجس تأسيس عائلة مشتركة من سيدة وأديبة تونسية تزوجها هي القاصة التونسية رشيدة الشارني”.
وعبر عن حزنه لهذا الرحيل، وقال “مات الربيعي الروائي والشاعر والإنسان، وقد سجل في سردياته تفاصيل تأريخ بلاده ومحطاته وذكرياته في مزيج من دهشة الشخوص ويومياتها”.
الأبوة الروحية
كتب الربيعي أيضا في النقد الأدبي، وصدرت له كتب، منها “أصوات وخطوات.. مقالات في القصة العربية”، و”رؤى وظلال”، و”من النافذة إلى الأفق”، وكذلك “من سومر إلى قرطاج”.
ويقول الناقد والأديب داود الشويلي إن “تجربة الراحل تبدأ منذ مطلع ستينيات القرن المنصرم، في زمن كانت القصة القصيرة تحبو فيه ككتابات الرواد الأوائل”.
ويشير الشويلي إلى أن تجربته كانت “متجددة وواضحة وجاءت مجموعته القصصية الأولى (السيف والسفينة) كالحجر الذي ألقي في بركة القصة القصيرة فرجَّ سكون نماذجها وكتابها على السواء”.
ويرى أن الربيعي هو “الأب الروحي لتجديد وحداثة القصة القصيرة الجديدة والرواية الجديدة في العراق”.