برايتون الجديد.. مطرقة العبقري دي زيربي
حسنا، مَن يعرفون “ميولنير”، مطرقة ثور إله الرعد في الأساطير الإسكندنافية شهدناه في سلسلة أفلام مارفل، يدركون أنه ليس بمقدور معظم الكائنات أن تحملها أو ترفعها حتى من على السطح، ببساطة لأن الأيادي السحرية التي صنعتها لم تعطِ إلا لثور فقط أحقية حملها واستغلال قوتها الخارقة، ولبعض ممن “يستحقون” أن يحملها مثله.(1)
يظهر هنا أمامنا بطل آخر، بشري مثلنا، ولا يحمل مطرقة أسطورية، وحده هو مَن يستحق حملها، بل هو المطرقة ذاتها، على الأقل على حسب تعبيره وتعبير بعض ممن عملوا معه، لأنه يدق أو يضغط على الدوام من أجل التحسن والتطور، لأنه لم يرَ أن الأمر يتعلق بالجماعة فحسب، بل ينظر إلى الجوانب التي يستطيع تطوير الأفراد بها لخدمة الجماعة، دون التيه في دهاليز الغطرسة، هنا يظهر روبرتو دي زيربي، العبقري الصغير لاعبا، والمطرقة الإيطالية التي قد تقارع ميولنير مدربا.(1)(2)
المبادئ الثلاثة
“أنا مهتم بالقدرات الفردية والتقنية، من دونهما لا تستطيع الحفاظ على الكرة في نصف ملعبك”.
(دي زيربي)
بداية الرجل لم تكن سهلة، إن فكرنا قليلا، لا تبدأ أي ثورة بسهولة، أليس كذلك؟ ودي زيربي ثوري بحق منذ كان لاعبا حتى، صانع لعب صريح في فريق الميلان الذي هيمن عليه رسم الـ4-4-2 التكتيكي تحت إمرة فابيو كابيللو حينها، بالطبع لم يتأقلم الرجل بسهولة مع تلك المتغيرات، وغادر الروسونيري بسبب ذلك في النهاية دون أن يلعب سوى 3 مباريات.(2)
الثورة التي بدأها دي زيربي، منذ كان مدربا لفوجيا حتى، شنها على التقليد الإيطالي، على أسلوب اللعب غير الشجاع بالكرة في أغلب أوقاته، تحت إمرة مارتشيلو ليبي مع المنتخب مثالا، أراد روبرتو أن يفعل شيئا مغايرا، لم يُرِد أن يلعب كثيرا تحت الكرة، لم يُرِد أن يفعل شيئا لا يقتنع به، لم يُرِد أن تلقي مسيرته لاعبا بظلالها على ما يريد أن يفعله مدربا.
بالطبع، وحتى بعد فترة باليرمو العثرة، والتي أقيل فيها بعد 13 مباراة فقط لم يفز فيها سوى بمباراة وحيدة أمام أتلانتا، لم تسِر الأمور بسهولة مع بينيفينتو أيضا، 6 انتصارات فقط من أصل 38 مباراة لا يمكن اعتبارها فترة سهلة، ولكن عندما يكون صاحب الترتيب الأخير صاحب معدل استحواذ تخطى الـ47%، في منتصف ترتيب الفرق في ذات الإحصائية، فلعل الرجل كان يفعل شيئا صحيحا رغم كل شيء.(3)(4)
على الرغم من تواضع الإمكانات، فإن ذلك لم يؤثر على مقاربة روبرتو دي زيربي لطريقة لعب الكرة، السلاسة نفسها التي نراها مع برايتون حاليا كان يتبعها مع بينيفينتو الإيطالي منذ 5 مواسم، لكن لم تسعفه الجودة كثيرا آنذاك في تطبيق كل أفكاره، خاصة في الهيمنة على المباريات بشكل أكبر.
لكن أحيانا لا تساعدك الأدوات على تنفيذ فكرتك باستمرار، ويتبين ذلك في أحد أنماط البناء أمام روما في مباراتهما في موسم 2017/2018، أمامنا هنا انتشار جيد في البناء، ويتمركز المدافعان بشكل يمكِّن الحارس من التمرير لأيهما، ومن ثَم الشروع في عملية التدرج على الأرض، لكن اختار الحارس أن يلعب كرة قطرية كما نرى.
نستطيع رؤية ذلك أيضا من الحارس كونسيلي مع فريق ساسولو في إحدى الحالات المشابهة أمام ميلان في موسم 2020/2021، هذا لقاء اعتمد فيه الفريق على الكرات القطرية للظهراء كما مع بينيفينتو، وعلى الرغم من بعض اللمحات الجيدة من اللاعبين تحت الضغط، وعلى الرغم أيضا من توافر الخيارات هنا على الأرض، فإن كونسيلي اختار اللجوء للحل القطري أيضا.
بالعودة إلى تصريح دي زيربي في البداية فربما تلك الفترة هي ما جعلت الرجل يفطن لفكرة أن الأمر يحتاج إلى التأسيس الجيد كي يلعب كرة القدم كما يتخيل، ولا يعني التأسيس هنا فقط تأسيس اللاعبين بالجوانب التقنية، كيف يمرر ويسدد ويراوغ، بل أيضا بالجوانب التكتيكية والبدنية والذهنية، وهنا علينا أن نكمل تصريح روبرتو في البداية، والذي تحدث فيه عن مبادئه الثلاثة في كرة القدم:
“أهتم بفهم اللعبة، والذي يتمثل في مبادئ مثل الوضعية الصحيحة لاستلام التمريرة، والتمرير للزميل تجاه قدمه القوية، والشجاعة لكي تتقبل أنك قد تخطئ”.
(دي زيربي)
لمستان أو أقل يكفي
في أحد تقارير الجارديان “The Guardian” الإنجليزية يناقش جوناثان ليو التغير الذي أحدثه دي زيربي منذ مجيئه للبريميرليج، واستشهد على ذلك بمباراة برايتون أمام مانشستر سيتي في ملعب الأخير، والتي تفوق فيها برايتون على السيتي في الاستحواذ على الكرة، في مشهد لا نراه يتكرر كثيرا، في الواقع لم نره سوى 14 مرة في جميع مباريات بيب مع مانشستر سيتي في البريميرليج.(5)(6)
في رأي ليو كان بيب مقتنعا أنه رأى شيئا جديدا كليا في تلك المباراة، وقال إن تأثير دي زيربي سيكون كبيرا في إنجلترا، وإن لم يكن حديث بيب كافيا، فربما معرفة أن معدلات استحواذ برايتون على الكرة ارتفعت عن المواسم الفائتة مع المدرب جراهام بوتر قد تدفعك للتفكير، وهذا الموسم، في المباريات الست التي كان بوتر مسؤولا عنها مع الفريق، لم يتخط متوسط استحواذ الفريق الـ50%، بينما ارتفعت هذه النسبة إلى 59% بمرور الوقت مع دي زيربي، أي وقت أكبر على الكرة، وهذا تحديدا هو ما يحبذه الإيطالي.
لا يقتصر الأمر على ذلك طبعا، فمَن يتابع برايتون جيدا يعلم أنهم شديدو الصبر في الاستحواذ، ويأخذون كامل وقتهم في التحضير من الخلف، محاولين استدعاء ضغط الخصم وسحبه خارج تموضعه بتثبيت الكرة أسفل أقدامهم، لكي يتمكنوا من اللعب في المساحات الضيقة التي يتركها الخصم في أثناء تحركه للضغط، وهنا تأتي ديناميكية الفريق في التحرك من دون كرة لإيجاد تلك المساحات، لخلق مواقف التفوق النوعي للأجنحة على الأطراف مثلا.
بالطبع يحتاج ذلك إلى دقة كبيرة في التصرف، أن تعلم كيف ومتى تمرر، ومن أي قدم تُخرِج الكرة، وبأي قدم تتسلم التمريرات من زملائك، والأهم من ذلك ألا تحتفظ بالكرة في قدميك أكثر من اللازم، ما يميز دي زيربي وما نراه جليا في برايتون هو ما أشير إليه آنفا مع بينيفينتو، وتكرر في فرق مثل ساسولو وشاختار، السرعة والدقة في التصرف، يحدث كل شيء بسرعة فائقة بعد استدعاء الفريق ضغط الخصم، لا يحتاج اللاعبون إلى أكثر من لمستين للكرة أو لمسة واحدة أحيانا قبل خروج الكرة من أقدامهم لأحد زملائهم، بل قد تكون التمريرة من اللمسة الأولى حتى في عديد الأحيان، كما نرى في الحالات أدناه.
DE ZERBI BALL MEMANG pic.twitter.com/SrWNKhFxnW
— ً (@ndttr) March 5, 2023
هذا يشير إلى عمل تقني مميز من قِبَل المدرب، ويظهر هذا في إحدى لقطات تمارين الفريق التي يتدربون فيها على التمرير بعد الاستلام مباشرة بالقدم العكسية، أي إن استلمت الكرة بقدمك اليسرى تمرر بقدمك اليمنى، من ثَم التدرب على التمرير من اللمسة الأولى دون ترويض، عندما تشاهد اللقطة ألا تذكرك بما نتحدث عنه نوعا ما؟
يقول دي زيربي إن هذه هي نظرته للعبة، مزيج، كما وصفه ليو في تقريره، بين قوة الإسبان في التمريرات القصيرة والضغط الألماني الحاد والحنكة التكتيكية الإيطالية ليخرج إلينا بذلك النظام السهل الممتنع، الذي لا يحتاج سوى إلى لمستين للكرة في التدرج بها للوصول لمرمى الخصم، مع التحرك الفعال من دون الكرة لإيجاد المساحة، والذي يُظهِر أي هيكل ضغط للخصم وكأنه على سرعة أقل من سرعة اللعب الفعلية.
“لا يوجد تيكي تاكا لمجرد التيكي تاكا، هذا خطأ، هنالك زاوية، وهي لإيجاد حالات 4 ضد 4 أو 3 ضد 3 في مساحة كبيرة لإيذاء الخصوم بالطريقة التي تمكِّن المراوغين من القيام بما يحبونه، وإيجاد مواقف 1 ضد 1”.
(آدم لالانا متحدثا عن فلسفة دي زيربي)
ما بين المطرقة والسندان
“يخبرني أنه يثق بي ويؤمن باستطاعتي تحقيق المزيد، هذا يفيدني كثيرا”.
سولي مارش متحدثا عن روبرتو دي زيربي(7)
نعلم جميعا كم تؤثر الأساليب التشجيعية والتعامل الإيجابي مع لاعب كرة القدم، تجعله أكثر حدة ذهنيا وجسديا، وتعطيه الحافز المناسب لتنفيذ ما يريده المدرب، ثبت هذا في دراسة نُشِرت عام 2000، اختُبِر فيها 16 طالبا في مباريات مصغرة، قُسِّم فيها الطلاب إلى مجموعتين من 8 لاعبين لكل مجموعة، الأولى تلعب فيها المباريات مع كلمات تشجيعية وتحفيزية من المدرب، والثانية من دونها.(8)
وجد القائمون على هذه التجربة أن تلك المحفزات تساعد على تحسين بعض الوظائف والمؤشرات الجسدية، مثل ضربات القلب في أثناء القيام بالمجهود البدني، وتركيز حمض اللاكتيك في الدم، والذي يتشكل عندما يحول الجسم الطعام الذي تتناوله إلى طاقة، فيعتمد الجسم على هذه الطاقة عندما تنخفض مستويات الأكسجين في الدم عند القيام بمجهود جسدي كبير.(8)(9)
نود الظن أن هذا ما يقصده سولي مارش في حديثه عن مدربه الإيطالي، يعيش الجناح الألماني أفضل مستوياته تهديفيا، وعلى مستوى الإسهامات مع فريقه منذ الانضمام إليه، إذ سجل 5 أهداف وصنع 4، ويستطيع فعل المزيد على حد تعبير روبرتو دي زيربي، فعندما سأله عن عدد الأهداف التي يستطيع تسجيلها هذا الموسم، أجاب مارش بأنه يستطيع أن يصل إلى 8، ليرفع الإيطالي التحدي إلى 10.(7)
في الماضي لم يقتصر عمل المطارق على الطرق على المسامير فحسب، فقد كانت تُستخدَم لتشكيل المعادن أيضا، وهذا هو ما يفعله الإيطالي حاليا، يضرب كالمطرقة، ولكن الغاية هي التشكيل والتكوين، وليس طرقا بلا هدف، ونود الظن أن عملية التكوين تلك قد بدأت منذ أن حط الرحال في برايتون، عندما صرح متحدثا عن فلسفته بأن الفريق يستطيع التحكم في المباريات بشكل أكبر:
“لا أعلم إن كان لدى بوتر الفكرة ذاتها أم لا، لكن أحد الأشياء التي يستطيع هذا الفريق القيام بها هو التحكم في النسق بشكل أكبر”.(10)
أراد دي زيربي أن يغرس فكرته منذ اليوم الأول داخل الفريق، اهتمامه بالتفاصيل على حد تعبير سولي مارش هو ما يميزه، وهو ما جعل مارش لاعبا أفضل، وقد أثرت أساليبه على غرفة الملابس وجعلتها أكثر حيوية، وكذلك الأمر مع الجماهير، نستطيع القول بكامل الثقة إن ما يفعله الرجل يلقى استحسانا كبيرا لدى الجميع، ناهيك عن الجوانب الأخرى التي يشير إليها الرجل لرفع الحدة الذهنية ورغبة الفريق، مثل حديثه عن الاستمرار في السعي نحو تأهل أوروبي في الموسم القادم مثلا.(7)(11)
المبدأ ضد النتيجة النهائية
ماذا لو أخبرناك أن ما تراه من دي زيربي حاليا لم يكن يوما القاعدة؟ لا نقول إنه الاستثناء، ولكن عندما تُنتدَب إلى باليرمو بعد فترة جيدة مع فوجيا كالتشيو في الدرجة الثالثة، لكي تفوز بمباراة واحدة من أصل 13 مباراة في السيري آ، وينتهي الأمر بإقالتك، فربما لن يهتم السواد الأعظم بجودة عملك بقدر ما ستكون النتائج هي الحكم، أليس كذلك؟(3)
وعندما نخبرك أيضا أن الأمر لم يتحسن بهذا القدر مع بينيفينتو، ربما ستتغير رؤية هؤلاء الذين لم ينجرفوا خلف النتائج، خاصة عندما يعلمون أن الفريق استقبل عددا كبيرا من التسديدات والفرص الخطيرة، 84 هدفا مستقبلا من أصل 77.3 هدفا متوقعا ضد الفريق في موسم 2017/2018 ليست بالأرقام الجيدة، بل هي الأسوأ خلال ذلك الموسم.
لم يتحسن الأمر مع ساسولو أيضا إلا بقدر قليل، على الأقل عند انتدابه في موسم 2018/2019 بعد أن هبط بينيفينتو إلى الدرجة الأدنى، استقبال 60 هدفا في فترته الأولى مع ساسولو ليس بالرقم الجيد على الإطلاق، وبالوضع في الاعتبار أن الفريق قد سجل 53 هدفا هذا الموسم، أقل مما استقبل، فربما لو كانت نتائج المباريات النهائية هي الحكم الوحيد لعمل الرجل لكان قد أُقيل من النيروفيردي على الفور، أليس كذلك؟
لكن لنضع الأمور في نصابها الصحيح هنا، نحن نتحدث عن رجل لم ينكسر بعد تجربة باليرمو الفاشلة في موسم 2016/2017، وعلى الرغم من أنه هبط بالفريق الذي استعان بخدماته في الموسم التالي، فإن عمله لفت أنظار مسؤولي ساسولو لدرجة انتدابه، حتى إن داريو سرنا، اللاعب الكرواتي الدولي السابق، وأحد المسؤولين في نادي شاختار دونيتسك الأوكراني، قال إن دي زيربي كان خيارهم الأول والثاني والثالث لقيادة الفريق، قياسا على فترته في ساسولو لمدة ثلاثة مواسم تقريبا.(2)
يعني ذلك أن الرجل كان في تصاعد في كل نادٍ ينتدبه تقريبا، ربما استغرق الأمر وقتا طويلا نوعا ما، لكنه كان يستحق، يوجد الرجل الآن في بيئة خصبة بالمواهب مثل برايتون، في أكبر دوريات العالم، بعد تجارب ناجحة في ساسولو وشاختار حتى وإن كانت بدايتها صعبة، ويستكمل رحلته مع النوارس، بعد أن حال فارق الأهداف دون تأهل النيروفيردي للبطولات الأوروبية في نهاية موسم 2020-2021.(2)
ربما كان تعبير المطرقة في محله، وليس فقط للأسباب التي تحدثنا عنها، بل أيضا لأسباب أخرى مغايرة عما كان يقصده دي زيربي أو بعض الأشخاص الذين عملوا معه، لقد رأى الرجل الكثير، وعانى في بداياته، ثم وجد الإلهام عندما اجتمع بمارسيلو بييلسا في ليل الفرنسي سابقا، وربما كان هذا ما جعله يستمر في تحقيق أهدافه.(2)
ربما كان وصف المطرقة يشير إلى قوة تحمل الرجل عوضا عن قوة ضرباته، وإصراره على المواجهة واستكمال طريقه بذات الفلسفة رغم العقبات، وربما هذا هو ما يجعله أقوى من ميولنير، مطرقة الإيطالي لا تسوِّي الجبال ولا تستجلب البرق، ولكنها تجسد مبادئه وخياراته وقناعاته، حتى لو لم تسعفه النتائج أحيانا.
قد يكون من المبكر الجزم بأي شيء فيما يخص مستقبل دي زيربي في إنجلترا، لكن لو كان الرجل قد أسر عقلا مثل جوارديولا وهو لم يبدأ بعد في دك حصون البريميرليج بفلسفته الفاتنة، فما بالك حين يبدأ؟
_______________________________________________
المصادر: