معركة سِيس.. يوم هَزَم الظاهر بيبرس ملوك الأرمن عقابا على خيانتهم
عرف المسلمون ممالك الأرمن منذ فترات مبكرة من تاريخ الوجود الإسلامي في أعالي العراق وإيران. ومنذ عصر الفتوحات الإسلامية، زمن دولة الخلفاء الراشدين، بلغ المسلمون المناطق الواقعة تحت سيطرة ملوكهم، ولم ينقضِ عام 30 من الهجرة إلا وبلاد الأرمن تحت السيادة الإسلامية، وقد استمرت هذه السيادة حتى مجيء السلاجقة الذين اصطدموا بالبيزنطيين، حيث انضم لهم الأرمن في هذه المعركة.
وعقب انتصار السلاجقة وسيطرتهم على الأناضول، هرب قطاع كبير من الأرمن إلى جنوب ووسط الأناضول، وصارت ممالكهم في هذه المناطق شوكة في خاصرة الدول الإسلامية في الشام والأناضول. ففي المناطق الجنوبية الواقعة على خليج الإسكندرون، قامت مملكة أرمينيا الصغرى خلافا لأرمينيا الكبرى موطنهم الأصلي في أقصى شرق الأناضول، وعُرفت هذه المملكة باسم “قيليقية”، وهي مملكة سرعان ما عاودت سياسة التحالف مع الصليبيين والمغول، حتى أنزل بها بيبرس الهزيمة العسكرية.
ملوك الأرمن بين أفول العرب وصعود السلاجقة
أطلق المؤرخون العرب والمسلمون على هذه المنطقة عدة تسميات، منها “الدَرب” لوقوعها على الطريق الذي يصل بين مدينة طرطوس على ساحل البحر المتوسط وبلاد الروم عبر جبال طوروس، وسُميَت أيضا بـ”منطقة الثغور الشامية” لوقوعها على أطراف بلاد الشام من جهة الإمبراطورية البيزنطية المحاذية لها، حيث كانت مقرا للقوات الإسلامية لصد الغارات والهجمات البيزنطية، وكذلك أطلق العرب عليها تسمية “بلاد سيس”، نسبة إلى عاصمتهم سيس، التي تُعَد من أكبر المدن الأرمينية وتُسمى الآن “قوزان” وتقع في محافظة أضنة التركية، وكذلك سميت “بلاد التكفور”، حيث أطلقت المصادر العربية لقب “التكفور” على كل من اعتلى عرش أرمينيا الصغرى مثلما لُقّب الإمبراطور البيزنطي بالأشكري وملك الحبشة بالنَّجاشي[1].
خضع هذا الإقليم للدولة العربية الإسلامية منذ فتحه في القرن الأول الهجري/السابع الميلادي، وازدادت أهميته بعد الفتح لموقعه الإستراتيجي، إذ اهتم به الخلفاء والأمراء وأجروا فيه تحصينات وأصبح مستقرا للقوات الإسلامية لحماية حدود الدولة من الهجمات البيزنطية. وبعد 3 قرون من التبعية، بدأت الأوضاع في الإقليم تتغير تغيرا ملحوظا، حيث استغلت الإمبراطورية البيزنطية ضعف الدولة الإسلامية في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي الذي تزامن مع نهوض الإمبراطورية البيزنطية، فاستعاد الإمبراطور “نقفور” الثاني سيطرته على عدد من مدن قيليقية[2].
سرعان ما ظهر السلاجقة بصفتهم قوة إسلامية كبيرة وانتصروا على البيزنطيين في معركة ملاذكرد الشهيرة التي أُبيدت فيها القوات البيزنطية عن بكرة أبيها، وأُسِر فيها الإمبراطور “رومانوس ديوجين”. ونتيجة لهذه الظروف التي مرت بها المنطقة، وتحت وطأة الضغط البيزنطي والسلجوقي الذي عاناه الأرمن في أرمينيا الكبرى، هاجر عدد كبير منهم إلى وسط الأناضول وجبال طوروس لبُعدها عن خط توسُّع السلاجقة. وبعد ازدياد خطر السلاجقة وتهديدهم لوسط الأناضول، انتشر الأرمن في الجزء الجنوبي الشرقي من الأناضول. وعلى إثر ضعف الإمبراطورية البيزنطية في الربع الأخير من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، أخذ نفوذ الأمراء الأرمن الذين عيّنهم الأباطرة البيزنطيون حُكَّاما على الحدود الشرقية للإمبراطورية البيزنطية في الازدياد والتوسع، مؤسسين بذلك إمارات مستقلة أو شبه مستقلة عن سيادة الإمبراطورية البيزنطية[3].
أدّى الأرمن دورا مؤيدا للغزو المغولي لبلاد الشام عام 657هـ، فقد دعموهم بالمعلومات الاستخباراتية والحشد القتالي. وبعد سيطرة الدولة المملوكية على مصر وبلاد الشام بعد ذلك بعام واحد، بدأت أولى محاولاتهم في التحرش بالمماليك في سلطنة الظاهر بيبرس سنة 662هـ حينما أرادوا الاستيلاء على مدينة عِنتاب الإستراتيجية التابعة لولاية حلب آنذاك. وعلى وجه السرعة، وجَّه الظاهر بيبرس بسرعة بإرسال جيش يرد اعتداء قوات الأرمن، وتكوَّن الجيش المملوكي من حاميات مدينتَي حمص وحماة. ولما تقابل الفريقان سُحِق الأرمن، فاستنجد ملكهم “هيثوم” بالمغول الإيلخانيين الذين احتلوا العراق حينئذ منذ سقوط العباسيين، ونظرا لوجود حلف عسكري مشترك بينهما، أرسل إليه المغول نجدة عسكرية مكونة من 700 فارس، وتمكَّن بمساعدتهم من الانسحاب ثم محاصرة مدينة حارم شمالي حلب، غير أنه عاد قسرا إلى بلاده بسبب الثلج والمطر[4].
إستراتيجية بيبرس ضد الأرمن
في ذلك الوقت، كان السلطان بيبرس منخرطا في صراعات شرسة ضد أعداء كثيرين، وعلى رأسهم الإمارات الصليبية المتبقية من أنطاكية شمالا وحتى فلسطين جنوبا، التي لم يتمكن صلاح الدين الأيوبي وخلفاؤه من القضاء عليها. بخلاف مواجهة الغزو المغولي الشرس، لا سيما بعد معركة عين جالوت وما تلاها، كان المغول على ثأر مع المماليك للانتقام من هزيمتهم في الشام. ومثلما اتبع الظاهر بيبرس خطة واضحة المعالم أمام الصليبيين والمغول، وضع خطة جديدة لإضعاف وهزيمة ملوك الأرمن الذين مثَّلوا عامل خطر على الدولة المملوكية ورعايا المسلمين في مناطق شمال الشام وجنوب الأناضول.
كانت خطة بيبرس العسكرية تقوم على استنزاف الأعداء الثلاثة، وعدم إمهالهم الوقت، مع ممارسة اللعبة الدبلوماسية بذكاء، حيث يمنع بالتحركات والحصار العسكري اتصال واتحاد الأرمن والمغول والصليبيين في أي موقف من المواقف، لأنه أدرك أن اتحاد الأعداء الثلاثة سيكون وبالا على المماليك، ولذا تصارع معهم في جغرافيا مناسبة له، وفي التوقيت الذي رآه مفيدا له. وفي أعقاب استرداد قلعة صفد الإستراتيجية من الصليبيين، أمر بيبرس جيشه بالتوجه صوب سيس عاصمة الأرمن آنذاك، المدينة الحصينة الواقعة بين أنطاكية وطرسوس، فخرجوا من دمشق وعلى رأسهم الملك المنصور صاحب حماة، ودخلوا في الدروب شديدة الوعورة بجنوب الأناضول، وتمكنوا من الوصول إلى سيس، حيث التقوا بالجيش الأرمني على جبل مرتفع.
بعد معركة طاحنة، انهزم الأرمن، وأُسِر أحد أولاد الملك هيثوم، وهو الملك الجديد “ليفون”، وكان والده هيثوم قد ملَّكه وانقطع للترهُّب والعبادة في الجبال. وقد تمكَّن المماليك من قتل عدد من أولاد الملك هيثوم وإخوته وأمرائه، كما استطاعوا أن يدخلوا إلى العاصمة ويغنموا كل ما فيها. وفي ذلك يقول المؤرخ النويري في “نهاية الأرب”: “طلعت العساكر [الإسلامية] في رؤوس الجبال، فلما وقعت العين في العين أُسر الملك ليفون، وقُتل أخوه وعمه، وانهزم كُندا سطبل عمه الآخر، وأُسر ولده… وكان فيهم اثنا عشر ملكا تمزقوا كل ممزق، وقُتلت أبطالُهم”[5].
عاد الملك هيثوم من الجبال على إثر هذه الفاجعة وتشتت جنده وأسر ابنه، وقرر أن يُرسل وفدا دبلوماسيا على رأسه أخوه “فاسك” إلى السلطان بيبرس في القاهرة يرجو منه تحرير ابنه الملك ليفون. وحين التقى بيبرس بالوفد الأرمني وَعَده بإطلاق سراح الملك، لكن بشرطين أساسيين: أولهما أن يرسل الملك الأب هيثوم إلى إمبراطورية المغول لكي يُطلقوا سراح الأمير المملوكي سُنقر الأشقر، وكان من أصدقاء بيبرس المقربين الأقدمين (وقد حبسه الملك الناصر الأيوبي في قلعة حلب قُبيل الغزو المغولي للشام، فأُسر وبقي عند المغول في بلاد فارس). أما الشرط الثاني فأن يَرُد الملك هيثوم القلاع والحصون التي كانت تابعة إداريا لولاية حلب الكبرى الأيوبية، وخضعت فيما بعد للدولة المملوكية[6].
إذا تأملنا الشروط التي فرضها السلطان بيبرس على ملوك الأرمن، فسنرى أنه كان يرجو من ورائها ظهور الملك الأرمني وولده بمظهر المنهزم أمام حلفائه الأقوياء المغول لإطلاق سراح أمير مملوكي. أما الشرط الثاني فأراد منه بيبرس كسر شوكة ملوك الأرمن في مناطق شمال الشام وجنوب الأناضول بالسيطرة على هذه القلاع الإستراتيجية، بل وأن تصير هذه القلاع والحصون العسكرية الإستراتيجية بمثابة قواعد الهجوم الملائمة والسريعة للانقضاض على ملوك الأرمن في أي وقت، فيصبحوا تحت رحمة المماليك منذ هذه اللحظة.
وقد أبدى الملك هيثوم الأرمني موافقته على شرط السعي في إطلاق سراح الأمير سنقر الأشقر، وكذلك السعي في تنفيذ الشرط الثاني ظاهريا، ولكنه حين تسلم الأمير سُنقر الأشقر من المغول رفض الإذعان بردّ القلاع والحصون التي استولى عليها، بيد أن السلطان بيبرس حين أدرك مماطلته وابتزازه بالأمير سُنقر أرسل إليه في حزم قائلا: “إذا كنتَ تقسو على ولدك وولي عهدك فأنا أقسو على صديقٍ ما بيني وبينه نسب، ويكون الرُّجوع منك لا مني. ونحن خلف كتابنا، فمهما شئتَ افعل بسنقر الأشقر”[7]، وبالفعل، خاف الملك هيثوم على ولده، ولم يجد بُدّا من الإذعان للشرطين، وبدأت عمليات التسليم والتسلم بين الجانبين، وعاد سنقر إلى أحضان صديقه بيبرس الذي استقبله أفضل استقبال، وجعله أميرا من كبار أمرائه، كما تسلّم القلاع والحصون الإستراتيجية، ووَعَد السلطان بيبرس بتوقيع هدنة سلام بين الجانبين.
بيبرس يصل إلى “سيس”
أدرك بيبرس بذكائه العسكري، وإدراكه للخسائر الفادحة التي أنزلها المغول بالمسلمين في الأناضول وبلاد الشام بسبب المعلومات والدعم العسكري الذي أعطاه الأرمن للمغول، أن إعطاءهم هدنة طويلة الأمد لن يكون في صالحه ولا صالح دولته، ولهذا السبب، عقب هزيمة المماليك لقوات المغول عند نهر الفرات سنة 671هـ وشعور بيبرس بالأمان من ناحيتهم، أَمَر بخروج الجيش المملوكي المرابط في مدينة حلب للهجوم على بلاد الأرمن وإنزال هزيمة ماحقة بهم، فامتثلوا أوامر السلطان القادمة من القاهرة، وتعددت غارات المماليك العسكرية حتى وصلت إلى حدود مدينة مرعش في جنوب وسط الأناضول[8].
وقد كتب المؤرخ البريطاني “جيمس واترسون” أن السلطان بيبرس رأى تقاعس الملك ليفون أو ليو الأرمني عن إرساله معلومات استخباراتية مهمة عن المغول إلى القاهرة، كما رأى تهاونه في أداء الجزية والغرامات المالية التي فرضها المماليك على الأرمن بعد هزائمهم السابقة. وعلَّق “واترسون” على ذلك قائلا إنه “كان من الصعوبة بمكان على الملك ليو أن يفي بأيّ من تعهداته نظرا لأنه كان من رعايا المغول، وكانت لديه حامية مغولية لا تقل عن 20 ألف جندي موجودين فوق تُراب أرضه”[9]، بل وأكَّد “واترسون” أن بيبرس بَحَث عن خلق مسوّغات للقضاء على الأرمن حتى لا يكونوا عائقا عن هدفه الحقيقي بالسيطرة على الأناضول فيما بعد.
مهما كانت مسوِّغات بيبرس والمماليك، يمكننا أن نقرأ في هذه الأحداث أن هجوم العساكر الحلبية المملوكية أتى بمثابة إنذار لما هو قادم، أو ما يمكن تسميته بالمعارك التمهيدية، وقد تبع ذلك إرسال بيبرس من القاهرة الأميرين الكبيرين في الجيش المملوكي، “قلاوون الألفي” و”بَيليك الخازندار”، على رأس جيش قوي إلى مناطق أرمينيا الصغرى. وبدأ الهجوم الواسع على عدة مدن في أطراف مملكة الأرمن من أهمها المصيصة، ثم أتت المرحلة الثالثة والضربة الأكبر بمجيء السلطان بيبرس بنفسه على رأس جيش أكبر من الجيشين السابقين بغرض سحق الأرمن وضربهم ضربة مُدمِّرة. ونلاحظ أن هذا التكتيك العسكري القتالي اعتمده السلطان بيبرس في المواقع الكبرى، كما فعل ضد الصليبيين في معركة أنطاكيا من قبل.
وبالفعل نزل السلطان بيبرس بقواته إلى سِيس عاصمة الأرمن بعد أن دخلتها القوات المملوكية في 21 رمضان 673هـ/مارس 1275م، وقال المؤرخ “عز الدين بن شداد” في “تاريخ الملك الظاهر” إن السلطان حين نزل بقواته إلى العاصمة سيس “هدم قصور التكفور ومناظره (بيوت نُزهاته) وبساتينه…، وسُيِّر إلى طرسوس فأُحضر إليه منها ثلاثمائة رأس من الخيل والبغال، وبعث إلى البحر عسكرا، فأخذ مراكب وقتل من كان فيها. وانبثّت الغارات في الجبال فقتلوا وأسروا وغنموا”[10].
كانت هذه الضربة المملوكية لمملكة أرمينيا الصغرى هي القاضية والقاصمة لهم، فلم نرهم ثانية بقية عصر السلطان الظاهر بيبرس، الذي عزم كل العزم على تدمير كل من وقف أمام الدولة المملوكية ورعاياها، وخاصة إذا كانوا من الأعداء الكبار الذين أعانوا المغول على قتل المسلمين وكشفوا مكامن ضعفهم. غير أن الأرمن حاولوا بعد عِدة عقود تالية أن يستعيدوا سلطانهم، ولكن قوات المماليك أنزلت بهم هزيمة ساحقة نهائية سنتناولها بالاستعراض فيما بعد.
——————————————————————————
المصادر:
[1] أديب السيد: أرمينية في التاريخ العربي ص23 – 25.
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 7/254.
[3] أديب السيد: السابق ص213، 214.
[4] دائرة المعارف الإسلامية، ترجمة عبد الحميد يونس وآخرون 1/380.
[5] النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب 30/291.
[6] اليونيني: ذيل مرآة الزمان 4/5.
[7] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 2/51.
[8] ابن عبد الظاهر: الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر ص431.
[9] جيمس واترسون: فرسان الإسلام ص205، 206.
[10] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 2/90.