لماذا حصل فيلم “كل شيء كل مكان في الوقت ذاته” على 7 جوائز أوسكار؟
تصدّر فيلم “كل شيء، كل مكان، في الوقت ذاته” (Everything, everywhere, all at once) حفل توزيع جوائز الأوسكار الـ95، الذي أُقيم في ولاية لوس أنجلوس الأميركية فجر الاثنين الماضي، بعد حصده لـ7 جوائز، أبرزها جائزة أفضل فيلم في العام، فيما نال المخرجان “دانيال كوان” و”دانيال شنيرت” الشهيران بالثنائي “دانيلز” جائزتَيْ أفضل إخراج وأفضل سيناريو أصلي، وحازت بطلة الفيلم الماليزية “ميشيل يوه” جائزة الممثلة الأفضل في دور رئيسي، كي تصبح أول آسيوية تنال الجائزة في تلك الفئة، أمّا عن جائزتَيْ أفضل ممثل وممثلة في دور مساعد فقد انتزعها كلٌّ من “جوناثان كي كوان” و”جيمي لي كرتيس” على الترتيب، إضافة إلى حصول الفيلم على جائزة أفضل مونتاج.
يضع هذا الاحتفاء “كل شيء، كل مكان، في الوقت ذاته” على قدم المساواة مع أفلام خلابة نالت تقريبا العدد نفسه من جوائز الأكاديمية، مثل “شكسبير عاشقا” (Shakespeare in love)، “غاندي” (Gandhi)، و”الرقص مع الذئاب” (Dances with wolves)، رغم كونه فيلما من نوعية الإثارة والحركة التي لا تحصد عادة هذا الكم من الجوائز، فما الذي رأته الأكاديمية في العمل كي تراه الأفضل هذا العام؟
انتصار للباحثين عن الحلم الأميركي
يروي الفيلم أزمة أسرة آسيوية مهاجرة؛ إيفلين (ميشيل يوه) امرأة صينية في منتصف العمر، تدير مغسلة ملابس مع زوجها وايموند (جوناثان كي كوان)، والمغسلة تخضع للتدقيق الضريبي وعلى وشك الضياع، بينما علاقتها مع أفراد أسرتها متوترة؛ الزوج يرتّب خفية للانفصال، أو ربما يحاول عبر إشهار ورقة الطلاق أن يرغم إيفلين على سماع شكواه، الابنة جوي (ستيفاني هسو) تخوض علاقة لا تحظى برضا إيفلين، رغم محاولتها أن تتظاهر بالعكس وبتقبل الأمر، أمّا والدها جونغ” (جيمس هونج) فقد سبق أن طردها حينما أصرّت في صباها على الزواج من “وايموند”، وبعد سنوات لم تجد مفرًّا من استضافة الرجل مراعاة لعجزه ومرضه، نوعا من التزام البنوة لا أكثر، وليس عن محبة حقيقية من ابنة لوالدها.
في المصعد، وبينما “إيفلين” في طريقها لمقابلة موظفة الضرائب الصارمة “جيمي لي كرتيس”، تطرأ حالة غريبة على الزوج، لقد صار “وايموند” آخر، “وايموند” أتى من عالم موازٍ ويملك قدرات هائلة، يكشف عن نفسه ويحاول أن ينبه “إيفلين” إلى خطر يترصدها، يفتح “وايموند” أمام “إيفلين” أبواب الأكوان الموازية، حيث يمكن للشخص أن يرى حياته وقد اتخذت مسارات مختلفة، جراء اتخاذ قرار مغاير أو وقوع حادثة، وهنا تدرك “إيفلين” كيف يمكن أن تكتسب قدرة أو مهارة من ذاتها الموازية في عالم آخر.
في مكتب مدققة الضرائب ترتبك “إيفلين”، لغتها الإنجليزية ليست بالمستوى الملائم للتواصل، تسألها الموظفة: “لماذا لم تحضر ابنتها التي تتقن الإنجليزية؟”، الابنة التي تُمثِّل الجيل المولود فوق التراب الأميركي، ليس الجيل الدخيل الذي وطأ أميركا بعد اكتمال تكوينه. تنزعج “إيفلين”، تشعر أن الموظفة تتعمد الخشونة، ذلك الارتباك والخوف هو حال أغلب المهاجرين إلى أرض الأحلام.
حسنا، ربما يكون طرح الفيلم لتلك القضية هو أحد الأسباب التي أدت إلى فوزه بالجائزة، حيث اعتادت الأوسكار في السنوات الأخيرة الانحياز إلى أفلام تناقش قضايا الاضطهاد والملونين والمثلية الجنسية، حتى لو كان الأمر مقحما على الفيلم في بعض الأحيان. تحضر قضية المثلية في فيلم “كل شيء، كل مكان، في الوقت ذاته” أيضا وكأنها باتت سُلَّما للترشح للجوائز، وهو أمر مزعج إقحام مسائل ليست فنية ووضعها ضمن شروط الحكم على أي عمل فني.
لكن لحُسن الحظ، فإن الفيلم لم يعتمد فقط مناقشة قضية المهاجرين أو مسألة المثلية الجنسية طريقا إلى حصد الجائزة، فرغم كونه يوحي في افتتاحيته بكونه فيلما تجاريا من نوعية الإثارة والخيال العلمي، فإن السرد سرعان ما يتشابك ويتفرع كي يطرح أسئلة فلسفية شائكة في إطار فانتازي يُذكِّرنا بأعمال مماثلة، مثل سلسلة أفلام “ماتريكس” (Matrix) و”بين النجوم” (Interstellar)، وهي أعمال سبق أن اتخذت خلطة الخيال العلمي والإثارة كي تطرح أسئلة مماثلة.
حين يتحول الإنسان إلى صخرة
تتوالى الأحداث عبر ثلاثة فصول: “كل شيء”، “في كل مكان”، ثم “الكلّ في الوقت ذاته” أو “دفعة واحدة”، بينما نقف أمام علاقة ملتبسة بين ثلاثة أجيال؛ “غونغ” الوالد، و”إيفلين” التي تُمثِّل جيل الوسط، وأخيرا الابنة الشابة “جوي”.
هذا التتابع يُمثِّل حياة الإنسان الذي مارس كل الأشياء فوق كل بقعة وطأها في الأرض منذ وجوده، اختبر وتعلم وحاز درجة عالية من الوعي، ثم أضحى وعيه الزائد سلاحا ذا حدّين، يجرّده من العواطف بعد دفعه إلى تحليل أدق الأشياء، والنظر إلى فعل مثل المحبة بموضوعية فقط دون تذوق الأثر، وهو ما نجده في تفسير “دايموند” للقوة الخارقة المدمرة التي حازتها ابنته “جوي”، فالفتاة تستطيع أن تنتقل بين كلّ العوالم المتوازية، وبمقدورها تجربة كلّ الاحتمالات في اللحظة ذاتها، وما ينتج عن كل احتمال من مسار مختلف في الحياة، وفي الأخير صارت تؤمن بالعدم، بلا ضرورة الوجود، لقد تشبّعت بالمعرفة وأدركت مدى ضآلة الجنس البشري، وأن قطعة دقيق من الكعك المحلى “Donut” يمكن أن تصير ثقبا أسود يبتلع البشر، فما تلتهمه اليوم ربما يلتهمك غدا.
وفي أحد الأكوان الموازية، حيث لم تسمح الطبيعة بوجود الإنسان من الأساس، نرى الأم والابنة وقد تشكّلتا كصخرتين، تربضان فوق ربوة مطلّة على هوة سحيقة، وبينما تعتذر إيفلين عن إفسادها لكل شيء، تطالبها الفتاة بالصمت وأن تكون فقط صخرة، قبل أن تعقب قائلة: “لقد اعتقدنا قديما أن الأرض مركز الكون وعذّبنا وقتلنا مَن خالفنا الرأي، حتى اكتشفنا أن الأرض تدور حول الشمس وهناك مليارات من الشموس المماثلة. كل اكتشاف جديد مجرد تذكير بأننا صغار وأغبياء”.
يحمل الإنسان المعاصر عبء المعرفة، الأمانة التي أشفقت الجبال والأرض منها، لكن حضور المعرفة بمفردها دون العاطفة يتسبب في الخلل، تغدو الحياة خواء بلا معنى، والكوب الفارغ من المحبة يقينا سوف يمتلئ كراهية. ومثل هولر الذي نبذ عالمه في رواية “ذئب البراري” للكاتب الألماني هرمان هيسه، تقرر “جوي” الصخرة القفز إلى الهوة السحيقة. ربما هذا ما أراده صنّاع العمل من عنونة الفصل الأخير “الكلّ في الوقت ذاته”، الحل الذي يكمن في حضور الاثنتين، العاطفة والمعرفة معا، مثل كفتَيْ ميزان متعادل.
الدوران في العدم والوجود
في الواقع، يحضر الكعك الدائري المحلى “Donuts” رمزا رئيسيا في العمل. الكعك المصنوع لغرض واحد هو الأكل يُقدَّم باعتباره تجسيدا للعدمية، فيما يشير الفراغ في منتصفه إلى نقص أصيل يميز تلك الكعكة بين أنواع الخبز الأخرى ويمنحها الاسم الأميركي “دونات”، الدائرة الفارغة هي الأميركي المهاجر، ودون وجوده لم تكن أميركا لتتشكَّل بوصفها أرض الأحلام وتكتسب فرادتها. النقص هو ما يمنح الإنسان إحساسا بقيمة الأشياء في عصر الاستهلاكية، وفي الفكر البوذي الفراغ ليس علامة على العدمية واليأس، لكنه فرصة لترك الشر وراءنا والاعتزاز بالخير.
باطن الغسالة دائري ويبدو مثل فم عملاق في لقطة قريبة، كأنه يشير إلى ما يلتهم حياة “إيفلين” وعائلتها. المرآة في أول لقطة دائرية، المرآة التي تعكس صورة أسرة مبتهجة، لكن إيفلين تبدو فجأة كمَن يتذكر شيئا وتكتم ضحكاتها للحظات، ثم تمنع ابنتها عن الغناء باليد ذاتها، كأن “إيفلين” رغم قناع الحضارة والتربية الحديثة لا تزال أسيرة لتقاليد ترى عيبا في ابتهاج المرأة الزائد، ومثل دوران المرآة، تكتم “إيفلين” غناء الفتاة، ثمة رغبة في تواصل التقاليد من جيل إلى آخر، بينما في اللقطة ذاتها يبدو الزوج الشرقي مبتهجا دون أي اعتبار، في افتتاحية كاشفة لنفسيات الأبطال.
تظل الدوائر حاضرة في ثنايا الفيلم، ترسمها المدققة الضريبية في إشارة إلى فجوة أو تهرب، وتوجد مرآة أخرى دائرية تُظهر وجه إيفلين المنقسم بين عالمها الأساسي والأكوان الأخرى، تُعبِّر عن حالة لا نهائية من القلق وعدم التواصل بين الجسد والروح. كذلك هناك الأعين البلاستيكية “googly eyes” المرتبطة بالفكاهة والمرح، التي تصد عن البطلة طلقات الرصاص في أحد المشاهد. هكذا تصير الدائرة مدلولا على الفراغ والحضور في الوقت ذاته، النجاة أو الالتهام. والسير عبر دائرة لن يُفضي إلا للعودة إلى المكان ذاته، كأن أميركا التي تَعِدُ المختلفين بحقوق المواطنة لا تلبث أن تعيدهم مجددا إلى النقطة صفر.
أرجوك لا تفقد روح المغامرة
في الفيلم، نجد أن ثمة شفرة للانتقال بين العوالم المتوازية، ودوما ما تكون الإقدام على إتيان فعل غريب، كسر الاعتياد والروتين بأي طريقة وإن كانت تثير تقزز مَن حولك، وقد سمح هذا بخلق مواقف كوميدية في العمل، لكن بخلاف الإضحاك، أتت تلك المشاهد مثل دلالة على إمكانية تغيير الحياة، كأن في وسع المرء امتلاك قدرة خارقة حال التحلي بروح المغامرة وكسر نمطية العيش، كل مغامرة بمقدورها منح حياة جديدة وفتح مسار مغاير للإنسان.
وفي هذا السياق، يكمن سر اختلاف حياة الشخصية بين عالم وآخر موازٍ في الإقدام على اتخاذ قرار، العوالم المتوازية هي القرارات التي لم نتخذها وفضَّلنا عليها خيارات أخرى، وحياتنا هناك تسير في مجرى بعيد نظرا لذلك؛ هو تأثير الفراشة، كرة ثلج صغيرة تدور وتنتهي في السفح كجدار سامق، بينما لا يوجد فشل كلّي ولا نجاح تام، كلّ خيار في الحياة سوف يؤدي إلى نجاح ما وخسارة ما؛ “إيفلين” التي تفقد بصرها في طفولتها في أحد الأكوان تكتسب عوضا عنه صوتا عذبا وعلاقة جيدة بوالدها، بينما تدور أغلب الأحداث داخل مبنى الضرائب، في إشارة إلى أن لكل مكسب في الحياة ما يوازيه من ضريبة.
الكلب ومالك الحزين
تظهر إحدى الأفكار المثيرة للانتباه التي طرحها الفيلم حينما يريد الجدُّ “غونغ” قتل الحفيدة، واصفا إياها بأنها مصدر شرور. الجد صيني وفق الطراز القديم، والحفيدة الأميركية لم تنشأ وفق التقاليد والأصول. يضع سكينا في يد “إيفلين” كي تذبح “جوي”، ما تلك السكين؟ ربما المعتقدات والآراء التي تربّت وفقها “إيفلين”، التي لن تجد نفعا مع الجيل الجديد. لقد تربى جيل الوسط على الطاعة العمياء، وكان النفي هو الرد الطبيعي على الخروج عن الخطّ المرسوم، وبات لزاما أن تُنتزع الطاعة من الجيل الجديد بصورة مماثلة.
لكن الأم تتناول السكين بيد مرتجفة، وتمزق الشريط البلاستيكي الذي يربط “جوي” بالمقعد؛ ترفض التخلي عن الفتاة. لقد تخلّى الجد عن “إيفلين” في السابق، نبذها حين خالفت إرادته وتزوجت من “وايموند”، أما الأمومة المعاصرة فترغب في رأب الصدع، أزمة الآباء الحاليين كبيرة، يجب عليهم نسيان الصرامة التي تربوا وفقها، وانتهاج وسائل تربية تتماشى مع تطور معارف الإنسان؛ مأزق المعرفة والموروث مرة أخرى.
يحاصرها “غونغ” وجنوده، وتفرّ “إيفلين” مع الزوج و”جوي” داخل حجرة خفيّة، غرفة نجاة تكتشفها “إيفلين”، حين استطاعت أن تتفهم غرائز البشر في عالم آخر موازٍ، التفهّم ذاته الذي منحها النجاة فيما بعد حين طاردت ابنتها فوق درج الثقب الأسود. تحتاج الغرائز إلى التفهّم لا إلى القمع والتعامي.
داخل الغرفة تستعير “إيفلين” قدرات “إيفلين” أخرى من عالم موازٍ، تصير مغنية عمياء، تحظى بصوت عذب ومحبة أبيها، ثم تنطلق كي تواجه جنود “غونغ”، عساكر التقاليد والتربية البالية، مدافعة كأم عن حق ابنتها، بينما تتسلط الكاميرا فوق باب الغرفة الخفيّة، حيث اللوحة الزيتية “قتال الكلب ومالك الحزين” للرسام الهولندي أبراهام هونديوس. في اللوحة يمسك الكلب بساق الطائر بين فكيه، غير أن الطائر يتأهب لفقء عين الكلب، رأس الكلب ورأس الطائر في مستوى واحد، بغض النظر عن أن هذا يمشي وذاك يطير؛ النزاع غير محسوم، الجسد الممشوق للكلب يقع تحت ظلال رحابة أجنحة الطائر، ربما مَثَّل مالك الحزين المعرفة فيما الكلب يشير إلى الموروث، قد يسحق الموروث الساقين لكنه أبدا لن يمنع الجناحين عن التحليق، وربما لا يريد الطائر أن يصيب الكلب بالعمى الكلّي، فثمة فرصة للتعايش، بينما “إيفلين” كفيفة البصر تغنّي، سرعان ما تتلبس شخصية “إيفلين” أخرى تحمل ملصقا دعائيا لمتجر طعام، وتنقذ أفراد العائلة؛ الأمومة التي تهدهد وتُطعم وفق الموروث لا تزال قادرة على المساعدة، شريطة التفهّم.
الأداء والمونتاج.. قطط وسبع أرواح
إلى جانب الحبكة الممتازة، كان وضوح خصوصية كل عالم من الأكوان المتوازية إحدى مزايا العمل، خاصة أن الانتقال بين عالم وآخر يحدث بشكل سريع ومكثف، تلك الخصوصية التي تستلزم أداء تمثيليا متفردا من أبطال العمل، وقد كان ذلك واضحا لدى كل الأبطال الرئيسيين، وهو من النقاط التي أعطت الفيلم قوته.
قدمت “ميشيل يوه” أداء بديعا بينما تتنقل بين الشخصيات كأنها القطّ ذو الأرواح السبعة، واستطاعت أن تُجنِّب المشاهدين البلبلة والارتباك أو الخلط بين “إيفلين” عالم و”إيفلين” عالم آخر، بجانب تقديمها لشخصية “إيفلين” الرئيسية بشكل ممتاز، استطاعت من خلاله التعبير عن هواجس الأمومة ومشاعر الابنة وأزمة امرأة متزوجة في منتصف العمر.
وبالإضافة إلى قوة الأداء التمثيلي، كان المونتاج بطلا رئيسيا في دعم خصوصية كل عالم من العوالم المتوازية، وفي التنسيق بينها، ما خلق عوالم كاملة غير مملة أو مكررة، ومع مسحة الإثارة والمعارك الكثيرة اللافتة للانتباه، خلق ذلك درجة من الاتزان بين هدف الفيلم الرئيسي بوصفه فكرة عميقة عن العدمية وأحلام المهاجرين والخروج من الصندوق، وجانب الإمتاع بالمعارك وتنوع الأكوان بشكل لا يدفع للملل.