أنطوان لافوازييه.. العالم الفرنسي أبو الكيمياء الحديثة | الموسوعة
أنطوان لافوازييه، كيميائي وفيلسوف واقتصادي وعالم أحياء فرنسي، يعدّ أول من صاغ قانون حفظ المادة، الذي يعني أن كتلة المواد الناتجة عن تفاعل كيميائي تساوي كتلة المواد المتفاعلة، ويعد أيضا أول من تعرّف على عنصري الأكسجين والهيدروجين وسمّاهما بعدما درس تركيبة الماء، فدحض نظرية الفلوغيستون -التي كانت تتمحور حول عملية الاحتراق-، كما أسهم في تسمية العناصر الكيميائية فلقب بـ”أبو الكيمياء الحديثة”. أعدمه ثوار الثورة الفرنسية بالمقصلة عام 1794.
المولد والنشأة
ولد أنطوان لوران دو لافوازييه يوم 26 أغسطس/آب 1743 بالعاصمة الفرنسية باريس، وهو الابن الوحيد لعائلة برجوازية ثرية كانت تعيش في مدينة الأنوار. توفيت والدته سنة 1748 وهو في الخامسة من عمره، وورث منها ثروة كبيرة ساعدته في مجاله.
ومنذ صغره أظهر لافوازييه قدرات غير عادية وشغفا كبيرا بالدراسة والتعلم والاهتمام بالشأن العام كذلك، فدرس الكيمياء وعلم النبات وعلم الفلك والرياضيات وحتى القانون.
في العام 1771، تزوج لافوازييه ماري آن بيريت بولز، التي كانت تبلغ من العمر 14 عاما، وكان والدها يعمل في المؤسسة ذاتها التي كان يعمل فيها لافوازييه.
الدراسة والتكوين العلمي
بدا أنطوان لافوازييه مسيرته الدراسية بكلية “دي كاتر ناسيون” عام 1754، حيث درس الكيمياء وعلم النبات وعلم الفلك والرياضيات حتى عام 1761، الذي التحق فيه بجامعة باريس ودرس فيها القانون وتخرج عام 1763.
وكان لافوازييه يحضر محاضرات عامة وخاصة حول الكيمياء والفيزياء وعلم النبات، وعمل تحت وصاية علماء الطبيعة البارزين آنذاك في الفترة ما بين عام 1754 و1761، وظهر أول إصدار له في مجال الكيمياء عام 1764. وأثناء دراسته الجامعية عمل على دراسة جيولوجية منطقة الألزاس واللورين برعاية صديق والده هنري لويس دوهاميل دو مونسو عام 1767.
وعند الانتهاء من دراسته القانونية، قُبِل لافوازييه في نقابة المحامين (كان والده وجده لأمه عضوين فيها أيضا) التي كان أعضاؤها يترافعون عن القضايا أمام المحكمة العليا في باريس. ولكن بدلا من ممارسة القانون، بدأ لافوازييه في متابعة أبحاثه العلمية في مجال الكيمياء، والتي توجت عام 1768 بقبوله في أهم مؤسسة فرنسية للفلسفة الطبيعية، وهي أكاديمية العلوم في باريس.
وفي تلك الفترة لم يرزق بأبناء، فكرست زوجته نفسها لمساعدته في بحثه، ومع مرور الوقت، أصبحت مساعدة له في أعماله وأبحاثه، وترجمت العديد من الوثائق المكتوبة بالإنجليزية، على عكس زوجها الذي فشل في تعلمها.
ترجمت ماري مقال ريتشارد كيروان عن نظرية الفلوجيستون وأبحاث جوزيف بريستلي، كما أعدت العديد من الرسومات والنقوش لأدوات المختبر التي استخدمها لافوازييه وزملاؤه، وساهمت في كتابة ونشر مذكرات زوجها، وعملت على تنظيم لقاءات علمية شارك فيها علماء بارزون لمناقشة الأفكار والقضايا المتعلقة بمجال الكيمياء.
التجربة العلمية والعملية
منذ عام 1775، اشتغل لافوازييه في الإدارة الملكية للبارود، فساهم في تطوير إنتاج البارود الذي جعل فرنسا مكتفية ذاتيا من المواد العسكرية الهامة، كما عمل على تحسين مجال الكيمياء الزراعي من خلال ابتكار طريقة جديدة لإنتاج الملح الصخري بالبوتاس من منطقة الألزاس.
من جانب آخر، كانت دراسة لافوازييه القانون ذات أهمية بالغة في حياته، حيث دفعه ذلك إلى الاهتمام بالشأن السياسي للدولة الفرنسية، فحصل على وظيفة في إدارة الضرائب وهو في سن الـ26، وحاول إدخال إصلاحات في النظام النقدي الفرنسي والنظام الضريبي كذلك، وشارك في تطوير النظام المتري لإصلاح وتوحيد الأوزان والمقاييس في جميع أنحاء فرنسا.
حصل على ميراث كبير بعد وفاة والدته، فاستطاع تكوين ثروة كبيرة مكنته من إنشاء مختبر كبير مجهز بجميع المعدات التي كان يحتاجها في عمله وأبحاثه، وتمكن من شراء حصة في مؤسسة تحصيل الضرائب التي كانت لها شراكة مع الحكومة الملكية لتحصيل بعض ضرائب المبيعات والمكوس مثل تلك المفروضة على الملح والتبغ.
وقضى لافوازييه وقتا طويلا في إدارة تحصيل الضرائب، وحصل على مكافآت سخية على جهوده، وعلى الرغم من أن الكيمياء كانت شغفه، فإنه كان يخصص وقتا كبيرا من حياته للشؤون المالية والإدارية.
نظرية احتراق الأكسجين
كانت نظرية احتراق الأكسجين لأنطوان لافوازييه نتيجة سلسلة أبحاث علمية شاقة ومتواصلة بهدف صياغة نظرية كيميائية تجريبية ترتكز بشكل أساسي على الاحتراق والتنفس والتكلس (عملية تتعرض فيها عينة صلبة لدرجات حرارة عالية في وجود أو عدم وجود الأكسجين)، وهذه النظرية تخالف نظرية فلوجستون التي تفترض أن الاحتراق يحدث بسبب وجود عنصر قابل للاشتعال في كل المواد اسمه “فلوجستون”.
ولهذا كان الأمر حينها يتطلب توفير أدلة قوية لدعم نظرية جديدة أكثر من مجرد إظهار أخطاء وأوجه قصور نظرية فلوجستون السابقة، ومع بداية سبعينيات القرن الـ18 وحتى عام 1785، عندما طبقت آخر الأبحاث من النظرية، أجرى لافوازييه ومعاونوه مجموعة واسعة من التجارب المصممة لإحراز تقدم في العديد من النقاط على مستوى أبحاثهم.
وقد ركزت أبحاث لافوازييه في أوائل السبعينيات على الوزن المكتسب والضائع أثناء عملية التكليس، وقد كان من المعروف أنه عندما تتحوّل المعادن إلى مسحوق (كالكلس)، كان وزن المسحوق أكبر من وزن المعدن الأصلي، بينما عندما يتم تحويل المسحوق إلى معدن ينخفض وزنه.
نظرية فلوجستون لم تأخذ تغييرات الوزن بعين الاعتبار، لأنه لا يمكن عزل النار ووزنها، لذا افترض لافوازييه إمكانية تثبيت الهواء وتحريره وليس النار، وأنه المتسبب في التغيرات الملحوظة على مستوى الوزن، وهذه الفكرة حددت مسار أبحاث لافوازييه في السنوات الموالية.
واجه لافوازييه بعد ذلك ظواهر ذات صلة بأبحاثه كانت تستلزم شرحا وتفسيرا، مثل الأحماض المعدنية التي صنعت عن طريق حرق الكبريت في النار ثم خلط المسحوق الناتج مع الماء، وقد توقع لافوازييه في البداية أن الكبريت يتحد مع الهواء في النار، وأن الهواء هو سبب الحموضة، ولم يكن واضحا على الإطلاق نوع الهواء الذي يجعل الكبريت حمضيا.
ازدادت المشكلة تعقيدا بسبب الاكتشافات المتزامنة من باحثين بريطانيين لأنواع جديدة من الهواء داخل الغلاف الجوي. وقاد هؤلاء الباحثون جوزيف بريستلي، الذي ساعد لافوازييه على كشف لغز الأكسجين، على الرغم من التزامه الصارم ودفاعه عن نظرية فلوجستون، فقد استطاع عزل الأكسجين في أغسطس/آب 1774 بعد التعرف على العديد من الخصائص التي ميزته عن الهواء الجوي.
وفي ذلك الوقت، كان لافوازييه وزملاؤه في باريس يجربون مجموعة من التفاعلات المتطابقة ذاتها التي كان بريستلي يدرسها، لكنهم فشلوا في ملاحظة الخصائص الجديدة للهواء الذي جمعوه.
وعندما زار بريستلي باريس في وقت لاحق من ذلك العام، وفي مأدبة عشاء أقيمت على شرفه في أكاديمية العلوم أبلغ زملاءه الفرنسيين بخصائص هذا الهواء الجديد، فسارع لافوازييه بالعودة إلى مختبره وكرر التجربة، ووجد أنها أنتجت بالضبط نوع الهواء الذي يحتاجه لإكمال نظريته، فسمى الغاز الذي توصل إليه بالأكسجين ووصفه بأنه مولد الأحماض، وقد سمح له هذا الاكتشاف بشرح التغييرات الكمية والنوعية التي تحدث أثناء عملية الاحتراق والتنفس والتكلس أيضا.
قانون حفظ المادة
تُعد تجارب لافوازييه من بين أولى التجارب الكيميائية الكمية التي أجريت على الإطلاق، وبسببها استطاع نقل الكيمياء التي كان يُنظر إليها باعتبارها مجموعة من الممارسات المتعلقة بتحويل المواد والمعادن ذات البعد الرمزي والهدف الروحي إلى الكيمياء بمفهومها الحديث التي يرجع له الفضل في تأسيسها.
واستطاع إثبات أن المادة تتغير في حالة التفاعل الكيميائي، لكن الكتلة الكلية للمواد المتفاعلة والمنتجات تظل كما هي من بداية التفاعل إلى نهايته، وقد كانت هذه التجارب براهين على أساس قانون حفظ المادة. كما درس لافوازييه أيضا تركيبة الماء، وأطلق على مكونيه اسمي “الأكسجين” و”الهيدروجين”.
لافوازييه قائد الثورة الكيميائية
في تاريخ علم الكيمياء، يوصف لافوازييه بكونه “قائد الثورة الكيميائية” في القرن الـ18، ويعد أحد مؤسسي الكيمياء الحديثة، وقد ارتكزت تجاربه وأعماله على الشرح والقياس والبرهان، ورفعت أبحاثه ونظرياته علم الكيمياء إلى مستوى علم صارم ودقيق.
كان لافوازييه شخصا ثريا وراقيا وطموحا للغاية، وساهمت إنجازاته العلمية بشكل كبير في تأسيس علم الكيمياء الحديث، ولهذا كان الذين عملوا معه يحترمونه ويوقرونه بشكل كبير ويتخذونه قدوة، فقد ساهمت إنجازاته العلمية في خلق ثورة كيميائية غيرت حياة البشرية خلال القرن الـ18.
إلى جانب ذلك، يعد أنظوان لافوازييه محظوظا بشكل كبير، لأن مساهماته الكبيرة في الثورة الكيميائية جاءت قبل سنوات قليلة من الاضطرابات التي عاشتها فرنسا إبان الثورة سنة 1789.
وبحلول عام 1785، اكتسبت نظريته الجديدة عن الاحتراق دعما كبيرا، وتبناها باقي العلماء بسرعة، وبدأت الحملة لإعادة بناء الكيمياء وفقا لمبادئها، ولتعزيز هذا الدعم الواسع لنظريته الجديدة، وضع لافوازييه تكتيكا وطريقة جديدة تتعلق بصياغة تسمية للمواد الكيميائية.
وفي عام 1787 نشر لافوازييه و3 من زملائه أساسيات جديدة لتسمية المواد الكيميائية، وسرعان ما قُبلت على نطاق واسع، ويرجع الفضل في ذلك بشكل كبير إلى شهرة لافوازييه باعتباره باحثا وعالما كبيرا، وأيضا للسلطة الثقافية لباريس وشهرة أكاديمية العلوم الفرنسية، ولا تزال هذه الأساسيات هي طريقة التسمية الكيميائية المستخدمة إلى اليوم.
بعد ذلك بعامين، نشر لافوازييه مقالا في الكيمياء يصف فيه الأساليب الدقيقة التي يجب على الكيميائيين استخدامها عند البحث في مواضيعهم وتنظيمها وشرحها، وقد كان ذلك تتويجا لأعمال وإنجازات بحثية كثيرة عملت على إعادة صياغة الكيمياء علما حديثا.
إعدام لافوازييه بعد الثورة الفرنسية
عندما بدأت الثورة الفرنسية عام 1789، رأى لافوازييه (كان يشغل منصب مدير الإدارة الملكية للبارود) مثل العديد من الإداريين ذوي التفكير الفلسفي، أن الثورة فرصة لترشيد وتحسين سياسة الدولة الفرنسية واقتصادها، لكن منسوب هذا التفاؤل سرعان ما انخفض بسبب الاضطرابات وأعمال العنف التي عرضت الدولة الفرنسية للخطر.
واستمر لافوازييه في تقديم المشورة للحكومات الثورية بشأن التمويل والمسائل الأخرى، ولم يفكر في الهروب لا هو ولا زوجته خارج فرنسا، خاصة عندما انقلب الغضب الشعبي على أولئك الذين مارسوا السلطة وتمتعوا بامتيازات اجتماعية في ظل النظام الملكي الذي كان يحكم البلاد.
ومع مرور الوقت أصبحت الثورة أكثر راديكالية وتميل بشكل متزايد إلى العنف، وبدأ قادتها ينهجون سياسة التخويف والترهيب للسيطرة على الحكم في البلاد، ومن جانبه استمر لافوازييه في الدفاع عن أكاديمية العلوم الفرنسية وعن أعضائها وضرورة حمايتهم، لأنهم كانوا مخلصين للدولة الفرنسية التي لم تكن في غنى عنهم.
لكن خطاب لافوازييه لم يجد أذانا صاغية خاصة من طرف الثوار، وسرعان ما وجد نفسه مسجونا مع أعضاء آخرين من مؤسسة تحصيل الضرائب من أجل “تطهير الجمهورية الفرنسية من ماضيها الملكي”.
وأثناء محاكمته تدخلت زوجته لطلب العفو عنه، لكن أحد المسؤولين بقاعة المحكمة رد بكلام قاس عدّ “وصمة عار” في تاريخ الثورة الفرنسية “لا حاجة للجمهورية لا بعلماء ولا بكيميائيين، قرار المحكمة لا يمكن أن يؤجل”.
وفي مايو/أيار 1794، أعدم لافوازييه بالمقصلة رفقة والد زوجته، و26 من رموز النظام القديم، واعترافا بمكانته العلمية، علق أحد معاصريه من العلماء، وهو جوزيف لويس لاغرانج، قائلا “لقد استغرق الأمر منهم (الثوار) لحظة واحدة لقطع رأس لافوازييه، لكن مئة عام لا تكفي لإيجاد شخص مثله”.