من سيلفرجيت إلى بنك وادي السيليكون.. هل يتسبب انهيار بنوك التقنية في أزمة مالية عالمية؟
في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، انهارت إمبراطورية رائد الأعمال الشاب سام بانكمان-فريد، وهي إمبراطورية تأسست على منصة “FTX”، ثاني أكبر منصة تداول عملات مشفرة في العالم، التي أعلنت إفلاسها وخسرت مليارات الدولارات في غضون أيام قليلة. (1) حينها انهار عالم الكريبتو (التشفير) أكثر، ليكمل أحداث سنة صعبة على الصناعة، وليفقد كثير من المتداولين ثقتهم في العملات المشفرة بالكامل. والآن تستمر تبعات انهيار منصة “FTX” والخسائر الضخمة التي تكبدها السوق، وهذه المرة مع انهيار بنك “سيلفرجيت” (Silvergate)، وهو أقدم وثاني أكبر بنك يخدم صناعة العملات المشفرة.
يوم الأربعاء الماضي، الموافق 8 مارس/آذار، أعلنت الشركة القابضة “سيلفرجيت كابيتال” عن تصفية بنكها “سيلفرجيت” وإنهاء أعماله، إذ ذكرت الشركة في بيانها: “في أعقاب آخر تطورات الصناعة واللوائح التنظيمية، ترى سيلفرجيت أن الإنهاء التدريجي المنظم لعمليات البنك والتصفية الطوعية هما أفضل مسار للمُضي قُدما”. ما تعنيه الشركة بجملة “آخر تطورات الصناعة” بالطبع هو انهيار إمبراطورية “FTX”، والخسائر الناتجة عنها. (2)
امتلك سام بانكمان-فريد شركتَيْ “FTX” وألاميدا ريسرش، وكان أحد أهم وأكبر عملاء بنك “سيلفرجيت” منذ بدايات تأسيس شركاته، وفي بداية شهر فبراير/شباط الماضي فتحت وزارة العدل الأميركية تحقيقا في دور بنك “سيلفرجيت” فيما حدث من تبادل للأموال بين الشركتين، وهي العملية التي كانت أساس انهيار إمبراطورية سام بانكمان-فريد. (3)
بمجرد انهيار إمبراطورية بانكمان، أصبح من الواضح أن بنك “سيلفرجيت” يعاني بشدة. في يناير/كانون الثاني، قرر البنك تسريح 40% من قوته العاملة، وقبل ذلك في الربع الأخير من العام الماضي أعلن عن خسارة صافية تقارب مليار دولار، بعد خوف عملاء البنك من أحداث منصة “FTX”، واندفاعهم لسحب أموالهم بما يُقدَّر بنحو 8.1 مليارات دولار لتنخفض ودائع البنك بنسبة 68% وتصل إلى 3.8 مليارات دولار في غضون 3 أشهر فقط، في نموذج واضح للذعر المصرفي. ولكي يغطي البنك عمليات السحب المفاجئة اضطر لبيع أصوله التي يملكها، ومنها سندات الخزانة بقيمة 5.2 مليارات دولار، وبهذا تكبد خسائر ضخمة مع انخفاض حاد في رؤوس أمواله.
كما اتجه البنك إلى اقتراض 4.3 مليارات دولار إضافية من البنك الفيدرالي للإقراض العقاري، وهو ما أثار تخوفات بعض المشرّعين في أميركا من دخول مخاطر سوق العملات المشفرة إلى النظام المصرفي التقليدي. وربما ما نشهده حاليا هو دليل على ما يمكن أن يحدث حال أفرطت البنوك في الاعتماد على قطاع متقلب جدا ومحفوف بالمخاطر مثل قطاع العملات المشفرة. (4)
رحلة سيلفرجيت.. من التمويل العقاري إلى العملات المشفرة
لم يبدأ بنك “سيلفرجيت” في قطاع العملات المشفرة، لكنه بدأ بنكا متخصصا في التمويل العقاري. وفي يناير/كانون الثاني عام 2014، دخل البنك إلى عالم البتكوين، وكان عاما من الأعوام المتقلبة المعتادة في أسعار العملة المشفرة، ولذا فإن معظم الشركات التي ظهرت حينها لتقدم الخدمات إلى هذا القطاع الناشئ كانت تعاني من أجل إيجاد حسابات مصرفية ثابتة تستطيع استخدامها في تحويل العملات المشفرة إلى دولارات.
وهنا لاحت أمام “سيلفرجيت” فرصة كبيرة في هذا القطاع في وقت لم تكن معظم البنوك الأخرى راغبة حتى في الاقتراب منه، بل إنها كانت تغلق حسابات العملاء من الأفراد إذا وجدت أنهم ينقلون الأموال من أو إلى منصات تداول العملات المشفرة. رأى بنك “سيلفرجيت” في هذا الوضع فرصة يمكن استغلالها، ليصبح بالنسبة للعديد من شركات العملات المشفرة واحدا من المصادر القليلة -إن لم يكن المصدر الوحيد- التي توفر دخول وخروج الدولارات بسهولة.
عادة ما تُمثِّل عمليات بيع وشراء العملات المشفرة بالدولار إزعاجا لمَن يتداولون في تلك العملات، وخاصة الشركات أو المنصات المتخصصة في تداول وتحويل العملات المشفرة، مثل منصة “كوينبيز” (Coinbase) ومنصة “FTX”. ففي حين أن تداول تلك العملات المشفرة يُعَدُّ نشاطا عالميا يحدث على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، فإن الشراء والبيع بعملة الدولار يتطلب استخدام النظام المالي التقليدي، الذي يكون بطيئا، لأنه يتقيد بمواعيد عمل رسمية للبنوك، كما يخضع للرقابة والتنظيم والقوانين المختلفة. أحد الحلول هو إيداع الدولارات في منصة تداول عملات مشفرة، يمكن أن تضع ثقتك بها، واستخدامها في شراء وبيع العملات المشفرة بالدولار. ولكن الخطر يأتي من احتمال أن تفقد تلك المنصة أموالك أو تسرقها وتتصرف فيها كما تشاء، كما حدث في حالة سام بانكمان-فريد.
هناك حل آخر لهذه المشكلة، وهو استخدام العملات الرقمية المستقرة (stablecoins)، التي من المفترض أن تساوي دائما دولارا واحدا، لشراء وبيع العملات المشفرة بدلا من استخدام عملة الدولار العادية. ومع ذلك، يتطلب هذا أيضا الوثوق بمصدر العملة المستقرة نفسه. لكن العامل المشترك بين الأمرين أن تسهيل هذا النوع من المعاملات يتطلب وجود بنك صديق للعملات المشفرة، وبالنسبة للعديد من بورصات ومنصات تداول تلك العملات في أميركا فإن هذا البنك كان بنك “سيلفرجيت”، الذي قدم شبكة المدفوعات الخاصة به (Silvergate Exchange Network) لتسهيل تحويل العملات المشفرة من وإلى الدولار، مما يسمح بإجراء معاملات سهلة بين الحسابات البنكية على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع. (5)
في ضوء ذلك يمكننا فهم تأثير أزمة “سيلفرجيت” على صناعة العملات المشفرة بأكملها، لأنه بالأساس لا توجد بنوك كثيرة تقدم تلك الخدمات، ففي أميركا مثلا يوجد بنك آخر يقدم هذه الخدمات نفسها وهو “بنك سيجنتشر” (Signature Bank)، وفي ديسمبر/كانون الأول أعلن أنه سيقلص ودائعه المرتبطة بالعملات المشفرة بنحو 8-10 مليارات دولار فقط، مما يشير إلى ابتعاده أكثر عن صناعة العملات المشفرة. (6)
أزمة بنوك التقنية
صناعة التقنية في وضع لا تُحسد عليه الآن، فبعد إعلان تصفية بنك “سيلفرجيت” بيومين تقريبا، جاء يوم الجمعة الماضي، الموافق 10 مارس/آذار، ليشهد انهيار بنك آخر يركز على إقراض شركات التقنية الناشئة في وادي السيليكون، معقل شركات التقنية الأميركية، وهو بنك مجموعة سيليكون فالي المالية (SVB Financial Group)، الذي يُعَدُّ أكبر بنك ينهار منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، وهو انهيار مفاجئ بدأ يُلقي بظلاله على الأسواق العالمية، وخاصة على أسواق أسهم البنوك، حيث خسرت البنوك الأميركية أكثر من 100 مليار دولار من قيمتها في سوق الأسهم، وتراجعت أسهم البنوك في أوروبا بصورة حادة لتخسر نحو 50 مليار دولار. (7)
كان بنك “SVB” يُصنف في المرتبة 16 في الولايات المتحدة بنهاية العام الماضي، بأصول بلغت نحو 209 مليارات دولار. هناك عدة أسباب تضافرت لتُسبِّب انهيار البنك الذي يتركز على قطاع التقنية، لكن السبب الأوضح هو خطوات البنك الفيدرالي الأميركي العنيفة نحو رفع أسعار الفائدة منذ العام الماضي، التي دمرت بيئة عمل الشركات الناشئة التي يخدمها البنك بالأساس.
واجه بنك “SVB” الأزمة نفسها التي واجهها بنك “سيلفرجيت”، وهي الذعر المصرفي، إذ يواجه عملاء البنك السابقون، سواء كانوا منصات تداول العملات المشفرة أو شركات تقنية ناشئة، تحديات وأزمات مالية ضخمة هذه الأيام. ولهذا اتجهوا لسحب أموالهم بسرعة من البنوك، ومع ارتفاع نسبة الفائدة أصبحت أصول البنك في خطر، لأنها تُباع بأقل من قيمتها، ولهذا يخسر البنك أمواله.
وكما أعلن “سيلفرجيت” عن خسارة مليار دولار من بيع الأصول في الربع الأخير من العام الماضي، خسر بنك “SVB”، الذي يملك ميزانية عمومية أكبر، نحو 1.8 مليار دولار أثناء تصفية أصوله. في كلتا الحالتين، شكَّلت سندات الخزانة الأميركية جزءا كبيرا من عمليات التصفية الخاسرة.
لكن رغم حالة الذعر في وول ستريت، ذكر المحللون أن انهيار بنك “SVB” لن يؤدي غالبا إلى إطلاق ما يشبه تأثير أحجار الدومينو الذي اجتاح الصناعة المصرفية خلال الأزمة المالية العالمية في 2008، وذلك “لأن النظام المصرفي يتمتع بالسيولة ورأس المال أفضل من أي وقت سابق، والبنوك التي تعاني الآن أصغر بكثير من أن تُشكِّل تهديدا حقيقيا للنظام بأكمله”، وفق توصيف وكالة “موديز”. (8)
لكن انهيار بنوك تدعم التقنية، مثل بنك “سيلفرجيت” وبنك “SVB”، قد يُسبِّب أزمات أكبر في صناعة التقنية، مثل استمرار تعثر الشركات الناشئة ماليا، والمزيد من عمليات تسريح الموظفين المستمرة منذ فترة في قطاع التقنية، وانهيار أكبر في قطاع العملات المشفرة، وغيرها من الأزمات. وعلى ما يبدو فإننا سنشهد أزمة محتملة قادمة قريبا لصناعة التقنية كلها، لأن التمويل بدأ يتراجع من الأساس بسبب الأزمة الاقتصادية ورفع أسعار الفائدة، والآن مع انهيار تلك البنوك لن تجد شركات التقنية حلولا أخرى سوى تقليل إنفاقها أكثر، أو أن تُنهي أعمالها بالكامل!
————————————————————–
المصادر:
1) سام بانكمان وFTX.. كيف تخسر 16 مليار دولار في أسبوع واحد فقط؟
2) Silvergate Capital Corporation Announces Intent to Wind Down Operations and Voluntarily Liquidate Silvergate Bank
3) Silvergate Faces US Fraud Probe Over FTX and Alameda Dealings
4) Crypto-focused bank Silvergate is shutting operations and liquidating after market meltdown
5) Silvergate Had a Crypto Bank Run
6) Signature Bank to Reduce Crypto-Tied Deposits by as Much as $10 Billion
7) SVB is largest bank failure since 2008 financial crisis
8) How does a bank collapse in 48 hours? A timeline of the SVB fall