حرب الكلمات بين بايدن وبوتين.. كيف نستشرف المستقبل بتحليل خطاب الرؤساء؟ | آراء
يؤثر الخطاب السياسي للرؤساء على العلاقات الدولية، ويمكن أن نكتشف عبر تحليله احتمالات المستقبل، فالكلمات التي يستخدمها الرؤساء تحمل كثيرا من الدلالات، وتشكل الأطر التي تعمل وسائل الإعلام على دفع الجماهير لتفسير الأحداث من خلالها. لذلك، شهد العالم صداما بين بايدن وبوتين باستخدام الخطابات في نهاية العام الأول للحرب الروسية الأوكرانية.
اتفاق بين الرئيسين
لاحظ باتريك ونتور -المحرر الدبلوماسي لصحيفة “غارديان” (The Guardian) البريطانية- أن هناك اتفاقا بين الرئيسين على أن الحرب أصبحت معركة وجود بين روسيا والغرب، فلم تعد قاصرة على الحدود الأوكرانية، وأنهما ربطا المستقبل بنتائج هذه الحرب.
لكن نقاط الخلاف بينهما كانت متعددة، إذ يرى بوتين أن الحرب دفاع عن حق روسيا في الوجود، بينما يرى بايدن أنها معركة من أجل الحرية، وهذه الكلمة يفضل بايدن استخدامها بدل الديمقراطية.. لماذا؟
حاول بايدن -في خطابه- نفي الحجة التي يستخدمها بوتين في تبرير حربه على أوكرانيا، بقوله إن الغرب لم يتآمر للهجوم على روسيا، فلم تكن هناك ضرورة لقيام بوتين بشن عدوانه على أوكرانيا.
وأضاف بايدن أن الغرب لم يتم اختباره، وأن روسيا لن تنتصر، واتهم بوتين بأنه ارتكب جرائم ضد الإنسانية، لذلك يجب إسقاطه.
الغرب ينتهك القيم الأسرية
فتح خطاب بوتين أفاقا جديدة في الصراع بين روسيا والغرب، إذ هاجم الغرب الذي انتهك القيم الأسرية، واتهم أميركا بأنها تستخدم لغة الديمقراطية الليبرالية لفرض القيم الشمولية.
لكن بوتين لجأ إلى استخدام كلمات غامضة تثير خوف الغرب من استخدام الأسلحة النووية، ثم أعلن انسحاب روسيا من معاهدة “نيو ستارت” (New START).
أما بايدن، فأكد أن الاقتصاد الروسي سوف ينهار بسبب العقوبات التي فرضها الغرب، ورد بوتين على ذلك بأن الاقتصاد الروسي يزدهر بسبب الاكتفاء الذاتي الذي يعتمد على المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والتصدير للأسواق الجديدة.
حرب الكلمات تتطور بين الرئيسين
يوضح ذلك أن العالم يشهد حربا باستخدام الخطاب السياسي، وأن أساليب الصراع باستخدام الكلمات تتطور، وهذه الحرب يمكن أن تتحول إلى حرب فعلية، بين روسيا وأميركا، وأن هناك احتمالات لاستخدام القوة النووية.
لكن هذه الحرب يمكن أن تشمل كثيرا من الأطراف، فلا تقتصر على روسيا وأميركا، إذ طالب بايدن دول العالم بأن تتوحد دفاعا عن أوكرانيا وعن الديمقراطية العالمية، وعن المدنيين الذين يتعرضون للإبادة، بينما وصف بوتين أوكرانيا بأنها “نظام نازي جديد”.
بذلك دخلت مفاهيم “الديمقراطية” و”النازية” مجال الصراع، ففي الوقت الذي يبرر فيه بايدن الحرب على روسيا بالدفاع عن الديمقراطية العالمية، يستخدم بوتين القضية نفسها في تبريره الحرب على أوكرانيا التي يصفها بالنازية.
لذلك قالت “واشنطن بوست” (Washington Post) إن بايدن وبوتين يحاولان تصوير الحرب على أنها صراع بين الديمقراطية والأوتوقراطية، وحاول بايدن أن يشكل حلفا يضم دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) وكل الديمقراطيات.
هل يستجيب العالم لبايدن؟
وجه بايدن سؤاله للعالم: هل نستجيب أم نوجه وجوهنا إلى الناحية الأخرى؟ ثم أجاب عن سؤاله بقوله “الآن نعرف الإجابة، وهي أننا استجبنا، وأننا أقوياء ومتحدون، وأن العالم لن ينظر إلى الناحية الأخرى”.
تعليقا على ذلك، قالت واشنطن بوست إن “بايدن انتهز الفرصة لخلق التناقض مع بوتين، حيث انتقده وسخر منه، فوصفه بأنه قائد فاشل أساء حساباته، وأنه من أجل الرب، يجب ألا يبقى هذا الرجل في السلطة”.
أما بوتين، فإنه دافع عن روسيا بأنها ليست دولة أوتوقراطية، وأنها لم تهاجم دولة جارة، لكن أوكرانيا كانت ضحية للولايات المتحدة والغرب، إنه خطأ أميركا.
وأضاف أن أميركا والغرب “هم الذين بدؤوا الحرب، ونحن استخدمنا القوة، ومستمرون في استخدامها لوقف ذلك”، كما اتهم بوتين التحالف الغربي بمساعدة أوكرانيا على استخدام المسيرات لمهاجمة القواعد الجوية الروسية التي تحتوي على قنابل إستراتيجية، وهي جزء من قوة روسيا النووية. وأردف أنه “إذا كانت أميركا تختبر قوتنا، فنحن سوف نفعل!”، فماذا يقصد بوتين بهذه الكلمات ذات الدلالات الخطيرة، فمن المؤكد أن ذلك تهديد غير مباشر باستخدام القوة النووية.
لذلك أشارت واشنطن بوست إلى أن خطاب بوتين يتعدى حدود الحرب الأوكرانية، فهو يتهم الغرب بالتآمر لتدمير روسيا التي تعتبر نفسها قوة عظمى مستقلة.
مرحلة جديدة في حرب طويلة
وصفت واشنطن بوست خطابي بايدن وبوتين بأنهما بداية مرحلة جديدة يتصاعد فيها الصراع بين روسيا والغرب، فمستقبل بايدن السياسي يعتمد على نتيجة الحرب في أوكرانيا، لذلك كان خطابه في وارسو يشكل بداية لرحلته الدرامية المفاجئة لكييف.
بعد عودته من هذه الرحلة، قال بايدن “لقد عدت من رحلتي إلى كييف، التي تقف فخورة وشامخة ومهمة وحرة”، وإن التحالف الغربي يتعرض للاختبار خلال الشهور المقبلة. فماذا يعني ذلك؟ وما الاختبار الذي يتعرض له الغرب؟
يجب أن نفتح أعيننا
أضاف بايدن -بعد عودته- أنه “يجب أن نكون أمناء، ونفتح أعيننا جيدا لنرَ ما يمكن أن يحدث خلال العام المقبل، فالدفاع عن الحرية لا يتم في يوم أو عام، إنه دائما صعب، وأوكرانيا تستمر في الدفاع عن نفسها ضد الروس، لذلك سنشهد أياما مريرة وصعبة”.
هكذا أوضح بايدن أن الحرب في أوكرانيا سوف تستمر خلال العام المقبل، وكرر اتهاماته لروسيا بأنها ترتكب جرائم ضد الإنسانية بدون خجل، إذ تستهدف المدنيين، وتستخدم اغتصاب النساء كسلاح في الحرب، وتسرق الأطفال الأوكرانيين في محاولة لسرقة المستقبل الأوكراني.
هل تنتقل الحرب إلى بولندا؟
لكن لماذا اختار بايدن أن يبدأ رحلته من بولندا ويلقي خطابه فيها؟ فسر ذلك الرئيس البولندي -في خطاب الشكر الذي وجهه لبايدن- إذ وصف فيه رحلة بايدن بأنها إستراتيجية، لأنها رفعت معنويات الأوكرانيين، وأنها إشارة إلى أن العالم الحر لا ينسى الأوكرانيين، ثم أضاف أن زيارة بايدن دليل على أن بولندا آمنة، وأن أميركا قادرة على حماية النظام العالمي. فماذا يعني ذلك؟
لاحظت واشنطن بوست أن القادة البولنديين كانوا في حالة عصيبة وهم يستقبلون بايدن، وأنهم يخافون من أن انتصار روسيا على أوكرانيا يمكن أن يدفع روسيا إلى استهداف بلادهم، وهذا يعني أن الحرب يمكن أن يتسع نطاقها، وأنها لن تقف عند حدود أوكرانيا، لذلك تدرك أميركا خطورة انتصار روسيا.
لماذا وفرت روسيا الحماية لبايدن؟
كانت هناك مؤشرات كثيرة على أن روسيا لا تريد توسيع نطاق الحرب، إذ أعلنت أنها وفرت الحماية لرحلة بايدن، بالرغم من نفي مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان، الذي قال إن أميركا أعلمت روسيا برحلة بايدن لمنع أي صراع غير متوقع، لكنها لم ترد، إلا أنها تلقت المعلومات، وأن رحلة بايدن كانت محاطة بإجراءات أمنية مكثفة.
إثارة رعب أميركا
وصفت جريدة “نيويورك تايمز” (New York Times) الأميركية انسحاب روسيا من معاهدة “نيو ستارت” لتخفيض الأسلحة النووية بأن بوتين يحاول إثارة رعب أميركا، فهو يعرف أن ترسانته النووية الهائلة لا يمكن إزالتها إلا عن طريق “أرمجدون” تدمر روسيا وتنهي نظامه. فلماذا استخدمت نيويورك تايمز هذا المصطلح الموجود في الإنجيل للإشارة إلى حرب نهاية الزمان التي يتم فيها إبادة الملايين من البشر؟ وما دلالة ذلك الاستخدام؟ وهل جاء ردا على كلمات بوتين الغامضة التي تتضمن التهديد بالحرب النووية؟
من المؤكد أن حرب المفاهيم والمصطلحات والكلمات تشير إلى كثير من المخاطر التي أصبح يتعرض لها العالم.
معركة المستقبل
إن تحليل خطابي بايدن وبوتين يوضح أنها معركة حول مستقبل النظام العالمي، فالرئيسان يعبران عن التصميم على استمرار الحرب التي لا يعرف أحد كيف يمكن أن تنتهي ومتى.
لقد قرر بايدن أن يقترب من الحدود الروسية ليلقي خطابه، وأن يقوم بزيارة كييف، وهذا السلوك يحمل دلالات التحدي والإصرار على المواجهة مهما كانت النتائج، إنها رسالة قوية ومباشرة لبوتين الذي فهم دلالاتها، وقرر الرد بقوة.
إن أخطر ما في خطاب بايدن أنه حمل كثيرا من الرسائل التي تهدف إلى إذلال بوتين، وتصويره بأنه قائد مهزوم ترك دباباته المحترقة في أوكرانيا، وأن قواته تتعرض للفوضى.
رد بوتين ودلالاته
رد بوتين لا يقل قوة عن إشارات بايدن، إذ رفع احتمالات استخدام الأسلحة النووية، وزيادة مخاطر السباق النووي، لذلك يجب أن نبحث في خطاب بوتين عن الكلمات التي امتنع عن استخدامها، فدفع بعض المسؤولين في نظامه ليؤكدوا الإشاعات التي يتم ترويجها حول التعبئة العسكرية، والتحول إلى اقتصاد الحرب وهذا يطرح تساؤلات جديدة.
لقد مر عام كامل، وروسيا تخوض حربها ضد الغرب، فما دلالة التحول إلى اقتصاد الحرب الآن؟
لذلك هناك كثير من التوقعات التي يثيرها خطاب بوتين أكبر من المعاني المباشرة للكلمات التي استخدمها، من أهمها أن رياح الحرب العالمية تهب.
إننا أمام رئيسين لا يحاولان التوصل إلى حالة توافق، ويعبران عن رؤيتين متعارضتين ويستخدمان كلمات الحرب العالمية الثانية ورموزها، ويرتبط مستقبلهما السياسي بالانتصار في هذه المعركة.
من الواضح أن بايدن يدرك أن هدف بوتين هو إعادة بناء الاتحاد السوفياتي، لذلك يرفض الاعتراف بأوكرانيا دولة مستقلة، ويعتبرها أرضا روسية تاريخية، ويرى أن روسيا تعرضت للاعتداء من الغرب، لذلك تم إجبارها على الدفاع عن نفسها ضد العدوان الغربي.
بينما يصر بايدن على هزيمة بوتين وإذلاله ومنعه من تحقيق هدفه وهو يهدد باستخدام قوة حلف الناتو الذي يصفه بأنه موحد ضد روسيا. لكن خطاب بوتين يوضح أنه لن يقبل الهزيمة ولن يسلم بها، فهو يدرك أنه يستطيع أن يشكل تحالفا يضم الصين وكوريا الشمالية وإيران.
لكن من الواضح أن بايدن لا يدرك قوة بوتين ويراهن على استمرار الحرب، لكنه يجب ألا ينسى أن بوتين يمتلك أسلحة نووية قد يستخدمها إذا شعر بالهزيمة.
إن بوتين فشل في أن يحقق نصرا عسكريا خاطفا ويحتل أوكرانيا بسرعة كما يتصور، ومشهد جيشه يثير الأسى، لكن خطابه يوضح أنه ما زال قويا ويتصرف باستكبار لا يقل عن غرور بايدن.
ورغم أن بايدن يصور أميركا بأنها المدافعة عن الحرية، فإنني لم أجد في الصحافة الأميركية نقدا قويا لخطاب بايدن، ولم تتمكن من تحذير أميركا وأوروبا من المخاطر القادمة.