أسلحة متطورة وجنود غير مؤهلين.. المعضلة التي تهدد طموحات الصين العسكرية
مقدمة الترجمة
في الوقت الذي تتنامى فيه قوة الصين العسكرية، مدفوعة بتطور سريع في مجال التكنولوجيا، يواجه الجيش الصيني معضلة من نوع خاص، لا تتعلق بكفاءة الأنظمة والأسلحة وتطورها بقدر ما تتعلق بمستوى ومهارات جنوده وضباطه، حيث يكافح الجيش لتوظيف وإبقاء الأفراد المؤهلين واجتذاب المواهب، في ظل المنافسة الكبيرة مع شركات التكنولوجيا. يناقش تايلور لي وبيتر سينغر، في مقالهما المنشور على موقع “ديفينس وان”، هذه المعضلة وتأثيرها على طموحات بكين العسكرية.
نص الترجمة
تغرق معظم الجدالات والنقاشات الغربية المُثارة حول تنامي القوة العسكرية للصين في التركيز على المُعِدات والأسلحة، بينما لا تكاد تُلقي بالا لأفراد الجيش أنفسهم. فقد ناقش تقرير القوة العسكرية الصينية السنوي الصادر من وزارة الدفاع الأميركية تفاصيل شديدة الأهمية فيما يتعلق بالمُعِدات الجديدة لجيش التحرير الصيني (PLA)، لكنه لم يذكر تقريبا أي تفاصيل عن أطقم جنود وضباط هذا الجيش. بيد أن مشكلات تجنيد الأفراد وتدريبهم واستبقائهم قد تكون هي بعينها المشكلات التي تعرقل الصين في خضم “ماراثون” القوة الذي تخوضه مع الولايات المتحدة الأميركية.
لطالما ناضل الجيش الصيني كي يصنع رجالا رفيعي المستوى تدريبا وتعليما، إذ إن مُعظمهم كانوا أُمِّيين في سنوات تأسيس الجيش الأولى، بمَن فيهم الضباط. (وقد انعكس هذا الأمر على القادة الكبار أنفسهم في الحزب الشيوعي الصيني، ومن ذلك عندما ترقَّى “تشِن يونغوي” إلى منصب نائب رئيس الوزراء رغم عدم قدرته على القراءة). وبحلول العقد الأول من الألفية الجديدة، لم يكُن بحوزة أغلبية مجندي الجيش الصيني سوى شهادة الصف التاسع من التعليم الأساسي فحسب، في حين أن ثُلث ضباط الجيش كانت تعوزهم حتى أبسط أساسيات التعليم العالي الجامعي.
والحال أن واضعي إستراتيجية الجيش الصيني يدركون أن هذه المشكلات تُمثِّل عقبة حاسمة لبناء وتشييد جيش بمواصفات عالمية. وكما كتب أحد أكاديميي الجيش الصيني عام 2016: “لقد طوَّرنا ونشرنا الكثير من أحدث الأسلحة المتطورة، بما فيها أسلحة صُنفت بأنها الأفضل على مستوى العالم، لكن ليس هناك ما يكفي من الجنود كي يستعملوا هذه الأسلحة المتقدمة؛ وفي بعض الحالات، تعوز الجنود الخبرة والمعرفة كي يستخدموا أسلحتهم على النحو الأمثل”. وحتى القائد الأعلى للصين الرئيس “شي جين بينغ” قد طالب باستشعار أكبر للحاجة الملحة حيال تحديث أطقم أفراد الجيش، وهو أمر أفاض في مناقشته أثناء المؤتمرين التاسع عشر والعشرين للحزب الحاكم. وصدَّق على ذلك “جانغ يوشيا”، رئيس الأركان الصيني ونائب رئيس اللجنة العسكرية المركزية، قائلا إن المواهب البشرية أمر شديد الأهمية بالنسبة إلى الجيش الصيني “اليوم أكثر من أي وقت مضى على مرِّ التاريخ”.
الجيوش الجرَّارة وحدها لا تكفي
سرعان ما انتشرت رسالة القادة إذن عبر مفاصل الجيش الصيني ومؤسساته. فبعد أسابيع قليلة من المؤتمر العام العشرين للحزب، نشرت الصحيفة الرسمية للجيش الصيني (PLA Daily) مقالا جاء فيه أن الصين تتقفى أثر الغرب في اجتذاب المواهب، لا سيما في طريقة دفعها لعجلة التطور في مجال الأنظمة الآلية وغيرها من مجالات التكنولوجيا الفائقة. ويكشف لنا ذلك إلى أي مدى يتحرَّك الجيش الصيني للاهتمام بالأفراد نتيجة للطفرات التكنولوجية نفسها التي لفتت الأنظار في الغرب. فقد كان التعليم حتى الصف التاسع ملائما حين انصبت عقيدة الجيش الصيني على حشد جنود المشاة، لكن الاحتياجات التكنولوجية لساحات الحروب الحديثة تتطلَّب جنودا وضباطا لديهم “معرفة علمية ومهارة تكنولوجية”، وفقا لما جاء على لسان الرئيس “شي”.
وعليه، يبذل الجيش الصيني جهده لتجنيد عناصر ذوي مهارات وتعليم أفضل، وخاصة في المجالات التكنولوجية. على سبيل المثال، أعلنت اللجنة العسكرية المركزية بدءا من عام 2016 أن المؤسسات العسكرية الأكاديمية ستقبل انضمام عدد أكبر من الطلاب بزيادة 16% في قطاعات التكنولوجيا المتطورة ذات الاحتياج الضروري، مثل الاستخبارات الفضائية وتكنولوجيا المراقبة (الرادار) والطائرات المُسيَّرة. وبالفعل، حصلت زيادة بنسبة 14% في التحاق الطلاب بمجالات الطيران والصواريخ وسلاح البحرية، وقلَّت نسبة الطلاب الملتحقين بالمجالات التقليدية مثل سلاح المشاة والمدفعية واللوجستيات بنسبة 24%.
في غضون ذلك، تعكس اتجاهات التجنيد في الجيش الصيني رغبة في اجتذاب طلبة الجامعات، لا سيما الذين يتمتعون بخلفيات علمية وهندسية، وخريجي الكليات التكنولوجية والمعاهد التقنية. وتشير التقارير المُتناقلة إلى أن الجيش الصيني يريد من المجندين الجدد أن يكونوا حاصلين على الأقل على تعليم عالٍ، بحيث يُشكِّلون نسبة لا تقل عن 70-75%. وقد شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعا في الأهداف التي رصدها الجيش الصيني لنسبة الطلبة المتعلمين والخريجين من إجمالي أعداد المجندين.
اختبر الجيش الصيني أيضا طرائق جديدة لتجنيد الأشخاص الذي يتمتعون بهذه المهارات، مثل البحث مباشرة عن المدنيين ممن لديهم هذه الخبرات بالفعل. فمثلا، أفاد مركز التجنيد بمدينة “تشونغتشينغ” عام 2016 بأنه سيُعيِّن 194 من ضباط الصف الجدد، بحيث يشمل ذلك أصحاب التخصصات التكنولوجية المتطورة، مثل الحاسوب، والأتمتة، وشبكات الاتصالات، والمعلومات الإلكترونية، والتكنولوجيا الطبية، والطاقة، والمُعِدات الميكانيكية والكهربائية، والتصميم والتصنيع الميكانيكي. ويُشدِّد الجيش الصيني أيضا بصورة ملحة على التجنيد المباشر لخريجي الكليات المدنية بوصفهم ضباطا، وخاصة مَن لديهم تركيز على العلوم والتكنولوجيا. ولذا، أعلنت اللجنة العسكرية المركزية في مارس/آذار الماضي أن الجيش الصيني وشرطة الشعب الصينية ستجند أكثر من 3600 خريج جديد من الجامعات (بمَن فيهم حاملو الشهادات العليا) بوصفهم ضُباطا، مع التركيز على أصحاب التخصصات العلمية والتكنولوجية.
إنه لأمر معقد بالطبع تقييم ما إذا كانت هذه المبادرات المبذولة من جانب الجيش الصيني ستؤتي ثمارها بالنسبة له. وقد اكتشف إحصاء تُجريه الصين كل عشر سنوات أن قرابة 57% من أفراد الجيش الصيني في عام 2020 كانوا قد تلقوا درجة من درجات التعليم بعد الثانوي، بارتفاع نسبته 47% تقريبا عن عام 2000. وبالمثل، انخفضت نسبة الحاصلين على تعليم لا يتجاوز الصف التاسع دون نسبة 4%، ما يشير بدوره إلى أن الجيش الصيني أحرز بالفعل نجاحا جليا في تجنيده لمزيد من الأفراد المُتعلمين حتى وإن لم يحقق بعد النسبة المَرجوَّة.
الاقتصاد الصيني ينافس جيشه
لكن النجاح في اجتذاب مواهب بشرية أفضل لا يعني بالضرورة النجاح في الإبقاء عليها، إذ إن هناك أدلة على أن الجيش الصيني يعاني من أجل استبقاء الضباط والأفراد ذوي المهارات العالية. وثمَّة جدال مُتكرر دائما حول أصحاب التعليم الجامعي وكيف يصارعون من أجل الاندماج في الحياة العسكرية داخل الجيش الصيني، وحول انزعاجهم واستيائهم من معاملتهم مثلما يُعامل نظراؤهم الأقل تعليما منهم. فقد أُلغي برنامج لتثقيف ضباط الجيش الصيني في الجامعات المدنية عام 2016 (وهو برنامج يشبه نوعا ما البرنامج التدريبي لضباط الاحتياط في الولايات المتحدة)، وذلك بعد فشل إدماج الضباط المدنيين الذين نُظِر إليهم على أنهم أقل شأنا داخل هرمية الجيش الصيني. وبطبيعة الحال، لا تتغيَّر هذه الميول الثقافية العسكرية بين ليلة وضحاها.
يشتكي المجندون الأعلى تعليما باستمرار من أن الجيش الصيني يفتقر إلى نظام يضعهم في الوحدات المناسبة للاستفادة من مهاراتهم على النحو الأمثل. فمثلا، عُيِّن أكثر من ثلاثين شخصا ذوي تعليم جامعي في لواء الرادار في صحراء “تكلامكان” في إقليم “شينجيانغ” (وهو على الأرجح لواء الرادار الرابع عشر التابع لسلاح الجو تحت قيادة مسرح العمليات الغربي، أحد مسارح العمليات الخمسة للجيش الصيني)، ومن ثمَّ لم يختر أحد منهم التجنيد من جديد بعد السنتين الإلزاميتين من الخدمة العسكرية نظرا للظروف القاسية التي عاشوها في الصحراء، فضلا عن استيائهم عموما من الحياة العسكرية. وقد وجد تحقيق للواء عسكري بالجيش أن أكثر من 80% من الجنود ذوي التعليم الجامعي لم يرغبوا في العودة إلى الخدمة العسكرية في السنوات الأخيرة.
على نطاق أوسع، أوضح استطلاع أُجري عام 2021 في إحدى الوحدات أن 35% فقط من الجنود ذوي التعليم الجيد أرادوا الاستمرار في أداء خدمتهم داخل الجيش الصيني بعد مرور عامين، في حين أن نسبة خريجي الجامعات الذين رغبوا في البقاء كانت أقل من ذلك. وقد شَرَع الجيش الصيني في محاولة تخفيف هذه الأزمة بالسماح للأفراد المُسرَّحين سابقا بالعودة إلى التجنيد ثانية، كما سمح لضباط الصف بأن يبقوا في الخدمة -إن أرادوا- حتى بعد تجاوز السن الأقصى المسموح بها. وهكذا، يواجه الجيش الصيني منافسة مُربِكة مع الاقتصاد التكنولوجي عينه الذي يدفع بزوغ الصين بوصفها قوة عالمية. ثم هناك المنافسة الآتية من القطاع الخاص، وبالتحديد من مجالات التكنولوجيا المتطورة ومجالات المهارات القابلة للتطبيق في المجال المدني، وهي عوامل تساهم في إضعاف القدرة على استبقاء الكوادر بالجيش.
بصورة عامة، فإن التحدي المُتعلِّق بجنود الجيش الصيني من الراجح أن يبقى عقبة في طريق مساعي تفوُّق الصين العسكري في منطقة المحيطين الهادي والهندي في قادم الأعوام. وتكشف هذه المسألة أيضا إلى أي مدى يمكن أن يكون التفكير في تحليل صعود الجيش الصيني مُجديا أكثر بالنظر إلى الأفراد الواقفين خلف المعدات العسكرية الصينية الجديدة، وليس إلى ما يملكه الجيش الصيني من أحدث المعدات فحسب.
__________________________________
ترجمة: كريم محمد
هذا التقرير مترجم عن Defense One ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.