دمار مدينة عريقة وبداية التهجير.. “التغريبة” الفلسطينية التي بدأت من غزة عام 1917 | ثقافة
غزة – حينما تزور البلدة القديمة لمدينة غزة لن تجد بالضرورة منازل عتيقة عدا بعض الآثار القليلة المتناثرة، مثل الجامع العمري وقصر الباشا وسوق القيسارية ومنازل ومساجد وكنائس تاريخية متفرقة.
وللوهلة الأولى يبدو الأمر محيرا، فغزة تعد من أقدم مدن العالم، لكن أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة الأقصى بغزة الدكتور يوسف عمر يفسر “قلة المنازل والمباني القديمة التاريخية” في المدينة بسبب الدمار الذي لحق بها إبان الحرب العالمية الأولى على يد الجيش البريطاني، فقد تعرضت المدينة لتخريب واسع طال منازلها ومزارعها، كما أن جميع سكانها في ذلك الوقت أجبروا على مغادرتها.
ويعمل الدكتور عمر حاليا على تأليف بحث علمي بعنوان “غزة في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)”.
ويقول عمر للجزيرة نت إنه اختار هذا الموضوع نظرا لقلة المراجع حول هذا الأمر، مضيفا أن “البحث سيعتمد بشكل أساسي على المراجع الأجنبية”.
معارك مروعة
ويُجمع مؤرخون على أن سقوط غزة بيد الإنجليز إبان الحرب العالمية الأولى جعل وعد بلفور قابلا للتطبيق، وأدى إلى سقوط كامل فلسطين، ومن ثم بدء إقامة المشروع الصهيوني.
لكن سقوط غزة لم يكن سهلا فقد هزم الجيش العثماني نظيره البريطاني الغازي في معركتين متتاليتين في مارس/آذار وأبريل/نيسان 1917 عرفتا باسم معركتي غزة الأولى والثانية، حسب الباحث عمر.
وكانت خسائر بريطانيا كبيرة في المعركتين، حيث قتل 4785 جنديا وأصيب 7291، وفي المقابل قتل 3470 جنديا عثمانيا، حسب العديد من المراجع.
وعقب الهزيمة في المعركة الثانية استعاضت بريطانيا عن قائد قواتها أرشيبالد موراي بالجنرال أدموند ألنبي الذي غيّر التكتيكات العسكرية وحصل على إمدادات عسكرية هائلة.
ويكمل عمر “هاجم ألنبي غزة عبر إحداث ثغرة من محور مدينة بئر السبع يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 1917، والتف على القوات العثمانية من جهة الشرق، واستطاع تحقيق الانتصار في ما عرفت بمعركة غزة الثالثة”.
تدمير واسع للمدينة
تسببت الحرب بدمار هائل في مدينة غزة التي هجرها أهلها بالكامل.
ويقول المؤرخ الفلسطيني عارف العارف (1891-1973) في كتابه “تاريخ غزة” “أصاب غزة خراب كبير بسبب هذه المعارك (..) حتى تهدم منها ما ينوف عن ثلثها وهجرها أهلها”.
ويضيف العارف (شغل منصب قائمقام غزة إبان الانتداب البريطاني) أن جنود الجيش العثماني أيضا هدموا “قسما كبيرا من هذه البيوت بأيديهم واستعملوا أخشابها متاريس في الحرب”.
لا تعويضات ولا إعمار
ويتضح من أخبار متفرقة عثرت عليها الجزيرة نت -خلال مسحها أرشيف الصحف الفلسطينية التي صدرت في فترة الاحتلال البريطاني (1917-1948)- مطالبة سكان غزة بريطانيا بتعويضهم عن الدمار الذي لحق بممتلكاتهم.
وفي هذا الصدد، نشرت صحيفة اليرموك في الرابع من أكتوبر/تشرين الأول 1925 خبرا يفيد بمطالبة رئيس بلدية غزة في حينه عمر الصوراني المندوب السامي البريطاني هربرت بلومر (1925-1928) بإعمار غزة.
وحسب الصحيفة، خاطب الصوراني بلومر بقوله “من ذلك التاريخ للآن وأهالي غزة في كفاح وجهاد لتعويض ما خربته الحرب من البيوت والأراضي الزراعية”.
ورد بلومر على الصوراني “إني أؤكد لأهالي غزة عطفي عليهم ومساعدتي لهم”.
ويتضح من خبر آخر نشرته صحيفة “مرآة الشرق” بعد 7 سنوات من الخبر السابق (يوم 30 مارس/آذار 1932) أن بلومر لم يف بوعده، حيث ذكرت أن رئيس بلدية غزة فهمي الحسيني طالب المندوب السامي في حينه آرثر غرينفيل وايكهوب في 24 مارس/آذار 1932 أيضا بإعمار المدينة.
وخاطب الحسيني وايكهوب قائلا “كانت غزة قبل الحرب العظمى في حالة يسر ورخاء (..)، فلما وقعت الحرب العامة (العالمية الأولى) قضى عليها نكد الطالع أن تكون ساحة حربية للجيوش المتقاتلة”.
وأضاف “أُجبر أهلوها على الهجرة والتشتت في البلدان المختلفة فأضاعوا جميع ثروتهم المنقولة، كما أن مدافع الجيوش المتحاربة صوبت قنابلها على المدينة، فدمرتها وتركتها خرابا يبابا (..)، مع الأسف الشديد قد تخلت تلك الحكومات جميعا عن إسعافنا وبقينا قابعين في خرائبنا”.
وواصل الحسيني حديثه “لو كانت مدينتنا إحدى مدن بلجيكا التي خربت أثناء الحرب لأعيد بناؤها بأحسن من حالتها الأولى، ولعوضنا عن أموالنا ولأعفينا من الضرائب”.
تهجير السكان
ويتفق مؤرخون على أن جميع سكان مدينة غزة هجروها إبان الحرب، وفي هذا الصدد يقول عارف العارف في “تاريخ غزة” إن الجيش العثماني قرر إجلاء سكان غزة عندما اتخذ الجيش الإنجليزي خطة الهجوم وأخذ يزحف نحو المدينة.
ويضيف العارف “جمع قائمقام المدينة معين بك المرعبي كبار المدينة وزعماءها وبلغهم أمر الرحيل، وكان ذلك إجباريا بقرار من الجيش العثماني”.
وتابع “رحل على إثر ذلك 28 ألف شخص، ولم يرجع إلى غزة منهم عندما وضعت الحرب أوزارها سوى 18 ألفا”.
ويشير العارف إلى أن عدد سكان غزة عاد للارتفاع تدريجيا عقب انتهاء الحرب حتى وصل عام 1943 إلى 33 ألف نسمة.
وبشأن مصير الذين لم يعودوا، يقول العارف إنهم بقوا في حمص وحماة وحيفا ويافا.
ويرسم الشيخ عثمان الطباع (1882-1950) في كتابه “إتحاف الأعزة في تاريخ غزة” صورة سوداوية لأوضاع الفلسطينيين إبان مغادرتهم المدينة، حيث يقول “فرحل جميع أهالي غزة بحالة تفطر الأكباد إلى القرى القريبة من غزة طمعا في قرب عودتهم إليها وتركوا أكثر موجوداتهم وأثاثهم في دورهم”.
ولا يعد غياب المباني العتيقة الشاهد الوحيد على مآسي الحرب، حيث يستضيف قطاع غزة مقبرتين للجنود البريطانيين تضمان رفات نحو 3700 جندي.
ومن المفارقات أن الكثيرين من سكان غزة الحاليين لا يمتلكون معلومات وافية عن المأساة التي تعرضت لها مدينتهم عام 1917 وعن “تغريبة” أسلافهم إبانها إلا أنهم بلا شك ما زالوا يعانون من تداعياتها حتى الساعة.