بعد عام من الحرب مع أوكرانيا.. كيف واجه الاقتصاد الروسي معركة الاستنزاف الغربية؟ | اقتصاد
ما زالت التساؤلات حول قدرة الاقتصاد الروسي على مواصلة مواجهة العقوبات الغربية وتداعيات الحرب مع أوكرانيا قائمة، حتى مع دخول المواجهة بين موسكو وكييف عامها الثاني، وتأكيدات خبراء اقتصاديين روس بأن موسكو نجحت في التأقلم مع ظروف الحرب والعقوبات.
في المقابل، سقطت “الأسطورة” التي سادت في روسيا خلال تسعينيات القرن الماضي، والتي تقول إن السياسة والاقتصاد -في العلاقة مع الغرب- موجودان في عالمين متوازيين، فقد شنت الدول الغربية أعنف هجوم اقتصادي على روسيا لأسباب سياسية خالصة، كما بات يؤكد كثير من المراقبين الروس.
فبسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، تم تجميد احتياطات البنك المركزي الروسي بالدولار واليورو والجنيه الإسترليني، وحظر المؤسسات النقدية، كما أعلنت عديد من الشركات والخدمات الأجنبية مغادرتها البلاد، ليتعرّض الروبل الروسي لضربة قوية.
وأدت العقوبات وصعوبة استيراد المعدات والتقنيات إلى تعقيد تنفيذ برامج التنمية الاقتصادية التي ارتبطت في الوقت نفسه برفع المستوى المعيشي للمواطنين.
ورغم أن روسيا أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، فإن اقتصادها يحتل المرتبة 11 فقط من حيث الحجم في العالم، ويمثل فقط 2 إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي في العالم.
كما أن دورها في التجارة العالمية الشاملة ليس كبيرا جدا، ففي عام 2020، قدمت أقل من 2% من صادرات البضائع العالمية وكان سوقها مقصدا لنحو 1.4% من واردات البضائع العالمية.
لكن روسيا تمتلك أهمية كبيرة في إنتاج وتصدير المواد الخام المختلفة، فهي من أكبر مصدري النفط ومنتجاته والفحم والغاز الطبيعي؛ فوفق معطيات مارس/ آذار 2022، وفرت موسكو نحو 35% من الغاز المستهلك في أوروبا وأقل بقليل من 20% من النفط.
كما أنها توفر بمفردها نحو سدس المواد الخام في العالم، فضلا عن أنها تنتج أكثر من 40% من البلاديوم، الذي يستخدم في صناعة السيارات، كما أن دورها في إنتاج وتعدين معادن مثل النيكل والألمنيوم وخام الحديد والصلب مهم أيضا، إذ توفر ما يقرب من 6 إلى 10% من إمداد هذه المعادن في العالم، ونحو 30% من النيكل الذي يتم استهلاكه في أوروبا.
تداعيات العقوبات
يؤكد الخبير في المعهد الأعلى للاقتصاد فلاديمير أوليتشينكو أن العقوبات الغربية على روسيا بدأت قبل الحرب مع أوكرانيا بوقت طويل.
ويلفت، في حديثه للجزيرة نت، إلى أنه في الوقت الذي كان فيه الجيش الروسي مستعدا تماما للأحداث، تخلف الاقتصاد والنظام المالي في البلاد عن الركب، رغم أنه كان من الواضح أن الصدام مع الغرب اقتصاديا أمر لا مفر منه.
وبرز ذلك -برأي أوليتشينكو- بشكل واضح في تأخر البنك المركزي في تقليص حصة الاحتياطات في الدول “غير الصديقة”، والتي وصلت في فبراير/شباط الماضي -قبيل الحرب بشهر واحد- إلى أقصى حد في تاريخها (643.2 مليار دولار).
الأمر ذاته ينطبق على سوق الأوراق المالية، عندما كان التركيز على الشكاوى من القيود المفروضة على شراء العملات الأجنبية وما إلى ذلك، بينما كان يجب اتخاذ قرارات فورية للحد من سحب العملات الأجنبية من البلاد، وفي الوقت نفسه إغلاق البورصات في الأعياد مع بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، بحسب أوليتشينكو.
مع ذلك، يرى الخبير الاقتصادي الروسي أن الدولة نجحت إلى حد مقبول في الحفاظ على سعر صرف الروبل وكبح جماح التضخم، وحيدت -حتى الآن- تداعيات العقوبات على الأوضاع المعيشية، رغم إقراره في الوقت ذاته، بالارتفاع الملحوظ في الأسعار وتراجع القيمة الشرائية للروبل.
من جانبه، يرى الخبير في الشؤون الدولية ديمتري كيم أن العقوبات أسهمت إلى حد كبير في تعطيل اندماج البلاد في الاقتصاد العالمي، من خلال “سد” قنوات التجارة والتصدير والتدفقات المالية وحتى السفر، بعد تعرض عديد من القطاعات الصناعية الروسية للعقوبات، وفصل البنوك الروسية عن نظام “سويفت” (SWIFT)، فضلا عن إغلاق الأجواء أمام الطائرات الروسية ومنع استيراد المنتجات الروسية، بدءا من عام 2014، ولكن “شدة” الموجة الأخيرة من العقوبات -برأيه- لم تكن متوقعة.
بالموازاة مع ذلك، أشار الخبير الروسي إلى أن رهان العقوبات الغربية على سقوط مدو للاقتصاد لم ينجح، وكمثال على ذلك، أوضح أن عديدا من الشركات الغربية التي غادرت الأسواق الروسية بالغت في ثقتها بأنه لا يمكن لشركات أخرى -سواء كانت محلية أو من “بلدان صديقة”- أن تحل محلها في السوق الروسية.
وبرأيه، فإن منطق هذه الإجراءات بعيد كل البعد عن التجارة، فقد حفزت هذه القرارات الشركات الروسية والأجنبية “الصديقة” على “سد الفراغ”، لكن العزلة التكنولوجية ستأخذ وقتا لمعالجتها، بسبب اعتماد روسيا لسنوات طويلة على تقنيات البرمجة الغربية.
لكن كيم لم يستبعد -في هذا السياق- أن تذهب روسيا في وقت لاحق إلى إلغاء عقوبة استخدام البرامج المقرصنة، ضمن وسائل مواجهة تداعيات انسحاب الشركات الأوروبية والأميركية من الأسواق الروسية، بغض النظر عن تأثيرات ذلك على موضوع الملكية الفكرية وبراءات الاختراع.
من يصرخ أولا؟
يؤكد خبير الشؤون الدولية ديمتري كيم أن الحديث عن تأثير العقوبات على روسيا يرتبط كذلك بتداعيات هذه العقوبات على الدول الأخرى، بما فيها تلك التي فرضت العقوبات، أو شاركت في الانضمام إليها.
وحسب رأيه، فقد وجد الاتحاد الأوروبي نفسه في موقف أكثر صعوبة، بعد أن “انجرف” في تيار العقوبات والتهديدات، وهو ما أعطى سببا لتصور ما يحدث على أنها “حربه التجارية” على روسيا.
ويدلل على ذلك بالإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي دخل في مواجهة مع روسيا أدت إلى تفاقم العلاقات معها في بيئة غير مواتية له، فقد ارتفع سعر الغاز الطبيعي أكثر من ألفي دولار للمتر المكعب، وأكثر من مرة هذا الشتاء، كما ارتفعت أسعار النفط والمعادن والمواد الغذائية والسلع الأخرى هناك، وبدأت تبرز بوادر الاحتجاج على هذه السياسات داخل الشارع الأوروبي نفسه.
ويذهب إلى خلاصة مفادها أن على واشنطن ولندن وبروكسل أن تدرك حتمية انهيار أوكرانيا في الحرب وتشكيل نظام سياسي جديد فيها -حسب رأيه- “لكنهم ما زالوا يراهنون على أن روسيا لن تكون قادرة على تحمل ضغوط العملية العسكرية اقتصاديا، وعليه، سيواصلون توجيه الضربات تلو الأخرى للروبل، لإطالة حالة الاستنزاف للاقتصاد الروسي”.