رفضت الزواج وحجر عليها أهلها ووضعوها بدار للمجانين.. مي زيادة “فراشة” الأدب العربي | الموسوعة
مي زيادة، مؤلفة ومترجمة فلسطينية لبنانية، نحت الأدب شخصيتها وأبرز مواهبها، من مواليد عام 1886، ومن طليعة “الحركة النسوية” في العالم العربي، سلبت قلوب الرجال وهام بها الشعراء، ولكنها تعلقت بجبران خليل جبران، وعاشت آخر أيامها حبيسة وحيدة حتى ودعت الحياة عام 1941.
اشتهرت بقلمها السيّال، وزاحمت كبار الكتاب المصريين في زمن النهضة، وفتحت صالونا ثقافيا في منزلها يتسامر فيه الأدباء، ويتبادلون لآلئ القريض وجميل الكلم. سلبت قلوب الرجال، وهام بها الشعراء، ولكنها تعلقت بجبران خليل جبران، وعاشت من دون زواج.
المولد والنشأة
ولدت ماري إلياس زيادة في 11 فبراير/شباط 1886 في مدينة الناصرة بفلسطين، واشتهرت باسم “مي زيادة” الذي اختارته لنفسها، لما له من رمزية في الأدب العربي.
والدها إلياس زيادة كان معلما في الناصرة، وهو ماروني (الموارنة أو المارونيين طائفة من النصارى تسكن ساحل الشام)، وأمها نزهة خليل معمّر فلسطينية من أصل سوري أرثوذكسية المذهب.
كانت ماري وحيدة أسرتها؛ إذ مات أخوها في طفولته، وتربت في محيط يؤمن بتنوع المذاهب واختلاف المعتقدات والأيديولوجيات، ويجمع بينه قاسم الثقافة والشغف بالتعليم؛ فنشأت على منادمة الكتب والتعلق بالأدب.
وبين فلسطين ولبنان عاشت طفولتها، وفي بداية شبابها حطت رحالها في مصر التي حملت جواز سفرها؛ فكانت مزيجا من الانتماءات، وهو ما عبّرت عنه في إحدى مقالاتها “ولدت في بلد وأبي من بلد وأسكن في بلد وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد، فلأي هذه البلدان أنتمي؟”
الدراسة والتكوين
تلقت ماري إلياس دراستها الأساسية في الناصرة، قبل أن تنتقل إلى لبنان وتواصل في قرية “عينطورة” دراستها الثانوية في مدرسة الراهبات.
وفي 1916 انتقلت إلى مصر ودرست الأدب والتاريخ الإسلامي في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ولكنها لم تكمل دراستها الجامعية، إذ انشغلت بالتأليف والكتابة والأنشطة الثقافية.
وفي بداية طفولتها، وأثناء تعليمها الأساسي أتقنت اللغة الفرنسية، وتابعت في القاهرة تعلم اللغات الإنجليزية والإيطالية والألمانية والإسبانية والرومانية والسريانية.
التجربة الأدبية
في القاهرة، عايشت الحراك الثقافي والأدبي، وخطاب التحرر والانعتاق الذي كان سائدا في مصر أيام النهضة الفكرية العربية بداية القرن الـ20، وولجت عالم الكتابة والأدب من بوابة الصحافة والإعلام.
فبعدما أصبح والدها مسؤولا ومالكا لجريدة “المحروسة” سنة 1909، اهتمت بالكتابة باللغة العربية متأثرة بنهج أدباء النهضة الذين عملوا على بعث اللغة العربية واستعادة تألقها.
وفي سنة 1911، أصدرت ديوان شعر باللغة الفرنسية تحت عنوان “أزهار حلم” (Fleurs de Rêve)، ووقعته باسم إيزيس كوبيا، وهو الاسم المستعار الذي كتبت به مقالات عديدة.
وعندما نشرت مقالات أدبية في “الأهرام” و”الهلال” و”المقتطف” زادت شهرتها في الساحة الأدبية.
وبين باحات جامعة القاهرة ومدرجات كلية الآداب، نسجت علاقات فكرية وقوية مع عدد من المستشرقين ورموز الثقافة.
وفي الآخر من يناير/كانون الثاني 1918، اختيرت لإلقاء خطبة تأبين لبعض الأساتذة في رحاب كلية الآداب، فأجادت الإلقاء والأسلوب وأعجبت الحضور.
وسخّرت قلمها للدفاع عن المرأة بوصفها واحدة من طليعة الحركة النسوية العربية، ومن أوائل من اهتموا بمسألة التنوير وتعليم الفتيات.
صالون الأدب والعشاق
في 24 أبريل/نيسان 1913، أعلنت مي زيادة أثناء كلمة كانت تلقيها في الجامعة بمناسبة تكريم الشاعر خليل مطران أنها ستفتح صالونا ثقافيا ينعقد يوم الثلاثاء من كل أسبوع.
وأسعفها ثراء عائلتها بانتظام الصالون في منزلها من عام 1913 إلى عام 1921، وكان قبلة للكتاب والشعراء وعلية القوم.
وفي الصالون عُلّقت لوحة كبيرة كُتب فيها:
إذا شئت أن تحيا سليما من الرّدى وعيشك موفور وعضك صيّنُ
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معائبا فصنها وقل يا عين للناس أعينُ
وبتلك اللوحة حُدّدت قوانين المنتدى وشروط الحضور والمشاركة، فكان الصالون محصورا على الأدب، تناقش فيه أخبار الشعر ونقده، والتأليف وجديده، فاستقطب أبرز الكتاب والأدباء في مصر وقتها.
وكان من أبرز المنتظمين في جلساته طه حسين وأحمد شوقي وخليل مطران وإبراهيم المازني ومحمود العقاد، وعدد كثير من رموز الصحافة والأدب.
وفي مجالس الصالون، سلبت عقول الشعراء فلمّحوا وصرّحوا ووصفوا جمالها وحسن حديثها، منها ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي:
أسائل خاطري عما سباني أحسْن الخَلق أم حسن البيانِ
رأيت تنافس الحسنين فيها كأنهما لميّة عاشقانِ
لكنها أعرضت وصدّت عن الجميع، فقد كانت محبة لجبران خليل جبران الذي كان يقيم في الولايات المتحدة الأميركية، وسلب فؤادها برسائله العاطفية، وقلمه الآسر.
وتعلقا بشخصية جبران وبأدبه الساحر، وأغلقت الباب أمام جميع الراغبين فيها، ولم ترض برجل غيره، وبقيت من دون زواج، لكن عددا من المؤرخين والكتاب يشككون في مدى صدق حب جبران ووفائه لمي.
أعوام الحزن ومشفى المجانين
في 1929، توفي والدها؛ وبعد فاجعة فقدان الأب رحل حبيبها جبران خليل جبران عام 1931، تاركا في قلبها فراغا من الحب، وقبل أن تلملم جراحها، ودّعت والدتها الحياة في الخامس من مارس/آذار 1932، فدخلت في عزلة نفسية وانزوت عن الناس بسبب أعوام الحزن التي عاشتها.
وعام 1936، زارت أهلها في لبنان بعدما طلبوها، وعندما أرادت الرجوع لمصر منعها الأقارب وحجروا على أموالها، واستجلبوا طبيبا للتوقيع على دخولها مستشفى الأمراض النفسية المعروف “بالعصفورية”، وفيه شعرت بالظلم والاضطهاد، فزادت متاعبها الصحية.
وعن معاناتها النفسية وظلم الأقارب لها كتبت في مذكراتها “باسم الحياة ألقاني الأقارب في دار المجانين.. أحتضر على مهل وأموت شيئا فشيئا”.
وبعد انتشار خبرها في الصحافة، تدخل بعض زملائها السابقين من مصر وسافروا إلى لبنان حتى أخرجوها ورجعت لحياتها، وألقت محاضرات في الجامعة الأميركية في بيروت، ومن ثم رجعت لمصر وأصيبت بالفصام.
المؤلفات
تركت مي زيادة الكثير من المقالات والمحاضرات التي تعالج قضايا الفكر ومشكلات المجتمع والواقع، كما ألّفت جملة من الكتب تدور في فلك الأدب، وقضايا التحرر والمساواة بين الرجل والمرأة، وأهم هذه الكتب:
- “المساواة”، وهو كتاب يتناول مفهوم المساواة، وأظهرت من خلاله دعمها للاشتراكية.
- “باحثة البادية”، وهو عبارة عن دراسة نقدية تتناول تجربة الأديبة ملك حفني ناصف.
- “رجوع الموجة”، وهو مؤلف يحكي عن الحب والوفاء للحبيب.
- “سوانح فتاة”، وهو كتاب يتحدث عن آراء وخواطر حول النفس البشرية والحياة.
- “ظلمات وأشعة”، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات الأدبية نشرتها في مناسبات عديدة.
- “عائشة تيمور”، كتاب يسرد قصة عائشة تيمور، ويقدم تعريفا للحركة النسائية.
- “غاية الحياة”، وهو رؤية لاستنهاض المرأة العربية وحثها للبحث عن تحقيق غاياتها.
- “ابتسامات ودموع”، وهو ترجمة لكتاب فريديخ مكس مولر.
الوفاة
توفيت مي زيادة يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول 1941 في مستشفى المعادي بالقاهرة، جراء إصابتها بالإعياء والإغماء الشديد. وفي اليوم الموالي لوفاتها دفنت في مقابر الطائفة المارونية بالقاهرة، ولم يخرج في تشييع جنازتها سوى عدد قليل من الأشخاص.