فيلم قائمة الطعام (The Menu).. هل يمكن للكوميديا أن تطهرنا؟
تصور الشاعر الإيطالي “دانتي أليغييري” الجحيم على أنه مكان بعيد مليء بالمعذبين وأصحاب الخطايا، أما “المَطهَر” فهو جزيرة صغيرة منعزلة محاطة بالمياه، وبها غابة تنبض بالحياة وترمز إلى فردوس الإيمان على الأرض، ولا يصل إليها إلا أشخاص معينون يلقي بهم القدر على شاطئ الجزيرة كي يتطهروا من ذنوبهم ويرتقوا إلى السكينة الأبدية، وقد كتب دانتي ملحمته التي سُمِّيت بـ”الكوميديا الإلهية”، وصارت من أشهر الأعمال الأدبية في التاريخ خلال القرن الرابع عشر الميلادي، وذلك خلال وجوده في المنفى بعيدا عن مدينته الأم فلورنسا بين عام 1302م وحتى موته عام 1321م.
تألفت ملحمة دانتي من ثلاثة أجزاء: الجحيم (Inferno)، والمَطهَر (Purgatorio)، والفردوس (Paradiso)، لكنها لم تكن مجرد عمل أدبي أو كتاب ديني عرفاني، بل حملت رمزية سياسية واضحة، فقد وضع دانتي كل خصومه السياسيين الذين نفوه وحرموه العيش بمدينته في أسفل الجحيم، وجعلهم يذوقون شتى صنوف العذاب، ثم أشعل في أجسادهم النار، وكذلك فعل المخرج الإنجليزي “مارك ميلود” والكاتبان “ويل تريسي” و”سِث رَيس” عندما أشعلوا النار، ليس في أجساد أبطال فيلمهم فحسب، بل في ثقافة الحضارة الاستهلاكية المعاصرة كلها، وكما رأى دانتي المذنبين وهم يمرون بكل طبقات أو مراحل المَطهَر صعودا إلى الفردوس فقد أرانا فيلم “قائمة الطعام (The Menu)” مراحل التطهر من خطايا الكمال والاستهلاك والجشع، استعدادا للانتقال الأخير: إلى الفناء التام.
هاوثورن.. من الجحيم إلى الفلسفة
“في منتصف رحلة الحياة
استيقظت لأجد نفسي في غابة مظلمة
لأني انحرفت عن الطريق الصحيح
يا إلهي، كم يصعب وصفها!
كم كانت تلك الغابة قاسية ووحشية!
مجرد التفكير فيها يعيد بعث الخوف بداخلي
الذهاب إلى الجحيم والعودة منه”.
(الأبيات الافتتاحية لملحمة “الكوميديا الإلهية” لدانتي)
يبدأ فيلم “قائمة الطعام” باصطحاب تايلر -أحد هؤلاء المهووسين بالمطاعم والأكلات- صديقته “مارغوت” إلى موعد غرامي في واحد من أرقى المطاعم على الإطلاق، وهو مطعم يقع على جزيرة منعزلة ونائية، ولا يدخله إلا أثرياء المجتمع ومَن هم على استعداد لدفع مبلغ مالي باهظ، كي ينالوا تجربة الشعور بالغرور والفوقية بوصفهم أحد أعضاء نخبة المجتمع وأثريائه، غير أنه في هذا اليوم تحديدا أعد الشيف “سلويك”، شيف مطعم “هاوثورن” وأحد أشهر طهاة العالم (في الفيلم)، قائمة الحاضرين والمدعوين بدقة بالغة، كما أعد لهم قائمة طعام مخصصة لهذا اليوم دون غيره لتكون بمثابة رحلة تطهيرهم ثم نقلهم من الجحيم إلى الفناء، وقد تشكلت قائمة المدعوين من زوجين من الأثرياء، وممثل سينمائي ومُساعِدته، وثلاثة رجال أعمال صغار من وادي السيليكون، وناقدة طعام مع رفيق مهووس بها، بالإضافة إلى تايلر وصديقته الجديدة التي لم تكن مسجلة بين المدعوين، ومن ثَم لم تكن جزءا من برنامج “الشيف” ولا قائمته.
ثم بدأ العرض بتقديم الشيف قائمة وجباته، بيد أن قائمة الطعام التي أعدها الشيف وبرنامجه ظهرت وكأنها جزء من رحلة دانتي في المَطهَر داخل ملحمته الشهيرة “الكوميديا الإلهية”، ففي الجحيم، الذي شبهه مخرج الفيلم ومؤلفوه بحياتنا المعاصرة، أدان “دانتي” كل هؤلاء الذين فقدوا القدرة على التفكير والإدراك والفهم، وكل أولئك الذين تآكلت قلوبهم نتيجة الحسد والبخل والطمع والجشع، لقد سقط كل هؤلاء في الجحيم، وكذلك سقطوا من حساب مؤلفي فيلم “قائمة الطعام”، وبقيت النخبة مُمثَّلة في أولئك القادرين على الإدراك والفهم الذين اختاروا الخيانة أو الكذب أو الغش مع إدراكهم ذلك، وساروا وراء الغرور والشهرة والهوس بغرائزهم وذواتهم، وهؤلاء هم الذين أتى بهم “الشيف” كي يطهرهم ويطهر المجتمع منهم، كما أتى دانتي بنظرائهم إلى جزيرة المَطهَر في ملحمته.
غير أن مؤلفي الفيلم أرادوا أن يبدأ التطهر من طاقم عمل المطعم نفسه، مثلما حدث لدانتي في ملحمته عندما واجه في بداية رحلته ثلاثة وحوش رهيبة، فهد وأسد وذئبة، ترمز إلى الشهوة والفخر والطمع، وهي وحوش سرعان ما تمنع دانتي من تسلق جبل المَطهَر، وفي سياق التطهر من هذه الخطايا الثلاث يمكن فهم المشاهد التي اعترف خلالها أحد العاملين في طاقم الشيف بارتكابه خطيئة الحسد فأطلق النار على نفسه، ثم المشهد الذي اعترف فيه الشيف نفسه بارتكابه خطيئة الشهوة تجاه إحدى العاملات في طاقمه، والتي انتقمت بغرز مقص في إحدى فخذيه، وأخيرا مشهد خطيئة الفخر التي ارتكبتها مسؤولة صالة المطعم، وكان العقاب توريطها في مواجهة حتى الموت.
في مواجهة شياطين النهم
“إذا كان العالم الحالي منحرفا وضالا فابحثوا عن السبب في أنفسكم”.
(الكوميديا الإلهية: المَطهَر القصيدة السادسة عشرة)
في إحدى مقابلات الكاتب “ويل تريسي” مع جريدة “أباڤ ذا لاين (Above the Line)” أقر الرجل أنه مر بموقف حقيقي كان السبب في كتابته قصة الفيلم، يقول: “في إحدى المرات ذهبت إلى مطعم في النرويج يقع على جزيرة، ويشبه تماما المطعم والجزيرة في الفيلم، ولكي نذهب إلى الجزيرة أخذنا قاربا، وكنا حوالي خمسة عشر زبونا فقط، وكانت الأجواء على القارب والجزيرة مظلمة بالكامل، وأنا أشعر بالخوف من الأماكن المزدحمة والضيقة، وكنت أشعر بالقلق كذلك لكوني مجرد سائح في بلاد غريبة، وهكذا حين أخذونا في جولة بواسطة القارب وعبر الجزيرة كنت أسأل نفسي باستمرار حول ماهية الأشياء السيئة التي قد تحدث لي هنا، وبالطبع سرعان ما شعرت بالفزع، وكان سبيلي الوحيد لطمأنة نفسي هو التفكير بأنني يمكنني الكتابة عن هذه التجربة، بل يمكنني صناعة عمل ملائم لها”.
إن المخيف بخصوص المطعم النرويجي لم يكن الجزيرة المنعزلة والمظلمة فحسب، بل نمط المطعم نفسه على حد قول الكاتب، إذ إن رواية القصص في أثناء تناول الطعام جزء من نمط المطعم وثقافته، ما يجعل الشعور برهاب الأماكن مضاعفا، وكأن الضيوف محتجزون كرهائن لمدة ساعات، وقد أعاد المؤلفون صياغة قصة الفيلم لتكون مشابهة لتلك المغامرة، غير أنهم دمجوا القصة مع بُعْد فلسفي آخر، ففي الفيلم كشفت وجبات “الشيف” عن ذكريات تخص كل خطيئة ارتكبها ضيوفه الأثرياء، بعد أن حرمهم من تناول الخبز، وكأنه يحرمهم “الغفران” الذي يرمز له “التناول” حسب العقيدة المسيحية.
ومثلما أتى دانتي في ملحمته من الجحيم إلى المَطهَر كي يرى الآثمين يتطهرون بالعذاب من خطاياهم، فقد أتى مؤلفو الفيلم بشخصياتهم إلى جزيرة تشبه المَطهَر كما تصوره دانتي كي يطهروهم بالعذاب والنار، لقد تصور دانتي المَطهَر مكونا من سبع طبقات، حيث تختص كل طبقة بالتطهر من إحدى الخطايا السبع، وعبر الوجبات والمشاهد التي تخللتها، عرض الفيلم رحلة التطهر من الغرور والحسد والكسل والنهم والبخل والغضب والشهوة، وهي الخطايا السبع التي عرضها دانتي في ملحمته، وقد ابتدأ الفيلم بصاحب المطعم الذي أغرقه “الشيف” في المحيط، وانتهى بالنار التي أشعلها في الجميع، وكأنها بمثابة العقاب الذي وضعه دانتي في الأنشودة السادسة والعشرين، والطبقة السابعة من المَطهَر المعنية بخطيئة الحسد.
هل يمكن للكوميديا أن تطهرنا؟
“أيها الداخلون إلى الجحيم، اطرحوا عنكم كل أمل”.
(عبارة قرأها دانتي على أبواب الجحيم)
عاش دانتي أليغييري في جمهورية فلورنسا، وأسهمت أعماله في وضع الأسس الحديثة للغة الإيطالية، وقد صُنِّف عمله باعتباره “كوميديا”، ليس لأنه مضحك، بل لأن عمله يخالف “التراجيديا”، وهو نوع العمل الأدبي الذي يبدأ بداية سعيدة وينتهي نهاية مؤلمة، ومن ثَم كان لونا أدبيا خاصا بالطبقة العليا من المجتمع، أما الكوميديا، على العكس، فقد كُتِبت عادة بلغة وسيطة دارجة ومفهومة لعامة الناس، كما أنها بدأت بداية مؤلمة وانتهت نهاية سعيدة، ولذا صُنِّـفت ملحمة دانتي تحت باب “الكوميديا”، بيد أنها كانت “كوميديا” ملحمية، صورت رحلة الإنسان من الجحيم إلى الفردوس مرورا بالمَطهَر.
وبالمثل أراد صانعو فيلم “قائمة الطعام” تقديم نوع آخر من الكوميديا، كوميديا لا تشارك الكوميديا إلا في اسمها، تماما مثل كوميديا دانتي، إذ إن الفيلم وجَّه نقدا لاذعا لثقافة الاستهلاك المعاصرة، التي تتجلى في نمط المطاعم الفاخرة بما تقدمه من أكلات غريبة باهظة الثمن، والتي تجبر أطقم العاملين فيها على العمل تحت ضغط مميت كي يرتقوا إلى مستوى الكمال الذي يتوقعه زبائن المطعم من النخبة والأثرياء، في حين أن هؤلاء الزبائن وتلك النخبة ما هم إلا جماعة من اللصوص والمتلاعبين والمهووسين، أتوا إرضاء لرغبات غرورهم ونزوات هوسهم كما صورهم الفيلم، ولكن على عكس الكوميديا الإلهية لم تكن نهاية تلك الكوميديا سعيدة، بل انتهت بمحرقة لم ينجُ منها إلا “مارغوت” التي رفضت تناول طعام الأثرياء منذ بدأت أحداث الفيلم، واكتفت بطلب الوجبة الأميركية الشهيرة والبسيطة “هامبرغر بالجبن” نظير مبلغ لم يتعد 10 دولارات، وقد أخذت شطيرتها ورحلت على متن القارب.
لقد وُجِّهت انتقادات عديدة لكوميديا دانتي الإلهية، وبالأخص اتُّهِمت بالعنصرية وازدراء الأديان، علاوة على اتهام دانتي بسرقة فكرة ملحمته من عدة مصادر عربية وإسلامية، أهمها “الفتوحات المكية” التي كتبها “ابن عربي” عن رحلة الأرواح لإدراك جوهر بدايتها ومعرفة الخالق والأبدية، وكذلك “رسالة الغفران” لـ”أبي العلاء المعري” الذي كتب فيها وصف الجنة والنار، وهو ما أكده المستشرق الإسباني “آسين بلاثيوس” في كتابه “أثر الإسلام في الكوميديا الإلهية”، وبالمثل يمكننا توجيه نقد إلى فيلم “قائمة الطعام” حول ما قدمه على أنه بديل لثقافة الاستهلاك في المطاعم والهوس بالأكلات الغريبة، فهل البديل هو العودة إلى الطعام الشعبي المُعولَم كما فعلت “مارغوت” بطلب شطيرة هامبرغر؟ أو التخلُّص من جميع الأثرياء؟ إن ما طرحه الفيلم مجرد صورة خيالية تحمل في الوقت نفسه رسالة أيديولوجية صريحة ضد الثقافة الاستهلاكية، غير أن الفيلم طرح الانتقام والتطهر بوصفهما خلاصا، وهي العقيدة ذاتها التي حملتها أوروبا طيلة قرون مضت، ولم تؤدِّ إلا إلى مزيد من الدماء والخراب.
____________________________________
المصادر:
- “الكوميديا الإلهية”.. لماذا أصبحت مصدر إلهام في الأعمال الإبداعية؟
- “The Menu” Review: Eat, Pray, Run!
- The Menu Screenwriters Will Tracy and Seth Reiss on How to Write a Highly-Specific World, and Why They Hope Their Movie Lingers Like Jaws