قضى بسهم من فتى صغير انتقاما لمقتل أبيه.. ملك إنجلترا ريتشارد الأول “الأسد الذي قتلته نملة” | الموسوعة
ريتشارد الأول ولد عام 1157م، وهو أحد أشهر ملوك إنجلترا في القرن الـ12، انشغل بالحروب منذ توليه الحكم عام 1189م، إلى الحد الذي جعله يقضي 6 أشهر فقط في بلاده خلال فترة حكمه التي دامت 10 أعوام، فذهب إليها عند تتويجه، وعندما قرر جمع أموال الحملة الصليبية فقط. أفقر مواطنيه بالضرائب ليستولي على القدس، وقُتل عام 1199 بسهم من طفل.
ارتبط اسمه في التاريخ العربي الإسلامي بالقائد صلاح الدين الأيوبي، وذلك حين كان قائدا عسكريا للحملة الصليبية الثالثة من أجل الاستيلاء على القدس.
وكان الملك الإنجليزي، الذي أسبغ عليه المؤرخون الأوروبيون صفات “الشجاعة والقوة”، قد قضى عامين في حروب الحملة الصليبية، ثم هرب منها متنكرا بزي راهب، وقضى ما يقارب عامين في رحلة العودة إلى بلاده، وهو تحت الأسر، وتم تحريره بفدية كبيرة. وقُتل بسهم أطلقه فتى صغير انتقاما لمقتل أبيه، فقيل فيه “الأسد الذي قتلته نملة”.
وظل التاريخ يطارده، فأحيانا يصفه بـ”المحارب العظيم” أو “الملك المحارب” و”قلب الأسد” و”ملك القرون الوسطى” و”المحارب الشاعري” وأحيانا أخرى ينعته بـ”مجرم حرب” والملك الذي قتلته “نملة”.
وتعج حياة الملك الإنجليزي الفرنسي بالمغامرات والمؤامرات والخيانات التي شارك بها ضد أقرب الناس إليه، حيث خاض حروبا ضد إخوته وتمرد على والده وانتزع منه الملك، وصولا إلى نهايته الغريبة.
المولد والنشأة
ولد ريتشارد كور دي ليون المعروف بـ”ريتشارد الأول” في الثامن من سبتمبر/أيلول عام 1157م، في قصر “بومونت” الذي شيده جده الأكبر هنري الأول في مدينة أكسفورد، وكان يعرف آنذاك بـ”منازل الملك”.
كان الابن الثالث لملك إنجلترا هنري الثاني، من زوجته إليانور أميرة أقطانية الفرنسية (مقاطعة تمتد ما بين نهر اللور في الشمال وحتى جبال البيرينيه جنوب فرنسا)، والتي كانت زوجة سابقة للملك لويس السابع، ملك فرنسا.
ترعرع الصبي ريتشارد مدللا، في كنف مرضعته ومربيته “هيديرنا سانت ألبانز”، التي لم ينس فضلها ومنحها أجرا كبيرا عندما أصبح ملكا، كما كان المفضل لدى والدته لأن ساحرة ادعت بأن والدته ستسعد به من بين جميع أبنائها.
طفولة صعبة وعائلة مفككة
عاش ريتشارد طفولة صعبة وسط عائلة ملكية مفككة، فأمه كانت سيئة السمعة وعرفت بحياتها المترفة وانحرافها الجنسي، أما والده فعرف في كتب التاريخ بعلاقاته الجنسية المتعددة مع النساء، لدرجة قيام رعاياه بإخفاء بناتهم وزوجاتهم كلما اقترب من ديارهم.
وكان ريتشارد ضحية الصراع بين والديه، وعندما تطلقا عام 1167م، اختارته أمه ليظل معها، بينما فضل والده شقيقه الأصغر جون.
والده هنري الأول لم يكن أبا مثاليا، إذ كان دائم الإيقاع بين أبنائه، من أجل الاحتفاظ بكل السلطة لنفسه، كما استخدمهم في توسيع مملكته والتحالفات السياسية عن طريق الزواج.
خطوبة بعمر 4 سنوات
في عام 1161م، وعندما كان عمر ريتشارد 4 سنوات، تمت خطبته للأميرة أليس ابنة الملك الفرنسي لويس السابع، التي كانت تبلغ حينئذ 9 سنوات، وتم ذلك في إطار تقوية العلاقات بين أسرة بلانتاغنت التي حكمت إنجلترا وأجزاء كبيرة من فرنسا، وملوك أسرة الكابيتيون الفرنسية في باريس.
تم الاتفاق على أن يتزوج ريتشارد من الأميرة عندما تبلغ سن الرشد، وأن يكون حصن جيسور والأراضي التي حوله مهرا لها، ويُقال إن الزواج لم يتم رغم بقائها مدة 25 عاما في قصر والده الملك هنري الذي عاملها عشيقة له.
بسبب ذلك ظلت علاقة ريتشارد بوالده متوترة، لأنه جعل هذا الزواج مستحيلا، وأجبره على التخلي عن ابنة الملك الفرنسي.
وذكر المؤرخ دوغلاس بويد أن هذا الموقف ربما تسبب في عدم رغبة ريتشارد بالزواج أو إنجاب الأطفال في حياته، حيث مات بعد سنوات من حكمه، بدون إنجاب وريث للعرش من بعده، فلم يكن له سوى ابن غير شرعي.
صفاته
وفق الأقوال التي وردت في وصفه، كان طويلا بما يُقارب 1.96 متر، وشعره ما بين الأحمر والأشقر، وعانى منذ صغره من ارتجاف عصبي يعود إلى نوع نادر من حمى الملاريا.
وتروي المصادر التاريخية، أنه كان عصبي المزاج وسريع الغضب وكان قاسيا لا يرحم ولا يلتزم بأخلاق وشديد النهم في الأكل.
وفي النصف الثاني من القرن الـ20، ظهرت بعض الدراسات التي تقول إنه كان مضطربا ومنحرفا ومفرطا في السلوك الجنسي، وإنه اعترف وتاب عن هذا السلوك مرتين، كما ذكر المؤرخ الأميركي “جون هارف”.
الدراسة والتكوين العلمي
لم يذكر التاريخ معلومات وافية تؤرخ للمستوى التعليمي الذي تلقاه ريتشارد، وما ذكر كان في نطاق حبه للشعر، الذي تعلمه من والدته، إذ كانت امرأة متعلمة تحب الشعر والغناء، وكان ريتشارد يحضر الأسمار ونقاشات التسلية الماجنة والمشاهد الفاضحة في بلاطها في “أقطانية”.
وفي الثامنة من عمره، تعلم ريتشارد اللغة الفرنسية، وكانت هي لغة تعبيره، على عادة الطبقة العليا من المجتمع الإنجليزي منذ أن حكم وليم الفاتح الفرنسي عام 1066 إنجلترا، وفرض اللغة الفرنسية لغة رسمية للبلاد، وترك “الإنجليزية الوسطى” لغة لعامة الشعب.
وتحدث ريتشارد لغة “أويل” (Langues d’oïl) وهي لهجة غالو الرومانسية، إضافة إلى لغة الآكيتينية (لغة فرنسية تُستخدم في الكتابات الرومانسية) التي كانت منتشرة في جنوب فرنسا والمناطق القريبة منها، وكان رجال السياسة الإنجليز يأخذون على ملكهم أنه لا يتكلم الإنجليزية.
وكان ريتشارد مثقفا، بمقاييس زمانه، حيث درس ثقافة شعر “التروبادور”، وكان ينظم الشعر مثل جده الأكبر لأمه، بالفرنسية أو بلغة منطقة بروفنس الأوكيتانية. كما كان شغوفا بالموسيقى، وكتابة الأغاني، وقاد الجوقة في الكنيسة، وكان يشاركها الغناء أحيانا.
وتعلم ريتشارد كل ما يتعلق بالفروسية، وشارك منذ صغره في تقاليدها بفضل والدته، التي يُنسب إليها إحداث وحفظ العديد من طقوس الفروسية. كما تعلم الصيد، وكان بارعا به.
وتلقى تدريبا شاملا في فنون الحرب، وأتقن استخدام أنواع مختلفة من الأسلحة، وكان شغوفا بقوس يقذف النيران يستعمله في ساحة الفروسية رغم أن استعماله كان غير أخلاقي.
كما تلقّى تعليما وتدريبا على الحكم وطُرق إدارته، حيث أعدته والدته منذ الصغر ليكون خليفتها في حكم مقاطعة “أقطانية”، والتي كانت قد ورثتها من والدها “وليام العاشر”.
دوق أقطانية
في عام 1169م، عندما كان ريتشارد في سن الـ12 من عمره، حصل على لقب دوق “أقطانية”، وفي عام 1170، قسم الملك هنري الثاني ممتلكاته بين أبنائه فأصبح ابنه الأكبر “هنري ذا يونغ” الوريث الشرعي للعرش الإنجليزي ولقب بـ”الملك الصغير”، أما ريتشارد فقد نصب رسميا عام 1172 دوقا “لأقطانية”، وهو المنصب الذي ورثه من أمه، في حين لم يتلق شقيقه الأصغر جون الميراث، فأطلق عليه لقب “جون من غير أرض” (John Lackland).
وكان ريتشارد في الـ15 من عمره، حين جعلته والدته يقسم الولاء لزوجها السابق ملك فرنسا، باعتباره الحاكم الشرفي لكل المقاطعات الفرنسية، كما جعلت النبلاء يقسمون له، كي تمنع عن والده الملك خلعه من هذا المنصب.
ومما تذكره كتب التاريخ، أن ريتشارد اهتم بتدريباته على القتال في تلك الفترة، وترك حكم المقاطعة لوالدته التي اهتمت بالجوانب السياسية، وكانت توقع على القرارات الخاصة بابنها الدوق، وتراجع وتؤكد ما كان يوقعه.
الطريق إلى العرش
عندما بلغ الـ16 من عمره، أراد ريتشارد أن يكون أكثر من حامل لقب، فانضم إلى إخوته هنري وجيفري عام 1173 في ثورة علنية على والدهم ملك إنجلترا، وذلك بتشجيع من والدتهم وزوجها السابق ملك فرنسا، وبدعم من النبلاء الساخطين على حكمه.
وكانت هذه المأساة العائلية التي استمرت 18 شهرا، قد انتهت بهزيمة الأبناء، وسجن والدتهم بتهمة الخيانة 16 عاما، وهو ما زاد من غضب ريتشارد، فقاد تمردا ثانيا ضد والده عام 1174، وحاصر بعض القلاع التي كانت تدين له بالولاء.
لكن والده عاقبه فجرده من لقب الدوق، وجعله من أتباعه الذين ينفذون أوامره وتعليماته فقط، فأعلن ريتشارد التوبة والطاعة، وشارك في احتفالية مبايعته عام 1175.
كانت أوامر الملك لابنه ريتشارد في السنوات الخمس اللاحقة، بإخضاع النبلاء المتمردين في “أقطانية” و”غسقونيا” ومصادرة أملاكهم.
وكانت هذه المهمة قد جعلت ريتشارد قائدا عسكريا للمرة الأولى، فازداد قوة وعنفا، وبعدما استولى على قلعة “تيلبورغ” المنيعة عام 1179، استقبله والده في إنجلترا بكل مظاهر الحفاوة والتشريف، فحصل على لقب ” قلب الأسد”.
وما بين عامي 1180 و1187، ازدادت التوترات بين ريتشارد ووالده الملك، حين رفض مبايعة شقيقه الأكبر هنري على “أقطانية”، فانتشرت الفوضى والمعارك، وانضم النبلاء إلى التمرد، ورأوا في هنري الشاب أداة للتخلص من ريتشارد وسطوته.
وبعد موت شقيقيه هنري بسبب المرض وجيفري في مبارزة، لم يكن الملك راغبا في إعطاء أي سلطة لابنه ريتشارد، وفضل ابنه الأصغر “جون” أقل أولاده كفاءة. فنشبت الحرب مرة أخرى بين الشقيقين، وتحالف ريتشارد مع الملك فيليب الفرنسي ضد والده، وأجبراه في أيامه الأخيرة على إعلان “ريتشارد” وريثا للعرش.
ضريبة صلاح الدين
في عام 1189، توفي الملك هنري الثاني. ويقول المؤرخون إنه مات كمدا بعد هزيمته من أبنائه، وإن أيا منهم لم يوجد بجواره عند وفاته.
وأصبح ريتشارد رسميا ملك إنجلترا ودوق نورماندي وأنجو، فأخرج أمه من السجن وعينها نائبة عنه في الحكم وبدأ التخطيط لشن حملة صليبية لاحتلال القدس، بعد تحرير صلاح الدين الأيوبي لها عام 1187م.
ويقال إن ريتشارد نظم مبارزات بعد تتويجه استمرت 3 أيام لاختيار أشجع الفرسان الذين سيرافقونه إلى الشرق، وأقسم على التخلي عن شره السابق، ليظهر أنه يستحق أخذ الصليب.
وبعد 10 أشهر من توليه العرش، انضم إلى الحملة الصليبية الثالثة “أكبر تجمع عسكري” عرفته العصور الوسطى، وعرف بحملة الملوك، وشارك بها الملك فريدريك بارباروسا الألماني (الذي توجَّه للشام برا فغرق في نهرٍ بآسيا الصغرى فتشتتت قواته)، والملك الفرنسي فيليب الثاني الذي عقد معه اتفاقا يقضي بتقاسم جميع الغنائم التي سوف يتم الاستيلاء عليها.
وكان ريتشارد قد أمن تمويل الحملة بعد عرضه المناصب العليا في الكنيسة ومناصب الشرفاء والقصور والبلدات والمزارع للبيع، وطلب من كل مدينة جوادين مسرجين للركوب، ووقتها قال عبارته الشهيرة وهو يجمع جيشه “أبيع لندن لو وجدت لها مشتريا”.
كما فرض على المواطنين بمن فيهم الإكليروس (أصحاب الرتب الكهنوتية في الكنيسة) ضريبة مباشرة عرفت باسم “ضريبة صلاح الدين”، وهي رسم يبلغ العشر من دخل الفرد، ويجبى على مدى 3 سنوات. ومن ينضم إلى الحملة يعفى من الضريبة.
وبلغ ثقل الضريبة على المواطنين، إلى درجة أن أحد الخيالة باع زوجته وكل ممتلكاتها كي يدفع ضريبته، ووصف المؤرخ الإنجليزي “روجر أوف وندوفر” الضريبة بأنها كانت “انتهاكا عنيفا حجب رذيلة الطمع خلف ستار البر وعمل الخير، وأزعج الكهنة والشعب على السواء”.
ونجح ريتشارد في تكوين جيش ضخم وقوات بحرية، ودرب المقاتلين على تحمل آلام الجوع والمرض، وعين أسقف دورهام ومستشاره وليام لونغشامب وصيا على إنجلترا.
مجزرة مدينة عكا
انطلق ريتشارد نحو عكا في الثامن من يونيو/حزيران 1191م، وفي طريقه اقتحم مدينة “ميسينا” الإيطالية، بغية الضغط على ملك صقلية لجلب تمويل كاف للحملة الصليبية، فسلب 40 ألف أوقية من الذهب.
ثم استولى على جزيرة قبرص، وفرض على سكانها ضرائب باهظة لاستكمال نفقات الحملة، وتزوج فيها زواجا سياسيا من ابنة “ساتنشو السادس” ملك “نيفار” في غرناطة، واتجه بأسطوله إلى مدينة عكا، وهناك التقى ملك فرنسا الذي سبقه إليها، واشتركا في حصارها لمدة عامين.
وكان ريتشارد، الذي وصفه مؤلف كتاب “النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية” بـ”الملعون” قد غدر بأسرى المسلمين بعد أن صالحهم وتسلم منهم فدية بمبلغ 200 ألف دينار على أن يكونوا آمنين على نفوسهم، واقترف جرائم وحشية في حقهم، حيث أعدم أكثر من 2700 أسير مع زوجاتهم وأطفالهم.
اعتداءات وتجاوزات
ظل الصليبيون مدة شهر ونصف في عكا يقررون في أمر الحرب، ووقعت مشاجرات بينهم بمن الأحق بعرش مملكة القدس، وكان ريتشارد قد وجه هذا النزاع لمصلحته، فظهرت أطماعه في الاستئثار بكل ما في عكا من أموال وغنائم.
ونسبت إليه عدة اعتداءات وتجاوزات في حق حلفائه، حيث هاجم “مسيتا”، وتحالف مع مغتصب عرش زوج شقيقته الذي توعد ريتشارد بالانتقام.
وعندما هاجم ريتشارد “قبرص” واحتلها، سجن ملكها حتى الموت، واتخذ ابنته خادمة لزوجته، وكان “أمير النمسا” قد توسط من أجل الإفراج عن قريبته ووالدها، لكن ريتشارد رفض وعنفه، كما أساء معاملته حين أنزل علمه في عكا وداسه بالأقدام ومنع جنوده من نصيبهم من الغنائم، فتوعده الأرشيدوق (أحد أمراء العائلة المالكة في النمسا) بالانتقام.
وترتب عن هذا النزاع والتجاوزات، عودة ملك فرنسا وأمير النمسا إلى بلادهما، فانفرد ريتشارد بقيادة الحملة.
صلح الرملة
قاد ريتشارد الحملة منفردا من الطريق الساحلي بين عكا وعسقلان، وفي مدينة “يافا” أصابه المرض، فأرسل صلاح الدين طبيبه الخاص ابن ميمون لعلاجه، ومده بالفاكهة والثلج لعلاج الحمى وسوء التغذية الذي كان يعاني منه.
وعندما قتل حصان الملك الإنجليزي بعد أن تواجها بأرض المعركة، ووجد نفسه على قدميه في مواجهة جيش المسلمين، تركوه (بأوامر من صلاح الدين) يمشي عبر كتيبتهم بدون مهاجمته، وأرسل له فرسين حتى لا يشتهر بقلة الحيلة.
وحاول ريتشارد أن يستعيد القدس، وخاض عددا من المعارك باءت كلها بالإخفاق، فسلّم بإخفاق حملته، وعرض على صلاح الدين إجراء مفاوضات دامت أكثر من عام شارك فيها 42 وفدا انتهت بـ”صلح الرملة” عام 588هـ (1192م)، مقابل هدنة مدتها 3 سنوات و8 أشهر، مع السماح للصليبيين بالشريط الساحلي الممتد ما بين عكا ويافا، وللحجاج المسيحيين بزيارة القدس الخاضعة للحكم الإسلامي.
أسره
وحينما أبحر ريتشارد عائدا إلى بلاده، في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 1192، هبت عواصف بحرية حطمت سفينته، فاضطر إلى سلوك الطريق البري وسط أوروبا، حيث كان عدد من الملوك والأمراء يتربصون به، بعد إخفاقه في تحرير القدس، وكان ملك فرنسا قد قاد حملة لإفساد سمعته حول أوروبا، واتهمه بالخيانة والاتفاق مع القائد صلاح الدين الأيوبي.
وكان الملك الإنجليزي متخفيا بزي راهب، لكن افتضح أمره، فألقي القبض عليه قرب فيينا، ووضع في قلعة “دورشتاين” في النمسا، وبقي سجينا فيها سنتين، بإشراف دوق أوستريا “ليوبولد الخامس”.
وبعد مفاوضات استطاع الإنجليز في فبراير/شباط عام 1194، دفع فدية لتحرير ملكهم مقدارها 150 ألف مارك، وهو ما يعادل 3 أضعاف الدخل السنوي للمملكة الإنجليزية.
وفرض آنذاك في إنجلترا على كل فارس ضريبة، وألزم كل مدني بدفع ربع دخله، كما أجبرت كل كنيسة على التنازل على كل ما له قيمة من ممتلكاتها لجمع مبلغ الفدية. وكان “دوق أوستريا” في النمسا قد استعمل هذه الأموال في بناء مدينة سماها “فيينا الجديدة” (فينر نويشتات).
الوفاة
كان الملك الإنجليزي في أيامه الأخيرة مشغولا بالدفاع عن ممتلكاته الفرنسية ضد الملك فيليب الثاني، وفي 26 مارس/آذار 1199م هاجم بلدية شالو الفرنسية، فأصابه سهم طائش في ذراعه، وتورم جرحه فأصيب “بالغرغرينا” التي تفشت في جسده، وتوفي في السادس من أبريل/نيسان عام 1199م، عن عمر ناهز 42 عاما.
وكان رامي السهم فتى صغيرا، قتل ريتشارد بدافع الانتقام منه لقتله والده وشقيقيه، فقالت العرب عن ريتشارد “الأسد الذي قتلته نملة”.
ووفق وصية ريتشارد، دفن جسده في كنيسة فونتفرود بفرنسا، عند أقدام والده الملك هنري الثاني، ودفن قلبه في كاتدرائية نوتردام في روان مع شقيقه هنري، هدية لمواطنيها الذين أظهروا له دائما الولاء، أما أجزاؤه الداخلية فدفنت في “دير بواتو” التي خانته وتعاملت معه بغدر وقاومت حكمه.