“ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”.. واجب التضامن الإنساني اللامشروط مع تركيا وسوريا | آراء
تعد الكوارث الطبيعية التي يتعرض لها الإنسان منذ الأزل من أكثر الحوادث إيلاما، وفي العادة كان يتم اللجوء إلى تفسيرات غيبية للأحداث والظواهر، بل ارتبطت جملة من الأساطير بأحداث الطبيعة وغضب الآلهة، لكن التفسير العلمي حل جانبا من المشكلة، من حيث تحديد الأماكن التي يتوقع أن تعرف البراكين أو الزلازل، من دون أن يمتلك إمكانيات التنبؤ بزمن وتوقيت حدوثها، لتكون الكوارث المتجاوزة لقدرات الإنسان وإمكاناته تزيد من الأزمة التي تعانيها المجتمعات ويعيش تحت وقعها الإنسان.
وكأن في العجز والضعف الذي يحيط بالإنسان مهما بلغت فتوحاته العلمية، تذكيرا له بوحدة المصير الإنساني، ودفعا له نحو التكاتف بدل الفرقة والنزاع، وتغليبا للأبعاد الأخلاقية والجوانب التي تنتصر للإنسان وتصون كرامته وتوفر له شروط الحياة الكريمة، على حساب المصالح التي تستبطن جشعا ونزوعا نحو السيطرة والهيمنة في تحلل تام من الأخلاق، كما أن هذه الحوادث المؤلمة تعد عاملا لإبراز مسؤوليتنا تجاه بعضنا بعضا وفي علاقتنا بالكوكب، ومن تلك المسؤولية في اللحظة الآنية واجب التضامن الإنساني مع الشعبين التركي والسوري، وتوفير كل السبل لذلك، والابتعاد عن الجدل بجوانبه المختلفة، السياسية والدينية، أو الوقوع في منطق تجار الأزمات، الذين يتصيدون الكوارث والحروب للاغتناء، وما يهمنا هنا هو الانتصار للإنسان والحياة، فالإنسان والحياة معا شأن مقدس.
إن أشكال الخطاب التي تتجه بالإنسان إلى نوع من الترهيب بخصوص العقاب الإلهي، تسيء للخالق جل جلاله، كما تسيء للدين إساءة بالغة، فهي تقصره على جانب العذاب دون الرحمة، ورحمة رب العالمين وسعت كل شيء، ألم يقل في كتابه العزيز “ورحمتي وسعت كل شيء”
المعاناة المضاعفة للشعب السوري.. من براميل الدكتاتور إلى الزلزال
يعرف العالم توترات دائمة، من عنف وحروب لا تنتهي في مكان حتى تبدأ في آخر، وسعي حثيث لامتلاك القوة والمال، ومن ثم استخدامها في تطويع الإنسان وإذلاله، أي أن هناك هدرا مستمرا للكرامة الإنسانية، فالحائز على القوة في سياق دولي لا يحتكم إلى النزعة الأخلاقية، ولا تستثير مسامعه شرعية الحق وعدالة مطالب الشعوب في تعلقها بمُثل عليا تنتصر للإنسان، يدوس الآخرين ويحولهم إلى رماد في سبيل تلبية جشعه المستحكم للسلطة والثروة.
إن وضعية الشعب السوري تقتضي تدخلا عاجلا باعتماد مسالك متعددة، لتخفيف تبعات الزلزال، فهو يسكن العراء أصلا، ولا توجد جهود توفر له المأوى عقب الزلزال أو أطراف راعية تفتح له المسالك والمعابر لتلقي المساعدت الإنسانية أو دخول فرق الإغاثة
فالإنسان مجبول على حب الرياسة، مفطور على نزعة التسيد على الآخرين، ولعل الشعب السوري في العقد الأخير، من أكثر الشعوب التي عانت بشكل مضاعف من آثار الظلم والتسلط، في ما يذكرنا بالجبابرة الذين دوّنوا اسمهم في التاريخ بدماء شعوبهم، أو برماد المدن التي حولوها إلى كرة لهب مشتعل، وأصبحت بعد ذلك يبابا كما هي حلب الجريحة، بفعل إستراتيجية الأرض المحروقة التي وجدت لها مخبرا للتجريب في سوريا على أيدي متعطشين للدماء واستعباد البشر، إجهاضا لثورة نبيلة، أقل ما كانت تطالب به الحرية والعدالة.
تلك محن الشعب السوري التي ينبغي ألا نغفلها في معرض الحديث عن آلامه، بعد التهجير وخراب الديار وقصص المعاناة الحزينة، والتي ينبغي أن يتذكرها الإنسان على الدوام، نجد أنفسنا أمام معاناة مركبة، مع كارثة زلزال أودى بحياة الآلاف بين تركيا وسوريا، لتكون الأزمة مركبة في البلدين معا، مما يتطلب بعدا إنسانيا خالصا في التعاطي مع الأزمات، وإن كانت الأزمات تخفي خلفها متاجرين بالفواجع والآلام.
لقد كان التعاطي سريعا في الوصول إلى مدن تركيا، للإسهام في إنقاذ أرواح العالقين وتقديم الإغاثة العاجلة لهم، لكن الوضع السوري -مع أن سوريا لم تكن مركز الزلزال- يبقى أصعب رغم إقبال الدول والشعوب العربية على نجدتهم، بحيث وجد السوريون هناك أنفسهم أمام قهر متعدد المصادر.
فبعد التهجير والتقتيل وتخريب البنى، نجد حديثا باسم متحدثي النظام في سوريا، يشير إلى ضرورة المرور عبر حكومة ترسو سفينتها فوق مئات الآلاف من الجثث، وكأنه لم تبق ذرة روح إنسانية يتم من خلالها تجاوز قواعد الصراع وحدوده التي رسمت داخل الأرض السورية، من أجل إيصال الدعم للعالقين في المناطق المنكوبة. ومثل هذا الجانب ما يمكن الإشارة إليه بخصوص إغفال البعض لسوريا جملة، حسبما تمليه المصالح والدوافع الاقتصادية والسياسية، وهذا النمط تكون معه الكوارث والأزمات مدخلا للاغتناء والثراء، أو يكون فيه التضامن مشروطا بجملة من القيود والحسابات، وتلك أزمة أخلاقية في الجوهر، ينبغي تجاوزها.
إن وضعية الشعب السوري تقتضي تدخلا عاجلا باعتماد مسالك متعددة، لتخفيف تبعات الزلزال، فهو يسكن العراء أصلا، ولا توجد جهود توفر له المأوى عقب الزلزال أو أطراف راعية تفتح له المسالك والمعابر لتلقي المساعدت الإنسانية أو دخول فرق الإغاثة، وإن تم ذلك فالأمر يحصل بقيود وشروط، وينبغي الضغط لتخفيفها وإبعاد الجوانب السياسية في لحظة أزمة إنسانية:
أولا: مجلس الأمن الدولي أو الأمم المتحدة أو منظمة التعاون الإسلامي
إذا كانت تركيا -بالرغم من القدرات التي تتوفر عليها، والمساعدات التي توافدت عليها- تسارع الزمن لإنقاذ العالقين، فإن وضعية الشعب السوري في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة أو النظام، بحاجة إلى منطق استثنائي في تدبير الأزمة، منطق يكون تحت رعاية مؤسسات دولية من قبيل الأمم المتحدة، أو منظمة التعاون الإسلامي رغم تجميد عضوية سوريا بها. لكن فعالية المؤسسات الدولية، بقدر نجدتها لدول أخرى في سياق حروب ونزاعات، فإنها مطالبة بالتحرك لضمان الإنقاذ والإغاثة في الشمال السوري، نقول ذلك ونحن على علم بأن المتحكم في حساب المؤسسات الدولية واقعا هو منطق المصالح وتقسيم النفوذ، وليس رعاية السلم والأمن الدوليين، لكن تدويل الأزمة السورية ينبغي أن يكون معه تدويل التفاعل مع كوارثها والبحث عن حلول إنسانية مستعجلة لها، عوض الإغلاق الشامل، أو مرور المساعدات حسب الجهات والمحاور الخاصة بالصراع، فالانتصار للإنسان ينبغي أن يكون الأولى، ليس في الإنقاذ وحسب، وإنما في ما بعد الزلزال والحرب.
ثانيا: القوى الفاعلة في الصراع داخل الأرض السورية
مثلما كان الصراع لتقسيم النفوذ داخل سوريا، فإن على القوى الفاعلة في الأرض السورية أن تجد صيغة لفتح معابر إنسانية تتجاوز حسابات الصراع على قاعدة “معارضة/ نظام”، فقد خسفت الأرض بالجميع، ولعل اللحظة الراهنة استثنائية بطبعها مما يتطلب منطقا استثنائيا.
ثالثا: الدول العربية والإسلامية
على الرغم من تجميد عضوية سوريا في العديد من المؤسسات العربية والإسلامية، فإن الدول العربية تربطها قنوات حوار وتواصل مع مختلف أطراف الصراع على الأرض السورية التي تحتاج إلى استثمار في السياق الحالي لإغاثة العالقين تحت الأنقاض أو من هم في العراء بسبب الزلزال أو الحرب، وقد تحركت دول وشعوب عربية من أجل ذلك، إذ إن الأزمة الراهنة ستكشف لمؤسسات وهيئات الإغاثة حجم النكبة التي يعيشها الشعب السوري في الخيام والدور المهدمة. إن اللحظة الراهنة بطبيعتها ينبغي أن تكون لحظة انتصار للجوانب الإنسانية على حساب تعقيدات الصراع السياسي والعسكري.
إن الكارثة التي حلت بالشعبين التركي والسوري ينبغي أن تكون لحظة ولادة للجانب الإنساني وتغليبه على حساب صراع المصالح، وأخص من ذلك الأزمة التي يعانيها الشعب السوري أساسا، فالحرب التي أعقبت الثورة ودخلتها سوريا في واقع إقليمي ودولي مضطرب، وصراع للقوى على الأرض السورية، ينبغي أن تختفي قليلا لتحضر مكانها جوانب أخرى ظلت مبعدة في مناخ يغلب عليه البارود ولغة القوة والعنف الدامي، على حساب النزعة الأخلاقية والروح الإنسانية.
لعل المقصد من ولادة الجانب الإنساني محاولة على المستويين الشعبي والرسمي للنظر في أزمة شعب يعيش قصة حزينة وسردية مؤلمة، تضاعفت آلامها مع الزلزال، لذلك ينبغي الضغط على النظام بكل الأشكال المتاحة لفسح المجال من أجل التمييز بين الصراع السياسي والعسكري الذي جعله ينظر إلى الشعب السوري من خلال “الأسد أو لا أحد”، إلى الدواعي الإنسانية، ولا نحتاج إلى التذكير بأن آلام الفقد وأوجاعه تحت وقع الكوارث الطبيعية تكون مضاعفة، فكيف إذا كانت الشعوب تعيش آلاما أخرى يتعلق بمصيرها الوجودي أصلا وابتداء.
هنا ينبغي أن يكون الخطاب السياسي والديني ومنظمات الإغاثة مشبعا بنظرة تميل إلى الانتصار للحياة، وحياة امرئ أعظم عند الله من كل المقدسات، ومن ثم فإن منح الحياة للعالقين، هو تعبير أصيل عن الروح الدينية التي تعظم الإنسان المكرم والمستخلف.
سوريا وتركيا.. الحاجة إلى التضامن الإنساني
تقتضي بعض السياقات التي يعم فيها الاضطراب توجيه النظر إلى الجانب الإنساني في التعامل مع القضايا التي تستثيرها الأحداث والكوارث، وليس النظر وحسب في التداعيات والنتائج المترتبة على تلك الكوارث، أو الانشغال ببعض الأسئلة التي تجرف الوعي نحو الجوانب الدينية أو أنماط من التذكير الخاطئ في الزمن الخاطئ، مما يعكس خللا في الوعي بالرحمة المطلقة التي يفيض بها الرحمن الرحيم على خلقه، كما يعكس نزوعا إلى الخلط بين البعد الكوني والجانب الديني الشرعي، مما ينتج عنه خلل في التصور والفهم.
كثيرا ما ينظر في الكوارث الطبيعية على أنها عقاب إلهي وعذاب، فيتحول البعض من مقام التذكير والوعظ الديني، إلى تقديم قصاصات دينية تستلذ بآلام الناس، أو بالأحرى تغيب العلوم والمعارف في معرفة القوانين والسنن الطبيعية التي تجري على الوجود وينبغي الوعي بها، بل إنه لا شبيه بالشعب السوري في مجابهته جبروت سلطة مستبدة، أو سعي تركيا نحو التقدم واستعادة السيادة والتموقع في الصراع الدولي والإقليمي.
في صلب ذلك، معركة تدور رحاها بأدوات ناعمة لاستعادة معالم هوياتية جرفت تحت رياح تحديث قسري، عمل على تفكيك نظام القيم المجتمعية ذات الصبغة الإسلامية التي تربطها بروح الشرق، قبل أن يوطّن لأنموذج يحمل في جيناته صداما مع الدين والهوية الحضارية الإسلامية نظرا لإعجاب أتاتورك بالعلمانية اليعقوبية الفرنسية.
في هذه الحالات التي تتكرر كل لحظة وحين لتعبر عن أزمة وعي ديني يزيد من تسطيح الفكر ويضر معالم الرؤية الإسلامية أكثر مما يخدمها، فإن الصمت حكمة وضرورة، عملا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم “من كان يومن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”، أما قول الخير فهو التذكير بالأبعاد التكافلية والتضامنية التي يحفل بها النظام القيمي الإسلامي، وهي جوانب في التكافل قائمة مع مطلق بني الإنسان، فكيف إذا كان الذين قضوا تحت ركام الزلازل وفي الكوارث الطبيعية، من تجمعهم روابط دينية وثقافية مشتركة ومصير موحد.
إن أشكال الخطاب التي تتجه بالإنسان إلى نوع من الترهيب بخصوص العقاب الإلهي تسيء للخالق جل جلاله، كما تسيء للدين إساءة بالغة، فهي تقصره على جانب العذاب دون الرحمة، ورحمة رب العالمين وسعت كل شيء، ألم يقل في كتابه العزيز “ورحمتي وسعت كل شيء” وهي من المحكمات. كذلك اتسق الخطاب القرآني ليؤسس فهما يتجاوز الموروث الديني الذي حفل به الوعي البشري مع ما خلفته الأساطير عن نزاع الآلهة وغضبها ونزعتها الانتقامية.
كما أن هذا الخطاب يقصي البعد الديني ويصنع حالة تناقض بين الدين والعلم وبين الخطاب القرآني والخطاب العلمي أو مقتضيات النظر العلمي في تفسير الظواهر، دون أن نغفل أن قدرة الله محيطة بكل شيء، وإرادته وقضاءه في الوجود لا راد لهما، لكن تنمية الوعي العلمي بتساوق مع خطاب الرحمة في القرآن سيجعل من العلم والدين يتساوقان لخدمة الإنسان ورعايته، بل سيجعل من الخطاب الإسلامي نفسه ملاذا للإنسان من الأهوال التي تتركها الكوارث على الناجين، أو على الوعي الإنساني برمته في ما يتعلق بسؤال الشر في الوجود، فالرحمة كلية من الكليات القرآنية، وهي قيمة مركزية ومبدأ يتجاوز مدركات الإنسان القاصرة، التي تحاول إلباس هواجسها وتناقضاتها الذاتية لبوسا دينيا في بعض الأحيان.
ورد في القرآن الكريم مما ينبغي التذكير به في هذا السياق، قول الباري سبحانه وتعالى “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”، وأشكال بعث الحياة في الناس التي تجري على يد الإنسان متعددة، منها عدم القتل والتعرض بالأذى للآخرين، لكن إنقاذ العالقين ومد المساعدة لهم في لحظات الغرق أو الزلازل وفي جميع الحوادث والكوارث الطبيعية والحروب، أحد المقاصد الثانوية في الآية الكريمة، وهو ما ينبغي أن يشكل هاجس الوعي الإسلامي والإنساني برمته في اللحظة الراهنة مع ضحايا الزلزال في تركيا وسوريا، فالزلزال، وكل الأحداث قد تكون باعثا للإنسان نفسه للحياة، تتحقق معها اليقظة الروحية، وينمو الحس والشعور الإنساني الذي قد يتعرض للتبلد، فالانفصال عن الشعور الإنساني لا يكون بالموت أو مفارقة الروح للجسد، إنما بالانفصال عن آلام الآخرين، والاهتمام بقضايا الإنسان، ينمي الشعور بالمسؤولية الجماعية والعلاقات التراحمية بين بني البشر، التي تخفف أشكال الظلم والتفاوت السائد.
ختاما، لعل اللحظة الراهنة في سياق الزلزال المدمر والعنيف الذي أصاب تركيا وسوريا، بحاجة لأن تكون دافعة للانتصار للإنسان في العالمين العربي والإسلامي، وتكثيف أشكال التعاون والتضامن الرسمي والشعبي، من منطلق إنساني ومن خلال أواصر الأخوة والبعد الإنساني التي تتجاوز حسابات المصالح الضيقة والصراعات السياسية، وهي مطلوبة في العلاقة بين كل البشر، فكيف بمن تجمعهم روابط مشتركة، فالأزمات بحاجة لأن تكون منطلقا لتوحيد الإرادات وباعثة على إذابة الخلافات وتجاوز النتوءات من أجل الإنسان والحياة.
وكما أنه ينبغي تجاوز الصراع السياسي من أجل الإنسان السوري، فإن الخلاف السياسي أو الموقف من رئيس تركيا، أو نهج سياسي معين، ينبغي ألا يحضر في التضامن مع تركيا، بل وحتى توظيف ذلك في السياق التركي نفسه سيكون تعبيرا عن أزمة، وهو ما نأمل أن يتجاوز إلى تعميق الشعور الإنساني النبيل بآلام من أصابتهم الكارثة والتضامن معهم بمختلف أشكال التضامن.