الأسرار الكيميائية للتحنيط.. فريق علمي مصري ألماني يكشف أحد ألغاز قدماء المصريين | علوم
لطالما كانت الحضارة المصرية القديمة كنزا لا ينضب من الأسرار والمفاجآت التي أذهلت علماء الآثار وأثارت حيرتهم وكانت محل دراستهم، بداية من فك رموز اللغة الهيروغليفية وأسرار بناء الأهرامات ولغز تحنيط الجثث وحتى الأصباغ الزاهية التي تزين رسوم جدران المقابر الفرعونية.
رؤى جديدة
وقد نجح فريق من العلماء المصريين والألمان في طرح رؤى جديدة حول المواد الكيميائية التي استخدمها قدماء المصريين في تحنيط موتاهم، وذلك عن طريق تحليل المخلفات الكيميائية الموجودة في أوعية مستخرجة من ورشة التحنيط في سقارة بالقرب من هرم أوناس، اكتُشفت عام 2016، وقد نشر الفريق نتائج أبحاثه في دورية “نيتشر” (Nature) في الأول من فبراير/شباط الجاري.
البحث هو نتاج لجهود مشتركة بين المركز القومي للبحوث بالقاهرة وجامعة “لودفيغ ماكسيميليان” (Ludwig Maximilian University) وجامعة “توبنغن” (University of Tübingen) الألمانيتين.
وقد أجريت جميع التحليلات في مصر بمساعدة الدكتور رمضان حسين أستاذ المصريات في جامعة “توبنغن”، الذي اكتشف وقاد أعمال التنقيب في مشاريع مقابر سقارة (والذي توفي بشكل مفاجئ في الربيع)، حسب ما أفاد الدكتور ماكسيم راجوت من جامعة “توبنغن” في البيان الصحفي الذي نشرته الجامعة.
مطابقة الاسم مع المادة
يذكر البيان الصحفي أن الخبراء قد حنطوا الموتى في ورشة التحنيط في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وقد كان اكتشاف العديد من الأواني المستخدمة في تلك الورشة من قبل الحرفيين المصريين المهرة ضربة حظ هائلة لعلماء المصريات الذين استطاعوا تمييز الأواني بحسب محتوياتها السابقة.
بل إن بعضها كان منقوشا عليه تعليمات للاستخدام، كما أفادت سوزان بيك من جامعة “توبنغن”، التي تقود عمليات التنقيب، وتقول “لقد عرفنا أسماء العديد من مكونات التحنيط هذه منذ فك رموز الكتابات المصرية القديمة، ولكن حتى الآن لم نستطع إلا تخمين المواد التي كانت وراء كل اسم”.
ومن النصوص المصرية القديمة ترجم العلماء بعض أسماء المواد الكيميائية التي استخدمها المصريون في التحنيط، ومنها مادة “antiu” التي ترجمت منذ مدة طويلة على أنها نبات المر أو اللبان، ولكن تحليل المخلفات الكيميائية في الأوعية أتاح عزل البقايا الجزيئية لتلك المواد التي كانت تستخدم في السابق في وعاء معين والتعرف عليها، وكشف عن أن هذه المادة في الواقع هي مزيج من مكونات مختلفة، وقد تمكن العلماء من فصلها بمساعدة كروماتوغرافيا الغاز (قياس الطيف الكتلي)، واكتشفوا أن هذا المزيج يتكون من زيت الأرز وزيت العرعر (السرو) والدهون الحيوانية.
وقد مكنت مقارنة المواد التي تم تحديدها مع الملصقات الموجودة على الأوعية فريق الباحثين لأول مرة من تحديد المواد التي استخدمت بالضبط لتحنيط أجزاء معينة من الجسم، فعلى سبيل المثال استخدم صمغ الفستق وزيت الخروع فقط للرأس.
ويقول فيليب ستوكهامر، عالم الآثار في جامعة “لودفيغ” الذي موّل البحث من خلال منحة “إي آر سي ستارت غرانت” (ERC Start Grant) الخاصة به، “ما أدهشنا حقا هو أن معظم المواد المستخدمة في التحنيط لم تكن من مصر نفسها، لقد استورد بعضها من منطقة البحر الأبيض المتوسط، وحتى من أفريقيا الاستوائية وجنوب شرق آسيا”.
شبكة تجارية عالمية
إلى جانب صمغ الفستق وزيت الأرز والقطران، التي من المحتمل أنها كلها قد جاءت من بلاد الشام، وجد الباحثون أيضا بقايا صمغ الدمر (dammar gum) وصمغ الإليمي (elemi resin)، وتظهر هاتان المادتان على وجه الخصوص كيف أصبحت العلاقات التجارية معولمة بالفعل منذ ما يقرب من 3 آلاف عام، فبينما يحتمل أن يكون صمغ شجرة الإليمي جاء إلى مصر من أفريقيا الاستوائية أو جنوب شرق آسيا، فإن شجرة الدمر -حسب ما هو متوفر من معلومات علمية حتى يومنا هذا- تنمو فقط في جنوب شرقي آسيا.
ومن الواضح أن جهودا هائلة قد بذلت في الحصول على مواد كيميائية محددة جدا لعملية التحنيط وذلك يدل على وجود علاقات تجارية دولية، كما يقول راجوت الذي يضيف “في النهاية، ربما لعب التحنيط المصري دورا مهما في الظهور المبكر للشبكات العالمية، وكانت هناك حاجة إلى كميات كبيرة من هذه الأصماغ الغريبة”.
ويوافق ستوكهامر على ذلك قائلا “بفضل كل النقوش على الأوعية، سنكون قادرين في المستقبل على فك رموز مفردات الكيمياء المصرية القديمة التي لم نفهمها فهما كافيا حتى الآن”.
المصدر : مواقع إلكترونية + مواقع التواصل الاجتماعي