تأملات في عذوبة الأرض.. كيف جاءت شهادات رواد الفضاء عن رحلتهم الأولى إلى هناك؟
مقدمة للترجمة:
منذ اللحظة الأولى التي صعد فيها البشر إلى الفضاء، شاعت الكثير من الخرافات عما رأوه هناك وما شعروا به وما الذي دار في أذهانهم حقا. في هذه المادة، تهتم مارينا كورن، محررة “ذا أتلانتك”، بإجابة هذا السؤال، وقد قررت أن تُجري مجموعة من الحوارات المهمة، سواء مع هؤلاء الذين خاضوا التجربة أو مع علماء قرروا فحص أثر هذه التجربة على مَن اختبروها، لتصل في النهاية إلى شعور اختبره الجميع يمثل إدراكا جديدا تماما للعالم سُمي “تأثير النظرة العامة”، فما طبيعة هذا الشعور؟
نص الترجمة:
بمجرد أن وطأت قدمه الأرض من جديد بعد رحلته الأولى إلى الفضاء، وقف الممثل الكندي “ويليام شاتنر” البالغ من العمر 90 عاما في هذه اللحظة العصية من الزمن مُفعما بعواطف جياشة وسط العشب المليء بالغبار في صحراء غرب تكساس، حيث هبطت المركبة الفضائية التابعة لشركة “بلو أوريجين” (Blue Origin) التي يملكها الملياردير الأميركي جيف بيزوس، وكان ذلك في أكتوبر/تشرين الأول عام 2021.
استقبل جيف بيزوس الممثل الكندي بحماس، لكن الأخير وقف شارد النفس لا يلاحظ ما يحدث حوله، ووجد صعوبة في السيطرة على دموعه التي انهمرت على خديه، وسرعان ما بدأ في وصف ما شاهده بنبرة صوت خافتة موجِّها حديثه لبيزوس: “ما قدمته لي هو أعمق تجربة يمكن تخيلها. لقد خضت غمار تجربة مُذهلة بصورة استثنائية، وآمل ألا أتعافى من أثرها أبدا”. تأثر الرجل الذي لعب دور الكابتن كيرك (في مسلسل “ستار تراك” في الستينيات) كثيرا بهذه الرحلة، لدرجة أن تصريحاته بعد هبوطه من المركبة استمرت لفترة أطول من تلك الدقائق الثلاث التي قضاها في الفضاء.
يبدو أن شاتنر اختبر ظاهرة عاشها العديد من رواد الفضاء المُحترفين من قبل، وهي “تأثير النظرة العامة” (overview effect) (وتعرَّف بأنها تحول إدراكي في وعي رواد الفضاء بعد مشاهدتهم للأرض من بعيد، فيصبح ما يرونه خارج الكلمات والحروف، وعصيٌّ على الوصف). يتراءى لهؤلاء المسافرين كوكب الأرض مثل كرة مُعلَّقة تومض في غياهب الفضاء المُظلم، هذه الواحة المُفعمة بالحياة، السابحة في فراغ صامت وظلام دامس قادرة على أن تملأ نفوسهم بالرهبة. تعبيرا عن ذلك الشعور، كتب آلان شيبرد عام 1962، وهو أول رائد فضاء أميركي يصعد إلى هناك: “لا يمكن لأي شخص مهما جشّم نفسه عناء الاستعداد لمثل هذا المشهد ألا يستحوذ عليه الذهول التام في النهاية”.
كرة صغيرة سابحة
استطاع مشهد الغيوم والقارات والبحار بالأسفل أن يُشكِّل لدى رواد الفضاء نقاط ثِقل إدراكية مختلفة وجديدة تماما فيما يتعلق برؤيتهم للكوكب، وطبيعة الآصِرة التي تربطه بالجنس البشري. في أحد خطاباته عام 1974، وصف راسل روستي شويكارت، رائد الفضاء الأميركي الذي أمضى 10 أيام يدور حول الأرض في مهمة “أبولو-9” هذا الشعور بقوله: “كلما ابتعدت عن الأرض، ستتبدى لك بقعة صغيرة ثمينة مُفرطة الضعف والهشاشة، تسبح في هذا الكون الشاسع وتتضاءل شيئا فشيئا إلى أن تتمكن من حجبها بأحد أصابع يديك”.
يرى مايكل كولينز، رائد الفضاء الأميركي الذي اشترك في مهمة “أبولو-11” للهبوط على سطح القمر، أنه إذا تمكَّن قادة العالم من خوض هذه التجربة العميقة واختبروا “تأثير النظرة العامة”، فسيُفضي ذلك إلى حل جميع الخلافات السياسية المُستعصية، وذلك ما أكده في مذكراته التي نُشرت بعنوان “حمل النار” (Carrying the Fire) حينما قال: “في رحاب لحظات كهذه، تتلاشى الحدود بطريقة ما، وننأى كثيرا عن صخب الأرض وضجيجها، وتخرس فجأة النزاعات كافة، وتدلف أخيرا إلى الصمت”.
ينضم إلى ركب رواد الفضاء هؤلاء جين سيرنان، رائد الفضاء الأميركي، وواحد من الأشخاص الذين ساروا على سطح القمر. راودت سيرنان رغبة شديدة في أن يخوض بقية البشر التجربة التي عاشها في الفضاء ويشهدوا على الأرض من بعيد، فكتب يقول عام 1985: “لو تمكَّن الجميع من استيعاب جمال هذه التجربة والمغزى منها، فلن يعني ذلك أن الحياة ستتبدل بغتة إلى حياة مثالية أو مدينة فاضلة، لكن ما سيتمخض عن هذه التجربة قد يصنع فارقا على الأقل”.
بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود، ظلت رحلات الفضاء حلما بعيد المنال. لكن اليوم على عكس عصر سيرنان -الذي اختص رواد الفضاء المُحترفين فقط بهذه الرحلات- أصبح لدى المقتدرين ماديا فرصة حجز مقعد على مركبة فضائية والسفر إلى الفضاء في رحلة سياحية. في صيف 2021، أطلقت شركة “بلو أوريجين” للرحلات الفضائية التابعة لجيف بيزوس مركبة فضائية حملت على متنها 31 شخصا في رحلة إلى حافة الفضاء، في حين أرسلت شركة “سبيس إكس” (SpaceX) التابعة لإيلون ماسك سبعة سياح إلى الفضاء، قضى ثلاثة منهم أكثر من أسبوعين في محطة الفضاء الدولية. أما الرحلة التالية التي ستُطلقها “سبيس إكس” فستُتيح للسياح مغادرة كبسولتهم الفضائية والتمتع بنزهة صغيرة في الفضاء.
باعتبار أن رحلات الفضاء التجارية باتت الآن أقل تكلفة وأكثر شيوعا، بات بإمكاننا الآن اختبار صحة تأثير النظرة العامة التي أشار إليها سيرنان، وما إذا كانت هذه التجربة ستُثري حياة الناس، لتصبح أعمق وأحفل بالمغزى إذا اختبرها عدد كافٍ منهم. ومَن يعلم، فقد يظهر على الجانب الآخر مجموعة متنوعة من المُسافرين تمنحهم التجربة دفقات من مشاعر مُختلفة، ليجودوا في النهاية بعبارات مختلفة عن تلك التي أطلقها رواد الفضاء من قبل. وهنا يأتي السؤال الأهم: “كيف سيتبدى لجيل المسافرين الجدد موطنهم وهم يرنون إليه من الفضاء”.
تاريخ “تأثير النظرة العامة”
صاغ فرانك وايت مصطلح “تأثير النظرة العامة” لأول مرة في أوائل الثمانينيات بعد خوضه رحلة بالطائرة عبر البلاد لا في الفضاء كما قد يُخيّل للبعض. منحه التحليق من على ارتفاع مناسب إطلالة رائعة أثارت في نفسه التساؤلات. كان وايت مُنتسبا إلى معهد دراسات الفضاء، وهو مؤسسة غير ربحية أسسها عالم الفيزياء بجامعة برينستون “جيرارد ك.أونيل”، الذي لطالما اعتقد أن الناس سيعيشون يوما ما داخل محطات فضائية تحاكي الظروف الطبيعية للأرض (حضر بيزوس وهو طالب في شبابه محاضرات أونيل، بعدها أسس شركة “بلو أوريجين” لتحويل النظرية إلى واقع).
عندما حَلَّق وايت غربا من الساحل الشرقي فوق السهول والجبال والصحاري، التمعت في ذهنه فكرة أن ذلك المشهد العذب سيكون حاضرا دائما أمام ناظرَيْ مَن سيقطنون الفضاء، فكتب لاحقا يقول: “سيكون هؤلاء قادرين على رؤية كل شيء في الأسفل وهو في غاية من الانسجام والاتساق، وسيدركون أن تلك الكينونة المتمادية في التعملق، التي تُمثِّل “العالم” بالنسبة للناس على الأرض، ما هي إلا كوكب صغير هائم في الفضاء”.
للبحث عن أدلة تؤكد نظريته، بدأ وايت في إجراء مقابلات مع رواد الفضاء. وبحلول أوائل الثمانينيات، انطلق العشرات منهم إلى الفضاء، ووصفوا فيما بعد التجربة التي خاضوها في المقابلات الصحفية ومذكراتهم، لكن ما من أحد قرر أن يطرح عليهم أسئلة قد تجلو ما خفي من ذواتهم، وتمتحن الأثر الحقيقي للتجربة في نفوسهم. أدرك وايت أنه ليس من الضروري أن تُسفِر هذه التجربة عن تغيير في نفوس كل مَن خاضوا غمارها، لكنه لاحظ مع ذلك بعض السمات الشائعة بين رواد الفضاء بعد عودتهم إلى الأرض، ولخَّصها في مصطلح “تأثير النظرة العامة” (The Overview Effect)، الذي صاغه لأول مرة عام 1987.
لاحظ وايت أثناء بحثه أن شعور رواد الفضاء بالانتماء الوطني تلاشى تماما وحل محله شعور الانتماء إلى البشرية جمعاء، وتشكَّلت آصرة جديدة بينهم وبين كوكبهم الأم الذي ربضوا في كنفه عمرا، وهو المصدر الوحيد المعروف للحياة في عالم مبتور الصلة بأي علامات تشي بوجود حياة. بدت لهم الأرض من بعيد بغلافها الرقيق هشة وضعيفة وبحاجة إلى مَن يحنو عليها. هذه النسخة من “تأثير النظرة العامة” ترسخت في مخيلة الجمهور، وعززتها الكتب والأفلام الوثائقية على مر السنين. بيد أن “تأثير النظرة العامة” أقرب ما يكون إلى لفتة لطيفة يمنحها الكون لأي شخص يملك من الشجاعة ما يكفي للمغامرة خارج الأرض.
على الجانب الآخر، كتب جوردان بيم، المؤرخ من جامعة شيكاغو الذي تدور أبحاثه حول تاريخ استكشاف الفضاء: “يمكن اعتبار تأثير النظرة العامة ظاهرة ثقافية بقدر ما هو ظاهرة فلكية. إنه سرد بشري شكَّلته مجموعة متنوعة من الظروف الأرضية”. تبلور “تأثير النظرة العامة” مع ظهور جماعة من رواد فضاء تابعين لناسا، حاصلين على شهادات هندسية وخبرات عسكرية، ويعملون بصورة متجانسة للغاية.
ما وصل إليه هؤلاء الرجال حينذاك كان نتاج ما بذلوه من جهد ووقت في التدريب، ليكونوا أهلا لخوض الرحلات الفضائية التي كانت في ذلك الوقت جبهة جديدة تنطوي على مخاطر تتطلب ثباتا عقليا بقدر ما تتطلب ثباتا جسديا. لعب ضرورة إظهار الجوانب المثالية فقط في التجربة دورا كبيرا في تشكيل اللغة التي تبناها رواد الفضاء لوصف التجارب التي خاضوها، وهذا ما أشارت إليه الطبيبة النفسية باتريشا سانتي التي تعمل منذ مدة طويلة في مركز جونسون للفضاء التابع لناسا في هيوستن، فكتبت عام 1994 تقول: “كان التعبير عن مشاعر مثل الحزن أو الخوف يُعَدُّ ضعفا”.
حتى إذا نجح مشهد الأرض وهي هائمة في الفضاء يحفها الظلام من كل جانب في إثارة مشاعر الخوف والحزن في نفوس رواد الفضاء، فعلى الأرجح لن يعترفوا بذلك خشية أن يتسبب هذا الاعتراف في تضييع فرصة انضمامهم إلى المهمة التالية. من الناحية الدينية، استطاعت هذه التجربة أن تؤثر في لغة العديد من رواد الفضاء، فاعتمدوا في وصفهم على عبارات دينية، مثل رائد الفضاء الأميركي جين سيرنان الذي صرّح ذات مرة قائلا: “في لحظات كهذه ستكتشف أن ما يتصدر المشهد في الأسفل هي حدود الطبيعة التي خلقها الله”.
بيد أن ملاحظات سيرنان تعكس خلفيته الدينية، كما تعكس أيضا سباق الفضاء (بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة) الذي كان جزءا من الحرب الباردة. وفي هذا السياق، ترى ديانا ويبل، عالمة الأنثروبولوجيا الثقافية بجامعة جراند فالي ستيت في ميشيغان بالولايات المتحدة، أنه في حين أن تجربة كهذه عززت من شعور رواد الفضاء بأن الله يقف إلى جانبهم، فإنها لم تؤثر بالشكل ذاته على رواد الفضاء السوفييت الأوائل الذين لم ينسبوا مشهد جمال الأرض من الفضاء إلى قوة إلهية أكبر.
ألقى شبح الحرب النووية بظلاله أيضا على بعثات الفضاء المبكرة. في الوقت الذي انخرطت فيه قوتان عُظميان في سياسة حافة الهاوية، كان الأمر على الجانب الآخر مذهلا للغاية فيما يتعلق بعالم بلا حدود في الفضاء الخارجي. بدا مشهد الأرض من بعيد بالنسبة للبعض مصدر إلهام قادرا على أن يبعث الأمل في أوصال البشرية، وكثيرا ما تمنى رائد الفضاء الأميركي راسل شويكارت أن يأخذ كل فرد مسؤول عن هذه الحروب ويريه كوكب الأرض من بعيد ويقول له: “انظر إلى هذا المشهد جيدا، ما قيمة هذه الحروب التي تصبغ العالم بعنف لا مُسوِّغ له؟”.
غير أن آخرين لم يروا أي إشارات بالسلام، وإنما تبدت لهم في هذه اللحظة مؤشرات دمار تنتشر في كل مكان. وعن ذلك تحكي عالمة الأنثروبولوجيا ديانا ويبل، التي أجرت حوارات مجهولة مع رواد فضاء من أجل أبحاثها، أن أحدهم أخبرها أن مجرد نظرة واحدة من نافذة المركبة الفضائية على كوكب الأرض كانت كفيلة بجعله موقِنا تماما أن فناء البشرية سيكون على يد البشر أنفسهم في مدة تتراوح ما بين 500-1000 عام من الآن، لكنه لم يصرِّح بذلك علنا.
إطلالة شاملة على الكون
تُعَدُّ كبسولة “سبيس إكس” الفضائية التي تنقل رواد الفضاء إلى محطة الفضاء الدولية أنيقة ومُعاصرة للغاية. أضافت الشركة قبل مهمتها السياحية الأولى نافذة زجاجية كبيرة على هيئة فقاعة توفر للسائحين إطلالة شاملة على الكون دون عائق، بما في ذلك كوكبهم الذي تركوه وراءهم. تلعب هذه الكبسولة دورا في تحويل “تأثير النظرة العامة” إلى وسيلة تُخوِّل للسياح سبلا للتأمل والراحة. وصفت رائدة الأعمال شارن هاغل رحلتها بعد عودتها من الفضاء مع شركة “بلو أوريجين” قائلة: “كانت تجربة مؤثرة للغاية ومُفعمة بالمشاعر، وقادرة على تغييرك، لأنك في رحاب تجربة كهذه ترنو بإجلال إلى تقوس الأرض، وتكوين السحب، وتدرك حينها مدى صغر حجم كوكبنا”.
تبنى آخرون مسارا فكريا مختلفا قليلا بعد خوض هذه التجربة، منهم سيان بروكتور، عالمة الجيولوجيا والفنانة التي قضت عدة أيام في رحلة فضائية تدور فيها حول الأرض عام 2021. لم يكن شعور الانتماء إلى الكوكب ومدى قوة الآصرة التي تربطنا به هو ما تسلل إلى وجدان سيان حينذاك، وإنما السطوع الشديد للأرض كان أشد ما أسرها حقا، فكتبت تقول: “لا شيء يضاهي أن تكون هناك، مغمورا بضوء الأرض بينما تطفو في الفضاء الغارق في ظلام دامس”. تُعَدُّ بروكتور رابع امرأة أميركية من أصحاب البشرة السمراء تمكنت من الذهاب إلى الفضاء، ورسمت خلال رحلتها الأرض لتصف عجائب كوكبنا ومفاتنه.
سافرت هايلي أرسينو، طبيبة مساعدة، مع بروكتور، لكن مجال مهنتها أثَّر على رؤيتها للمشهد، فكان أول ما بدر إلى ذهنها هو التحدي المتعلِّق بتوزيع الرعاية عبر الحدود التي رسمها الإنسان، فكتبت تقول في مذكراتها الأخيرة: “صحيح أن شعورا بالائتلاف والوحدة قد غمرني، لكنه أيضا جعلني أفكر في أوجه التفاوتات في تقديم الرعاية الصحية من بلد إلى آخر، إذ كيف يمكن لشخص وُلد في أحد جوانب الكرة الأرضية أن يتلقى تشخيصا مختلفا تماما عن ذاك الذي وُلد على الجانب الآخر؟! في اللحظة التي شاهدت فيها جميع دول العالم مُصطفة بجانب بعضها في مشهد واحد، داهمني شعور بالظلم أكثر من أي وقت مضى، وتساءلت: كيف يتأتى لهذا القبح أن يخرج من باطن ذلك الجمال كله؟”.
مشهد الأرض يُثير مكامن الأحزان
على جانب آخر، لم تُثر التجربة في وجدان بعض السياح الشعور ذاته الذي وصفته الحكايات النبيلة القديمة عن الفضاء، وأقرب مثال على ذلك هي والي فانك، الطيّارة الأميركية المُخضرمة التي رافقت جيف بيزوس في رحلة سياحية إلى الفضاء في صيف عام 2021. بيدَ أن التجربة لم تحقق لها ما كانت تصبو إليه، وهذا ما ظهر في تصريحها بعد عودتها من هناك: “اعتقدتُ أنني سأرى العالم، لكننا لم نكن على ارتفاع كافٍ لبلوغ هذا الهدف المنشود”. في حين كان أكثر ما جذب انتباه جاريد إيزاكمان، الملياردير الذي حجز لنفسه وثلاثة آخرين رحلة إلى الفضاء عن طريق شركة “سبيس إكس”، مشهد القمر وهو ينبثق من باطن الظلمة، وعبّر عن رحلته قائلا: “بدا كوكبنا كما اعتقدت دائما، كرة زرقاء كبيرة ومتوهجة هائمة في الفضاء”.
يبدو من تصريح إيزاكمان أن ما كان مشهدا جديدا وقادرا على أن يبعث الدهشة في نفس ألان شيبرد (أول رائد فضاء أميركي يذهب إلى هناك)، بات الآن مشهدا مألوفا للغاية ومتوقعا. ومَن يعلم، فقد يصبح التقاط صورة للكرة الزرقاء المتوهجة، ونشرها على إنستغرام أمرا عاديا ومألوفا مع نمو سياحة الفضاء. غير أن هذا المشهد أثار مكامن الأحزان في قلب الممثل الكندي “ويليام شاتنر”، فرغم استخدامه لعبارات مألوفة في وصف هذه الرحلة بمجرد أن وطأت قدمه الأرض، فإن حديثه جاء فيما بعد أشد قتامة مما صرّح به أي رائد فضاء على الإطلاق، فكتب يقول في مذكراته التي نُشرت مؤخرا: “استطاع مشهد الأرض من بعيد أن يُشعل جذوة من الحزن الساحق في أعماقي”.
يحكي شاتنر عما حدث في نفسه من انقلاب وعن هذا التحول العميق في رؤيته للأمور بقوله: “استغرق مني الأمر ساعتين من الانفراد بذاتي لأدرك أن الشعور الذي ترسب في أعماقي كان حزنا عميقا، حزنا على كوكبنا ومصيره”. وعلى عكس ما توقع، لم يغمره هذا المشهد البديع بالسعادة، لكنه ذكّره بالمخاطر والتهديدات التي يواجهها كوكبنا، وأولها تغير المناخ. يقول شاتنر إن ذلك الشعور بالحزن ما زال يلازمه إلى الحد الذي تدمع معه عيناه بمجرد الحديث عنه. ومع ذلك، ثمة أيام يستطيع فيها أن ينظر إلى الأمور بعين تتلمس مواضع الرضا والتفاؤل، لكن في الوقت الذي غلب على حديثه الأسى وصرّح بعبارات حزينة، كان قد قرأ مقالا لتوه عن حجم جزيئات البلاستيك التي تتخم بها البيئة.
بقدر ما يمكن لظاهرة “تأثير النظرة العامة” أن تضرب بجذورها بعمق في نفوس مَن اختبروها، فإنها تتلاشى في النهاية بمجرد أن يعودوا إلى الأرض من جديد، وتستعيد المسؤوليات الحياتية سطوتها عليهم. في السياق ذاته، يقول دوغ هيرلي، رائد فضاء متقاعد من وكالة ناسا: “لا يسعنا أن نستسلم طويلا إلى سبات هذه التجربة، لذا نخضع سريعا إلى تيار الحياة المُتدفق الذي يُحتِّم علينا العمل، وكسب المال، ورعاية عائلاتنا”. وعند سؤال زوجته “كارين نيوبيرغ”، وهي أيضا رائدة فضاء، عما إذا كان الزوجان قد سبق وتحدثا بعمق عن هذه التجربة وما تمخضت عنه من تغيير في نفوسهم، كان جوابها أنهما ربما خاضا محادثة كهذه، لكنها لا تذكر تفاصيلها بدقة.
من جانبها تقول كاتيا إشازاريتا، أول أميركية من أصل مكسيكي تسافر إلى الفضاء على متن مركبة فضائية تابعة لشركة “بلو أوريجين” عام 2022، إنها شعرت بالمسؤولية تجاه أهمية مشاركة تجربتها مع ظاهرة “تأثير النظرة العامة” رغم تلاشي هذا التأثير سريعا بمجرد عودتها إلى الحياة الطبيعية، وعلّقت قائلة: “كان الجزء الأصعب بعد عودتي هو الإجابة عن السؤال نفسه آلاف المرات مع الحفاظ على النبرة الحماسية ذاتها في كل مرة”. أما كريس كاسيدي، وهو رائد فضاء متقاعد تابع لوكالة ناسا، خاض العديد من الرحلات على متن مكوكات فضائية، فيحكي عن ألسنة اللهب التي شهدها تتصاعد من غابات الأمازون المطيرة. استطاع هذا المشهد أن يؤجج داخل كاسيدي الشعور بخطر تغير المناخ، والحاجة المُلِحَّة لمواجهة هذا التغيير، وحفزه أيضا على أن يصبح مواطنا يتعامل مع كل شيء يخص سلامة الكوكب بطريقة أفضل، غير أن التجربة لم تغيّره تغييرا جذريا على المستوى الشخصي، كما قال: “لم تجعلني هذه التجربة أبا أفضل، أو صديقا أَجْدَر، أو زوجا أنفع”.
قال رائد الفضاء الأميركي مايكل كولينز ذات مرة: “إن أنسب طاقم لمهمة أبولو سيكون فيلسوفا وشاعرا ورجل دين، لكن لسوء الحظ قد يقتلون أنفسهم وهم يحاولون قيادة المركبة الفضائية”. تغير الوضع اليوم، وبات لمثل هذا الثلاثي فرصة الذهاب بسهولة في رحلة إلى الفضاء، لكن بشرط أن يكون هناك شخص ما على استعداد لدفع تكلفة هذه الرحلة، وربما حينذاك يعود كل واحد منهم بأفكار مُختلفة عما كان يتبناها.
إن رحلات الفضاء قادرة على أن تثير دائما مشاعر الجميع، سواء كانوا رواد فضاء محترفين أو مجرد سائحين. ولأن البشر خُلقوا ليعيشوا على سطح الأرض، لا ليتدلوا من فوقها، فإن مَن ذهب إلى الفضاء قُدِّر له أن يشهد على أشياء لم يكن من المفترض له أن يراها، ولعل أهم ما في هذه التجربة أنها لا تمنح نفسها للوصف بسهولة. في عام 1962، أرسل رائد الفضاء الأميركي “والتر شيرا” إلى زميله جون جلين -الذي انطلق في رحلة حول الكوكب في وقت سابق من ذلك العام- رسالة عبر اللا سلكي يقول له فيها: “ألا يُعَدُّ ذلك كله عصيًّا على الوصف يا جون؟!”.
——————————————————————————————————–
هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
ترجمة: سمية زاهر.