رفض تعيين المدير السابق لهيومن رايتس ووتش.. عن الحياد والحرية في جامعة هارفارد | آراء
تابعت قضية تعيين كينيث روث بجامعة هارفارد بعناية كوني إحدى خريجات كلية كينيدي في هارفارد، ولطالما استوقفني حجم التمييز لمصلحة الطلاب الإسرائيليين في الجامعة على حساب غيرهم من الفلسطينيين، ومقدار الحرية الأكاديمية الحقيقية في الجامعة.
لمن لا يعرف رَفض عميد الكلية دوغلاس المندورف تعيين الرئيس السابق “لهيومن رايتس ووتش” كينيث روث زميلا في مركز كار لحقوق الإنسان لانتقاده الكيان الصهيوني. بالنسبة لي ليس أمرا غريبا في جامعة هارفارد؛ فهناك عشرات القصص التي أعرفها أنا وزملائي الخريجون عن تهميش الرواية والقضية الفلسطينية واحتضان الرواية والأجندة الصهيونية.
فمثلا، كل عام ولعشرات السنين الماضية، تلتزم كلية كينيدي بهارفارد باستقبال 10 طلاب من الكيان الصهيوني لينخرطوا بين الطلبة والأساتذة، بالإضافة إلى عدد من الزملاء في المراكز البحثية بالكلية بمنح كاملة من ليز وكسنر (ملياردير أميركي أسس مؤسسة غايتها دعم قيادة اليهود في العالم وفي الكيان الصهيوني في بداية الثمانينيات). يأتي العديد من هؤلاء “الطلبة” من الموساد وسلاح الجو ومكتب رئيس الدولة والجيش وغيرها من المواقع المختلفة.
لكم أن تتخيلوا أثر وجود هذه الكتلة في صفوف الجامعة مقابل طالب فلسطيني إلى 3 على أقصى تقدير. فمثلا، خلال وجودي بالجامعة نظم الطلبة عرض أزياء يعرض فيه الطلبة أزياء ثقافتهم، فلبست أنا الثوب الفلسطيني ولبس زميلي الكوفية وحين أتى دورنا لنمشي، قرأ عريف الحفل نصا كنا قد أعطيناه إياه مضمونه أن مُطرزة ثوبي لاجئة فلسطينية هاجرت خلال النكبة وتعيش في مخيم بلبنان، وأن الكوفية التي يلبسها زميلي هي رمز للمقاومة ضد الاحتلال المفروض على الشعب الفلسطيني.
بعد بضعة أيام تم استدعاؤنا لمكتب عميد الكلية وجلسنا على الأريكة مترقبين، وإذ به يوبخنا بدعوى أنه تسلم رسائل من طلبة آخرين لأننا جرحنا شعورهم ولم نرو قصتهم بل نشرنا “بروباغاندا”. هذه القصة من أبسط القصص عن التمييز في الجامعة، ولكنها مهمة لبساطتها حيث يمكن أن ترى بها كيف تبدو الصورة داخل الجامعة.
فكرت ما الذي تغيّر هذه المرة وجعل العميد يبعث رسالة يعتذر عن “الخطأ”، ويعتذر عن الضرر الذي ألحقه قراره ويعلن تراجعه عن القرار ويعين كينيث روث زميلا في الكلية. أنا لا أدعي دراية بكل القصة؛ فعميد الكلية دوغلاس المندورف حتى الآن لم يفصح عن الأشخاص الذين نصحوه برفض تعيين كينيث روث بعد أن قام فريقه من مركز كار بترشيحه، فمن أصحاب القرار الحقيقيون بجامعة هي الأغنى والأفضل، ولا تحتاج لأن تُحتكم لأي جهة!
وبالنسبة لعدوله عن قرار تعيين المدير السابق لهيومن رايتس ووتش، فهنالك 4 نواح مختلفة لهذه الرواية إذا قورنت بقصص شبيهة سابقة:
- أولا- صدور تقرير بقلم مايكل ماسينغ يكشف عن القصة في مجلة “ذا نيشين”، ونشر في الخامس من يناير/كانون الثاني 2023، علما بأن قرار عدم التعيين كان في صيف 2022. تقرير مفصل يسلط الضوء على سياسات الكلية التمييزية ويسلط الضوء على ممولي الجامعة -ومنهم عوفر وروبنشتاين ووكسنر وبلفير- وأثرهم في الكلية. التقرير كان مفصلا وعميقا استقصائيا وغريبا على الصحف الغربية الكبيرة التي باتت تتوانى عن طرح قضايا قد تضع عليهم ضغطا من “اللوبي” اليهودي في الولايات المتحدة.
- ثانيا- لم يكن التقرير ممكنا لولا أن كينيث روث وشخصين من داخل مركز كار لحقوق الإنسان تحدثا مع “ذا نيشن” عن القصة، وكشفوا عن تفاصيلها وفحوى الجلسات والرسائل الإلكترونية المتبادلة مع عميد الكلية، وهذا أمر غير مسبوق. فلطالما سمعنا كطلبة فلسطينيين في الكلية أساتذتنا يقولون لنا في غرف مغلقة إنهم مع الشعب الفلسطيني وحقوقه، وإن قضيتنا عادلة، ولكنهم لا يستطيعون أن يفصحوا بذلك جهرا لما له من ثمن على تطورهم الوظيفي. وسمعنا قصتي ستيفن والت وكورنال وست، وهما بروفيسوران مرموقان دفعا ثمن انتقادهما الكيان الصهيوني أو “اللوبي” اليهودي؛ مما أدى إلى عرقلة مسيرتهما الأكاديمية في جامعة هارفارد. ولكن في هذه الجولة كان الأمر مختلفا؛ أساتذة الكلية تحدثوا ليس فقط مع “ذا نيشن” بل أيضا مع زملائهم بالكلية والجامعة ومع العميد بشكل فردي وجماعي، ولبى العديد منهم دعوة العميد للقاء الأسبوع الماضي للحديث عن الأمر؛ فعبروا عن استيائهم وخيبة أملهم في جامعتهم وطالبوا العميد بالعدول عن قراره والإفصاح عن الأشخاص الذين نصحوه برفض التعيين.
- أما المتغير الثالث، فكان كينيث روث ذاته؛ فسمعته ومصداقيته وتاريخه جلبت احتراما واسعا وآذان مصغية واهتماما من قبل الإعلام، وحين كشفت “ذا نيشن” عن القصة لم يترك أي منصة من دون أن يرفع صوته بها. فكتب في “الغارديان” وتحدث مع إذاعة “إن بي آر” و”بوسطن جلوب” و”نيويورك تايمز” وغيرها. وسيطر على السردية وأطر القصة من خلال المقابلات والتغريد الكثيف على تويتر. فأصدرت بوسطن غلوب إثر ذلك مقالا عنوانه “على هارفرد أن تقف مع مبادئها لا مع إسرائيل”. حاول عميد الكلية الادعاء بأن قراره برفض تعيين كينيث روث كان متعلقا بما سيضيفه للكلية وليس بسبب الممولين (أي اللوبي اليهودي والتأثير الصهيوني) ولكن كينيث روث في مقابلاته وتغريداته دحض هذا الادعاء وحافظ على السردية التي كان مفادها أن من ينتقد الكيان الصهيوني في هارفارد يدفع الثمن، وحان الوقت لذلك أن يتغير.
- رابعا- وأخيرا كان تنظيم الطلبة والخريجين مميزا، علما بأن الجامعة كانت في إجازة والطلبة كانوا منتشرين في كل أنحاء العالم. واستغل الخريجون الفلسطينيون من كلية كينيدي الفرصة ونظموا تكتل الخريجين الفلسطينيين، وأصدروا بيانا ينادي باستقالة العميد وتعيين كينيث روث، وأشاروا إلى تجارب تمييز واضطهاد عاشوها بكلية كينيدي. وبعدها نُشرت عريضة موجهة لعميد الكلية المندورف ورئيس الجامعة الحالي والرئيسة القادمة، وجمعت توقيع أكثر من 35 كتلة طلابية من شتى الأصول والانتماءات، وتوقيع أكثر من ألف شخص من هارفارد. صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تتحرك فيها الكتل الطلابية، ولكن حجم التجاوب كان غير مسبوق. تتفاوت الأسباب الأربعة بأهميتها ولكنها كلها مهمة لأن كلا منها يغذي الآخر، ومهمة لما حققته وما قد تحققه في حال استمر الجهد.
فبعد عدول العميد عن قراره بتعيين كينيث روث، أصدرت العديد من الجهات -ومنها كينيث روث وتكتل الخريجين الفلسطينيين وغيرهم من كتل طلابية- بيانات تقول فيها إن العدول عن القرار جيد ولكنه غير كاف، وعلى العميد أن يستقيل وعلى الكلية أن تضع سياسات جديدة لضمان عدم تأثير الممولين و”اللوبي” الصهيوني على الحرية بالجامعة.
من المتوقع أن تتولى رئيسة جامعة هارفارد الجديدة منصبها في يوليو/تموز القادم. علما بأنها أول شخص من أصول أفريقية يتولى هذا المنصب، فلقد أتى تعيينها بعد أن اعتذرت جامعة هارفارد في ربيع 2022 عما مارسته من عبودية في تاريخها. فهل ستأتي رئيسة الجامعة الجديدة بتغييرات في صفوف إدارتها لتكون الجامعة مساحة للحرية تحترم حقوق الإنسان ولا ترضى بأي ضغط يقع على طلابها وزملائها وأساتذتها لآرائهم، كما لا ترضى بأن يكون انتقاد الكيان الصهيوني سببا لكبت الحريات الأكاديمية؟
أتمنى عليها كما تمنى قبلي تكتل الخريجين الفلسطينيين “أن تكون كلية كينيدي في هارفارد مؤسسة ترحب بالفلسطينيين ومن يقف معنا في نضالنا للحرية من الاحتلال والاستعمار. نتطلع ليوم يكون فيه دفاعنا عن حقوقنا وحريتنا سببا للتقدير والثناء لا للعقوبة”.