النقل من سجن لآخر.. سياسة إسرائيلية تضاعف عذابات الأسرى الفلسطينيين | أخبار حريات
غزة- خلال 10 سنوات قضاها الأسير المحرر بهاء الدين المدهون في سجون الاحتلال الإسرائيلي لم يستقر به الحال في سجن إلا ونالت منه سياسة التنقلات التي تنتهجها مصلحة السجون “لزعزعة الاستقرار وإرباك حياة الأسرى”.
وتمثل هذه السياسة أحد أسباب كثيرة أدت في أوقات سابقة إلى “انفجار” السجون وخوض الأسرى الفلسطينيين احتجاجات واسعة لإحباطها والحفاظ على وحدة الحركة الأسيرة وتماسكها.
يقول المدهون للجزيرة نت إن “هذه سياسة قديمة حديثة، ولأن سلطات الاحتلال تدرك قيمة الاستقرار لدى الأسرى فإنها بانتهاج التنقلات -سواء الدورية أو المفاجئة- تهدف إلى ضرب هذا الاستقرار وحرمانهم من استثمار سنوات الاعتقال”.
ومنذ بداية يناير/كانون الثاني الجاري ومع تولي الوزير المتطرف إيتمار بن غفير حقيبة الأمن القومي صعّدت مصلحة السجون سياسة التنقلات، ووثقت مؤسسات معنية بقضايا الأسرى في سجون الاحتلال أكثر من 220 حالة لأسير طالته هذه السياسة من مخطط إسرائيلي يستهدف ألفي أسير.
رحلة عذاب
“عندما تعرضت لأول مرة للنقل من سجن إلى آخر بعدما اعتدت على الأسرى والأجواء والمناخ شعرت بضيق شديد، إنه شعور مزعج، وكأنني أدخل السجن من جديد ولأول مرة” يقول المدهون الذي يتولى حاليا منصب وكيل وزارة الأسرى والمحررين في غزة.
وتنقّل المدهون خلال سنوات أسره -التي امتدت من عام 1988 إلى 1999- بين سجون كثيرة، وكان في كل مرة ينتابه الشعور ذاته من الغربة وتجدد المعاناة، ويقول “المعاناة تمتد أيضا إلى الأهل، بتعمد الاحتلال عدم إخبارهم بمكان السجن الجديد، وتفشل زيارتهم بعد تكبدهم عناء السفر منذ ساعات الفجر الأولى”.
تزامنت سنوات اعتقال المدهون إبان الانتفاضة الأولى (1987-1993)، وآنذاك كانت آلية النقل تتم بالنداء فجأة على الأسير عبر مكبرات الصوت، لتحضير نفسه بشكل مفاجئ للنقل إلى وجهة غير معلومة.
وتنتهج سلطات الاحتلال هذه الآلية -حسب المدهون- عن قصد بهدف “إرباك الأسير، وكأنها تدفع به إلى المجهول، والطريق من سجن إلى آخر هو رحلة عذاب ومعاناة قد تمتد لأكثر من 15 ساعة”.
وفي أحيان كثيرة قد تمتد الرحلة لساعات أو لأيام بتعمد “وحدة النحشون” المسؤولة عن عملية نقل الأسرى تأخير الوصول إلى السجن المحدد ووضعهم في ما يسمى “المعبار”، وهو بمثابة سجن مؤقت لا تتوفر فيه أبسط مقومات الحياة الإنسانية، وفقا للمدهون.
البوسطة
وتستخدم سلطات الاحتلال سيارة حديدية كأنها “سجن متنقل” يطلق عليها “البوسطة” في عملية نقل الأسرى، سواء من سجن إلى آخر أو من السجن إلى المحكمة.
وبعد سنوات من تحرره من السجن لا يزال المدهون يتذكر جيدا هذه السيارة، ويسترسل في وصفها بأنها عبارة عن شاحنة حديدية بكل مكوناتها الداخلية، حتى المقاعد المخصصة للأسرى، وشبابيكها صغيرة، ويغطيها شبك حديدي لحجب الرؤية، وتقسم هذه الشاحنة إلى 3 أقسام يفصل بين كل منها قاطع حديدي، القسم الأمامي مخصص للسائق ومرافقه، والجزء الأوسط للأسرى، والجزء الخلفي للحراس.
وقال المدهون إن الأسير معرض خلال عملية نقله لكل صنوف العذاب، حتى الاعتداء الجسدي من “وحدة النحشون” التي لا تنطبق عليها قوانين مصلحة السجون على ما فيها من سوء وعدم إنسانية بالتعامل مع الأسرى.
وللأسير المحرر منتصر الناعوق تجربة خاصة داخل البوسطة لا تزال تترك أثرها على جبينه.
ويقول الناعوق للجزيرة نت إن سائق البوسطة -التي يصفها بأنها “أسوأ من السجن”- يتعمد القيادة بتهور لإلحاق الضرر بالأسرى “وفي واحدة من عمليات التنقل الـ12 التي تعرضت لها خلال 3 سنوات من الاعتقال في سجون الاحتلال نزفت دما جراء جرح لا يزال أثره في جبيني حتى اليوم”.
واعتقل الناعوق في سجون الاحتلال عام 2008 حتى 2011، وقال “بشكل مفاجئ تبلغ إدارة السجن الأسير بقرار نقله دون تحديد وجهته، وفي الموعد المحدد تقوم بتكبيل يديه وساقيه بأغلال من حديد، وتلقي به في البوسطة، في رحلة طويلة نحو المجهول”.
ودلالة على أن معاناة النقل تتجاوز الأسير نفسه وتمتد إلى أسرته وذويه يروي الناعوق أن زوجة الأسير عبد الله البرغوثي -وهو أحد أبرز قادة كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- اتصلت به قبل فترة وهي لا تعلم إلى أين نقلوا زوجها، واستمرت في حالة من القلق عليه لشهرين، قبل أن يتبين لها أنه في سجن عسقلان.
تأثيرات النقل
يواجه الأسير خلال عملية النقل أصنافا مختلفة من المعاناة تبدأ من القلق على مصيره مرورا بسرقة ومصادرة أمتعته الشخصية، وحتى الاعتداء الجسدي عليه داخل البوسطة، وصولا إلى سجن لا يعرف فيه أحدا، ليعاني “فترة من العزلة وعدم الاستقرار” قد تطول أو تقصر بحسب ظروف هذا السجن وإدارته وقوانينه، إلا إذا كان من ذوي الأحكام العالية وخاض التجربة مرارا وجعلته وجها مألوفا في كل السجون.
ويترك أسرى المؤبدات الذين اعتادوا التنقل الجبري “حقيبة بمستلزمات شخصية أساسية” في كل السجون، لشعورهم الدائم بعدم الاستقرار، ويكون لهؤلاء أصدقاء وزملاء في مختلف السجون، فيما احتاج الناعوق إلى 6 أشهر من أجل التعرف على زملائه الجدد من الأسرى لدى نقله إلى سجن بئر السبع.
وعملية النقل ليست واحدة في كل الحالات، وبالإضافة إلى النقل المفاجئ المعرض له أي أسير داخل سجون الاحتلال هناك تنقلات دورية خاصة بأسرى الأحكام العالية، ويقول الناعوق “بعد عملية نفق الحرية وهروب الأسرى من سجن جلبوع أقرت مصلحة السجون سياسة تنقلات لأسرى المؤبدات من غرفة إلى غرفة كل 4 أشهر، ومن قسم إلى قسم داخل السجن نفسه كل 16 شهرا، ومن سجن إلى سجن كل 32 شهرا”.
ورغم أن الأسرى واجهوا هذه السياسة بحزم ونجحوا في إبطالها إلى حد كبير بحق “أسرى المؤبدات” فإنه منذ تولي بن غفير وزارة الأمن القومي في الائتلاف الحاكم المتطرف في إسرائيل قبل بضعة أسابيع تشهد السجون “حالة من الغضب والغليان” مع تشديد الإجراءات وظروف الاعتقال، وأشدها سياسة التنقلات، حسب مدير الإعلام في وزارة الأسرى والمحررين بغزة إسلام عبده.
لجنة طوارئ
وإدراكا من الأسرى لخطورة المخططات التي تحيكها ضدهم الحكومة الإسرائيلية المتطرفة برئاسة بنيامين نتنياهو -والتي كانت قضيتهم أحد محاور مفاوضات الأحزاب اليمينية المتشددة لتشكيل الائتلاف الحاكم، حتى مطالبة بعضها بإقرار قانون الإعدام بحقهم- بادر الأسرى إلى تشكيل “لجنة الطوارئ العليا” لمجابهة هذه المخططات.
وقال عبده للجزيرة نت إن هذه اللجنة تضم قيادات الأسرى من مختلف القوى والتنظيمات، ولدى الأسرى أوراق قوة للمواجهة “وليس لدى الأسير ما يخسره، فسياسة التنقلات المتصاعدة بناء على أوامر بن غفير بالتنكيل بالأسرى وإرباك حياتهم والتضييق عليهم قد تؤدي إلى انفجار السجون وانتقاله إلى مختلف الساحات”.
ويقبع في سجون الاحتلال زهاء 4700 أسير فلسطيني، بينهم 150 طفلا و29 امرأة ومئات المرضى وأصحاب المؤبدات والمحكوميات العالية، حسب احصاءات فلسطينية.