تعاطي العلاج نفسه رغم استمرار المرض | آراء
في كتابه “فقه الاقتصاد العام” الطبعة الأولى الصادرة عام 1990، ذكر المؤلف يوسف كمال أبرز نقاط وصفة صندوق النقد الدولي للدول في تعويم سعر الصرف ورفع أسعار الفائدة وإلغاء الدعم، وبالنظر إلى بيان مجلس مديري الصندوق بشأن الموافقة على إقراض مصر الصادر في 16 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي بعد 32 عاما من صدور الكتاب؛ نجد المطالب نفسها من مصر: سعر الصرف المرن الدائم، ورفع سعر الفائدة، وخفض الدعم بكافة صوره.
إلى جانب بعض المطالب الأخرى الخاصة ببيع الأصول، وتقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي، وتسهيل النمو بقيادة القطاع الخاص، وخفض المصروفات في الموازنة، وزيادة الإنفاق الاجتماعي، والإفصاح والشفافية؛ وكلها مطالب سبق طلبها في الاتفاقيات السبع السابقة مع مصر، التي بدأت منذ عام 1962، والتي كان خفض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار قاسما مشتركا في كل تلك الاتفاقيات.
إذا كانت تلك وصفة الصندوق للعلاج فما الأوجاع المزمنة للاقتصاد المصري؟
هنا يتصدر العجز في الميزان التجاري السلعي كفرق بين الواردات والصادرات نتيجة ضعف نسب الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية والوسيطة وتامة الصنع، وهو مرض يمتد منذ عام 1940 حتى الآن، ولم ينقطع طوال تلك العقود سوى في عامي 1969 و1973 لأسباب تتعلق بالصفقات المتكافئة.
ونظرا لكبر حجم العجز التجاري فقد استوعب الفائض بالميزان التجاري الخدمي وتدفقات تحويلات المغتربين والمعونات الخارجية، ليتحقق عجز شبه دائم وكبير بميزان المعاملات الجارية، وكذلك عجز حقيقي بالميزان الكلي للمدفوعات؛ الأمر الذي انعكس على زيادة الدين الخارجي، وأدى ذلك إلى التراجع المستمر لسعر صرف الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية.
ادخار محلي أقل من الاستثمار المحلي
المشكلة المزمنة الثانية هي العجز الواضح بين الادخار المحلي والاستثمار المحلي، وهي مشكلة تمتد لعقود منذ السبعنيات من القرن الماضي -حسب البيانات المتوفرة- وحتى الآن، وإن كانت حدتها زادت خلال السنوات العشر الأخيرة، فبعد أن كانت الفجوة بين نسبة الادخار المحلي إلى الناتج المحلي الإجمالي، ونسبة الاستثمار المحلي إلى الناتج المحلي الإجمالي خلال العقد الأول من الألفية الجديدة تتراوح بين 1.6% كأدنى معدل و6.9% لأعلى معدل؛ زادت النسبة خلال العقد الثاني إلى ما بين 4.1% كأدنى معدل و13.3% كأعلى معدل، وها هي الفجوة تصل في العام المالي 2020-2021 إلى 9.2%، كفرق بين نسبة الادخار المحلي للناتج البالغة 3% ونسبة الاستثمار المحلي للناتج البالغة 12.2%، وهو ما يشير أيضا إلى تدني كلتا النسبتين مقارنة بالعديد من الدول النامية.
المشكلة الثالثة الرئيسية هي العجز المستمر والمتزايد في الموازنة، والمستمر بلا انقطاع منذ العام المالي 1991-1992 وحتى الآن، والذي ترتب عليه استمرار ارتفاع الدين العام المحلي، وزيادة النصيب النسبي لفوائده وأقساطه بالإنفاق العام حتى وصلت في العام المالي الحالي إلى 54%؛ الأمر الذي انعكس على ضعف الإنفاق على الخدمات العامة، مما نجم عنه تردي مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والمرافق، وتزايد معدلات الفقر والبطالة.
رفع الفائدة علاج لمرض غير موجود
إذا كنا قد ذكرنا أبرز المشكلات المزمنة بالاقتصاد وأبرز ملامح وصفة علاج الصندوق، فماذا حدث ونتوقع حدوثه مع تكرار مكونات العلاج نفسها مع المشكلات المزمنة ذاتها؟
لنبدأ برفع سعر الفائدة حيث يرى الصندوق أنه الوسيلة الناجعة لسحب السيولة من السوق، لتقليل الطلب؛ وبالتالي مواجهة معدلات التضخم المرتفع، وهو علاج ربما يصلح للمجتمعات الغربية مثل الولايات المتحدة التي قدمت منحا للجمهور خلال أزمة فيروس كورونا، تسببت في زيادة الطلب بعد تراجع معدلات الإصابة بالفيروس، لكن الحالة المصرية مختلفة بكل تأكيد.
فبدلا من أن تقدم الحكومة المصرية منحا للجماهير خلال أزمة كورونا، قامت بخصم نسبة من أجور العاملين بالحكومة ومن المعاشات بشكل إجباري، تحت مسمى المساهمة في مواجهة تداعيات كورونا، كما أن الأسواق المصرية تعاني من الركود من قبل ظهور كورونا، وبالطبع زادت حدة ذلك الركود مع كورونا.
وأعقب ذلك ظهور عوامل أخرى زادت حدة الركود أكثر، منها ارتفاع الأسعار العالمية عام 2021، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على أسعار الوقود والغذاء، وتداعيات قرار البنك المركزي المصري في فبراير/شباط الماضي بتقليل الواردات، وأزمة نقص الدولار.
من هنا فقد وصف الصندوق العلاج الخطأ، حيث تسبب ارتفاع أسعار الفائدة المصحوب بإجبار البنك المركزي على إلغاء بعض مبادرات الإقراض المخفض ونقل باقي المبادرات إلى وزارات أخرى وبأسعار فائدة أعلى؛ إلى جعل القطاع الإنتاجي يعاني من عدة مشاكل مركبة، تشمل نقص المواد الخام ومستلزمات الإنتاج ونقص الدولار، وظهور السوق السوداء التي يقوم كثيرون بتسعير منتجاتهم على أساسها وارتفاع سعر الفائدة.
مع قيام بعض البنوك بإصدار شهادات إيداع بفائدة تراوحت بين 22.5 و25%، فقد زاد ذلك من أعباء تكلفة التمويل التي يتم تحميلها على المنتجات النهائية، مما يرفع أسعار السلع وبما يزيد التضخم، في وضع معاكس لما استهدفه الصندوق من رفعها.
إلى جانب تفضيل بعض المنتجين تقليل الإنتاج والاتجاه بأموالهم لتلك الودائع المصرفية عالية الفائدة والخالية من المخاطر، بما يقلل الإنتاج ويفتح المجال لتعويض ذلك النقص الاستهلاكي من خلال الواردات، وهي الواردات القادمة بأسعار صرف عالية بما يؤدي أيضا إلى زيادة التضخم.
مزاعم استفادة الصادرات والاستثمار لم تتحقق
تتعدد الآثار السلبية لرفع الفائدة على العديد من القطاعات، مثل التمويل غير المصرفي وصناديق الاستثمار النقدية والقطاع العقاري وغيرها، حيث تسبب الرفع المتكرر للفائدة والمتوقع استمراره خلال الشهور المقبلة إلى تضرر أنواع التمويل غير المصرفي بداية من التمويل الاستهلاكي والتمويل العقاري والتمويل الصغير ومتناهي الصغر والتأجير التمويلي والتخصيم.
بالفعل تراجعت قيمة نشاط التمويل العقاري خلال شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني الماضيين مقارنة بالشهرين نفسيهما من العام الأسبق، وشهدت صناديق الاستثمار النقدية ذات الدخل الثابت تخارج كثير من المستثمرين الأفراد للتحول للشهادات ذات العائد الأعلى.
أما سعر الصرف المرن الدائم فقد ارتبط بانخفاض متكرر في سعر الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية، مما يزيد تكلفة السلع المستوردة في مجتمع يستورد قطاع الصناعة به أكثر من 60% من احتياجاته من المواد الخام والسلع الوسيطة والسلع الاستثمارية من آلات ومعدات، وذلك بخلاف النفط الذي يتم استيراد ثلث احتياجات البلاد منه، الأمر الذي يرفع تكلفة المنتجات ويقلل تنافسيتها في الداخل والخارج، وهو ما يتعارض مع مزاعم الصندوق من أن انخفاض قيمة الجنيه وما يعقبه من رخص المنتجات المصرية سيسهم في زيادة الصادرات.
حيث لم تزد الصادرات بعد خفض الجنيه عام 2016 بنسب كبيرة، وكانت زيادتها في العام الماضي والأسبق بسبب ارتفاع الأسعار العالمية، كما استفادت الصادرات المصرية من تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية التي زادت أسعار الغاز الطبيعي والأسمدة.
والأمر نفسه ينطبق على مزاعم الصندوق بأن انخفاض سعر صرف الجنيه سيجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وهو أمر لم تؤكده السنوات التالية لخفض الجنيه عام 2016، مع تركز الاستثمارات المباشرة الواردة على مجال النفط والغاز الطبيعي.
وهو أمر طبيعي حيث إن الاستثمار الأجنبي سيجد أمامه مناخا استثماريا تسبب في تقلص نشاط القطاع الخاص، بسبب المنافسة غير العادلة مع شركات الجهات السيادية، ويتم سجن رموز رجال أعمال من دون محاكمة، وبنوك تزاحم الحكومة القطاع الخاص على أموالها لسد عجز الموازنة، وفرض رسوم قومية ومحلية لا ينقطع، ونسبة تضخم مرتفعة، وتصنيف ائتماني غير استثماري، ونظرة مستقبلية سلبية من قبل وكالتي موديز وفيتش.
كما يتسبب كل من زيادة سعر الفائدة وتراجع سعر الصرف في زيادة عجز الموازنة، حيث يتسبب ارتفاع النصيب النسبي لفوائد وأقساط الدين الحكومي من الإنفاق بالموازنة في انخفاض نصيب باقي أبواب الإنفاق خاصة الاستثمارات الحكومية، وشراء السلع والخدمات اللازمة للجهات الحكومية المتعددة بما يؤخر سداد الحكومة ما عليها من التزامات للشركات المتعاملة معها.
برنامج إصلاح مصري يخالف اتفاق الصندوق
ونتيجة لكل ما سبق، نادى عدد من الخبراء ببرنامج إصلاح مصري جديد، بالتوازي مع البرنامج المتفق عليه مع الصندوق خلال السنوات الأربع المقبلة؛ برنامج يركز على الإصلاح الهيكلي وليس فقط على الإصلاح النقدي والمالي، ويهتم بالقطاعات الإنتاجية، خاصة الصناعة والزراعة، ويغدق عليها الحوافز، ويوجه إليها الموارد اللازمة كأولوية مجتمعية، لتوفير جانب ملموس من المنتجات المستوردة، بما يقلل الواردات ويزيد الصادرات، ويقلل العجز المزمن في الميزان التجاري؛ الأمر الذي يقوي مركز العملة المحلية أمام العملات الأخرى.
مع إعادة النظر في المشروعات القومية التي استنزفت موارد البلاد الدولارية، وزادت ديونها الخارجية والداخلية، وتجميع كافة الجهات العاملة بالبلاد تحت مظلة الموازنة العامة للدولة تحقيقا لمبدأ وحدة الموازنة، وقيام كل الجهات -مهما كانت جهة تبعيتها- بأداء ما عليها من التزامات ضريبية ورسوم، بما يزيد الإيرادات التي تساعد على زيادة الإنفاق الاجتماعي، ودعم الشرائح الفقيرة، حيث لا تخلو موازنة دولة أوروبية من وجود الدعم بين أبواب إنفاقها.
برنامج يستهدف سعر فائدة منخفض لتشجيع المنتجين مثلما فعلت دول اليورو بخفض سعر الفائدة إلى الصفر لسنوات لمواجهة الركود وتداعيات كورونا، ويشجع المنتجات المحلية ويعطيها الأفضلية بالمشتريات الحكومية التي تمثل المشتري الأكبر في الأسواق، ويزيد نسب الاكتفاء من المنتجات الزراعية بما يقلل الاستيراد ويزيد الصادرات، وهو ما سينعكس على التشغيل وامتصاص البطالة.
هذا سيساعد بالضرورة على تحسن الدخول وإمكانية زيادة المدخرات في حالة استقرار الأسعار، بما يوفر سيولة المصارف لتمويل الاستثمار المحلي، ويستهدف مواجهة المشاكل المزمنة للاقتصاد، بما يقلل أعداد الفقراء، بعكس برامج الصندوق التي تسببت بشكل عملي في زيادة معدلات الفقر.